لم يعش العالم الإسلامي منذ نشأته وفي أي عهد من عهوده، وضعًا مزريًا كالذي يعيشه اليوم، ولم تصبه حالة من ضيق الأفق كالتي تعتريه الآن.. والأدهى من ذلك افتقاده القدرة التي تؤهله لإدراك البون الشاسع بين موقعه الحالي وما ينبغي أن يكون عليه، بَلْهَ أن يُقوّم هذا الفرق أو يبحث عن أسبابه.
إنه يعيش حالة من الكسل وراحة البال، لا يؤرقه فيها مخاض فكري، ولا يقدِّم رؤية بنّاءة، وليس لديه مشروع ينهض به من كبوته تلك، ولا تَهيج في صدره مشاعر للتغيير.. قد خبا في قلبهه شوقُ الحياة ونبضُها، كأن طبقة ضبابية كثيفة من الغفلة واللامبالاة قد أحاطت به من كل جانب.. لا يملك -إن استثنينا رغباته الجسدية- أيَّ أمل أو تطلع إلى المستقبل. أصبح أحيانًا حارسًا للجبارين، وأحيانًا أخرى متسوِّلاً على الطراز الحديث، أو متلوّيًا في قبضة الفقر والحاجة، أو في حالة يُرثى لها من الجهل والتعصب.
لم يعد العالم الإسلامي مهتمًّا بما أمر به الدين من التمسك بالفضيلة، والعيشِ في كرامة، والانفتاح على العلم، وقراءة الوجود قراءة صحيحة، والتنقيب في أرجاء الكون بكل دقة، وتفسيرر السنن الكونية والتشريعية أفضل تفسير، وتقويمها أحسن تقويم. وإنْ وُجدت فئة قليلة تُعنى بهذه الأمور وتراعي هذه السنن، تُسدّ أفواهها وتُمنع من الكلام، ويُحجَب الناس من الإنصات إليها.
إن هذا العالم لا يمكن أن ينجو من هذه الوهدة السحيقة التي سقط فيها، إلا على أيدي أناس تربّوا على قيمهم الأصيلة، ذوي أرواح فتيّة وعقول متوقّدة، نذروا أنفسهم للحق تعالى.
لقد غدت السفاهات التي استُوردت من الخارج مِن أكثر الأمور رغبة وانتشارًا، حُشدت الوسائل التكنولوجية وكُثفت الحملات لترويجها، وراحت الجماهير السائبة تعيش حالة من التشوش والذهول، وباتت أجيال من الشباب تتردى في شباك الفحش والرذيلة وإدمان المخدّرات، تولّي وجهها نحو التفسخ والانحلال تحت مقولة: “دعني أعشْ على هواي”.
عندما ينظر الإنسان إلى قوة الإسلام الديناميكية وثرائه، يود أن يرى كل جانب من جوانب العالم الإسلامي معمورًا، وكل مدنه قِطعًا من الجنان، شبيهة بالفردوس حواضرُه وقراه، مفعمًا بالأملل والسعادة أُناسُه، قد شغلتهم حمّى البحث عن الحقيقة، يقضون أوقاتهم بين الكتب والمختبرات، اختزلوا ساعات نومهم ولهوهم في سبيل البحوث والتدقيقات، ووهبوا أرواحهم للحق تعالى.
ولكن الحقيقة المؤلمة، هي أن المأمول عكس الواقع المشاهَد تمامًا؛ فإن بحثتَ الآن في طول العالم الإسلامي وعرضه عن أصحاب تلك الأرواح التي عمَّرت الدنيا فيما مضى، فلن تجدد مثقفين على هذا النحو روحًا ومعنى، إلا أعدادًا تعدّ على أصابع اليد الواحدة، ولن تجد معماريين -باستثناء عدد قليل- يحاولون أن يعمروا ويرمموا جوانبنا المتصدعة والآيلة إلى السقوط.
لقد كان المتوقع من منتسبي هذا الدين أن يكونوا أسعد مَن في هذه الأرض وأكثرهم تفاؤلاً وأملاً، وأن يكونوا في الصفوف الأولى من العالم في كل مسألة، وأن يكونوا بعزمهم وإيمانهمم وثباتهم مرشدي العالم، يقدمون له المشاريع الكبرى، ويحلّون مشاكله. كنا نتوقع أن يزدهر العلم والمعرفة في بستانه، وأن يكون هو الأسوة الحسنة للعالم خُلُقًا وقيَمًا. كنا نتوقع أنه عندما يَرِد ذكر العدالة وسيادة القانون والحق وحرية الفكر والعقيدة، يخطر العالم الإسلامي على البال. ولكن هل هو كذلك اليوم؟ هيهات هيهات! لقد تعددت السهام المصوَّبة إلى إيمان المؤمنين فأصابته بجروح بالغة حتى تكسّرت النصال على النصال، وخارت القوى وانهدّت العزائم، وتكسّرت عندهم أجنحة الإرادة، وسُلّم العلمُ والعرفانُ رهينين للأيدولوجيات.
