لا شـك أن كل شهر من شهور رمضان رفرف بطعمه الخاص فوق رؤوسنا بصوت رقيق كرفرفة أجنحة الملائكة، وأهدى لنـا نورًا من أنواره التي قد نستطيع حدسها أو لا نستطيع، ثم ودعنا ورحل.الآن هناك الكثير من الضغوط وأنواع من الإكراه والظلم والتحكم والاستبداد، مما يسَّر لنا إمكانية اكتشاف ذاتنا.
والقلوب اليقظة التي تستطيع سماع هذا الصوت في أعماق وجدانها تكون كمن تهرع على الدوام نحو ساعة حظها وسرورها، وكأنها تتوجه نحو شـهر رمضان الذي يحمل معه بشرى الولادة الأبدية وتنصت إليه.
أحيانًا يكون الإنسان -حسب تلك الأحوال- مرتبطًا بالمعاني التي تلهمها تلك الأيام وتلك الليالي، فيحس بهدوء وراحة وكأنه يعيش حياة متناغمة وموزونة وكأنه قد انفصل من جو هذا العالم المملوء فسادًا وتلوثًا.
هذا الفساد الذي يبعث القيء في النفوس. كأنه يمشي بكل فرح نحو أفق مشرق مملوء بالأمل، لا يرى من حوله سوى لوحات الجمال والفرح، ويرى الحياة التي يعيشها مملوءة بالنظام. كأنه طير سابح في الفضاء بكل هدوء وراحة لا يعكر صفوه أحد.
وأحيانًا يعيش انهزامًا داخليًّا وكأنه في نهاية خريف الأمل والبهجة، قد تصدعت إرادته، وانكسرت عزيمته وضاق أفق أمله، وبهت روحه، وبدأ بالتفكك والانحلال داخليًّا، وبينما كان بروحه ومعنوياته طيرًا سابحًا في الأعالي إذا به يخلد إلى الأرض.
والآن هناك الكثير من الضغوط وأنواع من الإكراه والظلم والتحكم والاستبداد، مما يسَّر لنا إمكانية اكتشاف ذاتنا. أجل!.. فكما يشعر من يحمل في كل عضو من أعضائه جرحًا أو ألمًا شعورًا قويًّا وحادًّا من الألم، أي يشعر بالألم في كيانه كله، كذلك حالنا نحن الذين نعيش منذ سنوات عهدا من الظلم والتحكم والطغيان والغدر، فقد أدّى هذا إلى انتشار وعي صامت ولكنه عميق… وعي تدريجي ولكنه مستمر وقوي ومتصف بالعزم بأن الحق لا يُهدى ولا يُتفضل به، ولا يُتصدق به من قبل أحدهم.
لذا نمدّ إلى شهر رمضان أيدينا في جو من الإشراق الروحي لكي يفتح لنا بابًا نحو أيام جديدة مضيئة للمستقبل، ولكي نتوجه ونرجع إلى ذاتنا وهويتنا بشكل يشبع العين والقلب، وبِصَمْت الأنهار الجارية بهدوء وبمهابة، وبرقة النسائم المنعشة التي تهبّ بكل رفق. والذين يشاركوننا هذه العاطفة والفكر يكتفون أحيانًا بالتمهل والانتظار مع أنهم يملكون قابليات كبيرة وإمكانات واسعة في مجالات عدة مثل الطائر الذي يظل محلقًا في مكانه بتوازن دون أن يرفّ بجناحيه، وأحيانًا لا يستعملون -لحكمة ما- العديد من البدائل المتاحة لهم، ويفضلون انتظارًا فعالاً وليس انتظار غفلة. ونراهم أحيانًا وهم يتوجهون بحيطة وجدية تفوق ما كنا ننتظر منهم نحو المبادئ التي عشقوها وارتبطوا بها بقلوبهم.
يتوجهون إلى الله تعالى بالصوم وبصلاة التراويح وبالعبادة مثل توجه الملائكة الكرام… يتوجهون دون توقف بكل إخلاص وبذلّة شديدة وبرقة بالغة…
هل أنت من أبطال رمضان؟
يتوجهون إلى الله تعالى بالصوم وبصلاة التراويح وبالعبادة مثل توجه الملائكة الكرام… يتوجهون دون توقف بكل إخلاص وبذلّة شديدة وبرقة بالغة… الدموع في أعينهم… والرجفة والخشية في صدورهم.
هؤلاء الأبطال الذين ينشرون النور والضياء حتى الصباح مثل الشموع المحترقة، ويجاهدون ويحاربون الظلام، والذين تركوا أمر العيش من أجل النفس ونذروا أنفسهم من أجل العيش لهداية الآخرين… هؤلاء بيدهم وسائل ووسائط نفخ في روح هذه الأمة وفكرها، وبالبراهين المستخلصة من لب وعصارة ماضينا، لا يفترون عن محاولة إعادة تلك الأيام المجيدة دون يأس أو كلل. ونحن نثمن جهودهم هذه بجهود أولي العزم من الناس… هذه الجهود المباركة تجعل من وقتهم وزمانهم هذا زمنًا سامِيًا، وليس كشريط زمني قصير ومحدود. فمن ناحية ماهيته ولبّه وجوهره وبالألطاف الإلهية المنهمرة عليهم يصبح هذا الزمن متصلاً بأقدم القديم وبالعهد الذهبي المجيد من ماضينا من جهة، ومن جهة أخرى ممتدًّا نحو الأبدية. حتى إننا لو نظرنا إليه بنظرة الروح المرتفعة فوق الزمان والمكان، ورصدناه بمرصد الروح، لرأينا بكل بهجة ودهشة كيف أن العديد من المستحيلات تتحقق بفضل الإيمان، وتتم به.
من يدري كم من الأمور المخفية والسرية تكشف عنها كلَّ يوم مثلُ هذه الرؤى، وتفتح الأبواب المطلة على الحقائق أمام الذين يملكون مثل هذه الأسباب، وتهديها لنا، وتنفث الانشراح والبهجة في قلوبنا المهمومة، وتنقذنا من الارتباط بأنفسنا وبأحوالنا، وتنقلنا إلى الجو المتفائل للإيمان وللأمل.
المصدر: كتاب ترانيم وأشجان القلب للأستاذ فتح الله كولن