حاولت وتُحاول حركات الإصلاح المعاصرة أن تجيب على الإشكالات المتسارعة التي تعيشها مجتمعاتها، من خلال إبداع مقولات تغييرية ومشاريع إصلاحية، غير أن أغلب هذه المشاريع لم تحقق كل أهدافها، ولم تنجز كل برامجها لأسباب كثيرة ذاتية وموضوعية، داخلية وخارجية، ولا شك أن من بين أهم عوامل الإخفاق، هو فقدان الوعي السنني(1)، إنْ على مستوى التنظير أو الممارسة قيادة وأعضاء، أو على مستوى التطوير والمراجعة. وهذا لا يعني أننا نعمم هذا الحكم، بل يمكن أن نتلمس بعض مظاهر الريادة في تنزيل مقتضيات الوعي السنني عند بعض المشاريع الإصلاحية مشرقًا ومغربًا، وكيف أن استثمارها لمبدأ السننية والعمل بمقتضياته، أسهم في الرفع من فاعليتها الإنجازية وتحقيق أهدافها المرحلية والإستراتيجية.
“الوعي السنني” الإدراك الحقيقي للأنظمة والنواميس والقوانين الثابتة، التي أودعها الله تعالى في كل مفردة كونية لكي تؤدي وظيفتها الذاتية والكونية بانتظام، والانتقال بهذه السنن من دائرة الإهمال إلى دائرة الإعمال.
ما المقصود بالوعي السنني؟
نقصد بـ”الوعي السنني” الإدراك الحقيقي للأنظمة والنواميس والقوانين الثابتة، التي أودعها الله تعالى في كل مفردة كونية لكي تؤدي وظيفتها الذاتية والكونية بانتظام، والانتقال بهذه السنن من دائرة الإهمال إلى دائرة الإعمال(2). والسننية بهذا المعنى، من أهم مفردات التصور الإسلامي وخصائصه كما أصلها القرآن الكريم وجسدتها السنة والسيرة النبوية. ويكفي أن الله تعالى أمر المسلمين باستنباط والاعتبار بالسنن المؤطرة للنهوض والسقوط الحضاري، من خلال السير في الأرض، والنظر في تجارب السابقين مؤمنين ومكذبين، قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ* هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)(آل عمران:137-138).
ويبين سبحانه وتعالى بأن هذه السنن مترابطة يخدم بعضها بعضا بشكل مطرد ثابت مستمر لا يتبدل ولا يتغير ولا يتحول، قال تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً(فاطر:43)، ويقول سبحانه وتعالى: (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً)(الإسراء:77)، وغيرها من الآيات والشواهد كثير. فقد وردت لفظ “سنَّة” ثماني عشرة مرة في القرآن الكريم.
ومن ثم كان العدول عن التعامل مع السنن الجارية واكتشاف قوانين التسخير، إلى السنن الخارقة وانتظار المنقذ القادم من الغيب ليعالج التخلف والتأخر والتمزق، ويملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورًا وظلمًا. وفي هذا ما فيه من مجافاة للعقل المسلم والإنجاز الحضاري في عصر النبوة(3)، عصر السعادة والأسوة.
من معالم الوعي السنني
أ- امتلاك رؤية إستراتيجة للإصلاح، تنطلق من قيمنا الذاتية وتجربتنا الحضارية، عبر قراءة منهاجية لنصوص الوحي، وتفسير موضوعي لأحداث التاريخ، واستيعاب مستبصر لمعارف العصر ومستجداته.
حاولت وتُحاول حركات الإصلاح المعاصرة أن تجيب على الإشكالات المتسارعة التي تعيشها مجتمعاتها، من خلال إبداع مقولات تغييرية ومشاريع إصلاحية.
بـ- العمل بمبدأ المشاركة والتلطف والتعاون على الخير في البناء والإصلاح. وفي هذا الصدد نستحضر الحديث النبوي الصحيح الذي يؤسس لهذا المعلم السنني: “مثَل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إن أرادوا الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا” (رواه البخاري). ففي الحديث الشريف تصوير بلاغي دقيق لسنن الله تعالى في التشارك والتلطف والتعاون على الخير.
جـ- التدرج في الإصلاح والتروي في تغيير الواقع وعدم الاستعجال. فهذا عبد الرحمن الكواكبي يؤصل لهذا المعلم من خلال قوله: “إن الاستبداد لا يقاوم بالشدة، إنما يقاوم بالحكمة والتدريج”(4).
د- الجمع بين الفكر والفعل في السلوك الإصلاحي، حتى لا تكون الأفعال قبورًا للأفكار، يقول الأستاذ فتح الله كولن في كلام نفيس: “دستورنا في هذا الصدد أن الأفكار التي تسري في مفاصل الحياة المعيشة، هي التي تستحق الحياة”(5)، ويؤكد هذا المعنى بقوله: “يعيش قسم من البشر من غير ممارسة للفكر، وقسم آخر منهم يفكر، ولكن لا يعكس فكره على واقع الحياة فقط، أمّا ما ينبغي فهو أن يعيش الإنسان وهو يفكر، وأن يبتكر أنماطًا فكرية جديدة إذ يعيش، فيتفتح على آفاق مركبات فكرية مختلفة(6).
إذن، إن الوعي السنني ضرورة منهاجية لترشيد مشاريع الإصلاح وتقصيد فاعليتها الحضارية.
(*) كاتب وباحث مغربي.
الهوامش
(3) القرآن والعقل، المقرئ أبو زيد الإدريسي، الجزء الأول، ص:52 وما بعدها.
(2) مقدمة في المنظور السنني لدراسة السيرة النبوية، الطيب برغوث، ص:9.
(3) حتى يتحقق الشهود الحضاري، عمر عبيد حسنة، ص:10.
(4) طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي، ص:182.
(5) طرق الإرشاد في الفكر والحياة، محمد فتح الله كولن، ص:87.
(6) ونحن نقيم صرح الروح، محمد فتح الله كولن، ص:120.