إن الكلام كثير حول الخلُق الرفيع، لكن الواقع يكذّب هذا الكلام. فالعدالة غدت سلعة تُباع وتشترى، وحقوق الناس باتت تحت تصرف القوى الغاشمة. أما الحرية والإخاء والمساواة فخيال صعبب المنال، وتوقير الإنسان والقيم الإنسانية أصبحت مجرد مواضيع ميتة تطرح في قاعات المؤتمرات وصالات الندوات فقط.
إلى جانب هذا كله، فالعالم الإسلامي -الذي يشغل موقعًا جغرافيًّا واسعًا -متأخر إلى درجة كبيرة في العلم والتكنولوجيا والفن والتجارة. أما مكانتنا في العالم فحدّث ولا حرج.
ولو كنا -في ظل كل هذه السلبيات- في سلام واتفاق فيما بيننا، لهَان الأمر بعض الشيء، ولكن هيهات! فهذا العالم الكبير ينتج ويولد أشياء عجيبة لا يمكن التنافس فيها؛ ينتج الحقدد والكراهية والعداء وتشويه الآخرين، ويؤسس كل خططه على الخصومة والعداء.. وهذا دأب كل أمة فيما بينها. أجل، فمنذ سنوات عديدة صارت تقوية جبهات العداء والخصومة فيما بيننا هي شغلنا الشاغل، اخترعنا مخاطر وهْمية وعداوات مصطنعة، وفرّقنا بين الجماعات وزرعنا بينها الفتن؛ فحوّلنا هذه المساحة الجغرافية المباركة إلى وديان خوف وفزع وأرض رعب وذعر.
لم يعش العالم الإسلامي منذ نشأته وفي أي عهد من عهوده، وضعًا مزريًا كالذي يعيشه اليوم، ولم تصبه حالة من ضيق الأفق كالتي تعتريه الآن.
إن ديننا السامي يَعِدنا بسعادة الدارين، ويفتح أمام أعيننا فضاء إنسانيًّا رحبًا، ويمدّ حياتنا بما يزيدها خصبًا وانفتاحًا، إلا أن هؤلاء الغارقين في دنياهم لا يبالون بكل هذا، فلا ينفذ إليهم ذلك التأثير الساحر للإسلام، وليس هناك من أمارة على هذا التأثير. فكل ما نراه هو ضعف المؤمنين وقلة وفائهم، وخصومة الملحدين وشدة عدائهم. فإذا قمت بأي نشاط ديني فستتعرض لمواجهة الملحدين عند خطوتك الأولى، وسيكون إيمانك وعقيدتك، وآمالك وأفكارك الميتافيزيقية موضعًا للسخرية والاستهزاء في الخطوة الثانية، وستبقى عرضة للّوم والعتاب من بعض الفئات. وإذا دافعتَ عن الحوار وقبول الآخر والتسامح واحتضان الجميع، فستتوجه نحوك قذائف الطعن، وتنهمر فوق رأسك سيول التهديد من “خوارج العصر”. وإن عشت كما يأمرك دينك تعرّضت للهجوم من قِبَل بعض البؤر التي لم تقدّم حتى الآن أي شيء إيجابي، ولم يكن لها نصيب في أي نجاح، وتحاك ضدك المؤامرات تلو المؤامرات، ثم تتحول هذه الهجمات الشرسة من قِبَل الذين يهينون الدين والمتديّنين، ويشوهون ماضيك وتاريخك، ويستهينون بقيَمك الملّية والدينية، ويسبّون آباءك وأجدادك.. تتحول كل مظاهر هذا الانحراف والضلال وعدم التوازن إلى شراب سامّ، وإلى صديد يسيل في جوفك ويجرّعك آلام الغربة ولوعتها.
أمام كل هذه السلبيات، يقع كثير من الناس فريسة لليأس ويرددون دائمًا: “لا خير ألبتة في هذه الدنيا التي نحياها، ولن يكون المستقبل بأحسن حالاً”. وكثير من هؤلاء -أيضًا- يفقد الأملل تمامًا؛ فيرخي لنفسه العنان ويدَع نفسه للتيار، وهذا أمر طبيعي لكل من لم يتربّ على الإيمان وينشأ على الأمل.
أجل، إن كان كل ما يُبنى اليوم يُهدم غدًا، وإن كان المخلصون يُطارَدون كالمجرمين، وإن كان كل فرد يريد إقامة هذه الدنيا حسب أهوائه ورغباته، ويحطّم في هذا السبيل كل من يخالفه أو يختلف معه في آرائه وقيمه -وهذا ما يجري في هذا الجزء البائس من الجغرافيا منذ عصرين- فلن يبقى عند أحد أيّ أمل أو عزيمة.
إن من الغريب أن هؤلاء الجبابرة الأقزام، والمنافقين من حولهم الذين يرتابون من أي عمل منجَز باسم الدين والأخلاق والفضيلة، ومن كل خدمة إيجابية، ويتهمون كل من يقوم بأي نشاط بنّاءء في هذه الدنيا البائسة المنكودة الحظ، وينظرون إليهم وكأنهم جناة مجرمون.. من الغريب أنهم لا يرون الحالة المأساوية لدنيا المسلمين، وينسونها أو يتناسونها، بينما تسود في هذه المنطقة الجغرافية حالة رهيبة من الركود والشلل، فالأدمغة فيها لم تعد تنتج شيئًا منذ عصور، وكل مصادر القوة فيها معطلة؛ الخرائب في كل ناحية من نواحيها، والبوم ينعق فوق هذه الخرائب. والأنكى من هذا كله أنْ غدت هذه الدنيا العظيمة للمسلمين مأوى لعفونات العالم، وملجأ للعاطلين منهم والزَّمْنَى.
لقد عاين محمد عاكف (ت 1936) هذه الحالة المأساوية للعالم الإسلامي، وعبّر عنها في أبيات شعرية تُفتّت القلوب قائلاً:
يقولون ماذا رأيتَ وقد سحْتَ في الشرق كثيرًا؟
رأيتُ مدنًا مدمَّرة، بيوتًا مهجورة، أمة دون زعامة،
جسورًا مهدَّمة، قنوات مُخرَّبة، طرقًا دون مسافرين،
وجوهًا متغضنة، جباهًا دون عرَق، أياديَ مشلولة،
ظهورًا منحنية، أعناقًا ضامرة، دماء لا حرارة فيها،
رؤوسًا لا تفكر، قلوبًا لا تبالي، ضمائر صدئة،
استبدادًا غاشمًا، أَسْرًا ظالمًا، طغيانًا وإذْلالاً،
رياء وابتلاءات، أمراضًا وعللاً.
أئمّة دون جماعة، وجوهًا باسرة، جباهًا لا تسجد،
إخوانًا يقتلون إخوانهم في الدين باسم “الجهاد”،
مساكن خاوية، قرى فارغة، أسطحًا مهدَّمة؛
بكيت عندما مررتُ، بكيت عندما وقفتُ،
لا أحد يَسمع، لا أحد يتكلم، وطن يُرثى لحاله،
صراخ مئات الآلاف من الأعماق.
إلهي! أهذا العالم الذي أراه هو مهد الإنسانية؟
هل من هذه الصحاري انبثقت في التاريخ الحضارة؟
أكانت هذه البراري وطن التوحيد؟
أمِنْ فوق هذه الرمال -يا رب- ظهر الأنبياء؟
إن الكلام كثير حول الخلُق الرفيع، لكن الواقع يكذّب هذا الكلام. فالعدالة غدت سلعة تُباع وتشترى، وحقوق الناس باتت تحت تصرف القوى الغاشمة.
نعم، لكن هناك -في هذه الديار الحزينة- من لم يفقد عزمه وأمَله بعدُ، هناك أعداد لا بأس بها من عشّاق الحقيقة ومحبّي العلم، ورجالٌ نذَروا أنفسهم لخدمة الإيمان، يسعون إلى غايةة سامية.. ولكن ما يحز في النفس أنْ نرى أصواتهم تطغى على أفعالهم، ضجيجهم أقوى من أنشطتهم.. فصراخهم -وهم يقومون بفعالياتهم- ضرره أكثر من نفعه؛ يُفزِع غيرَ المؤمنين، ويزيد مخاوفَ الذين أحاطت بهم الأوهام والهواجس، ويدفع “كارهي الإسلام والنافرين منه” إلى التحرك ضده. فإذا بالأصوات الصاخبة ترتفع من كل جانب، ثم تَتَتابع الهمهمات والشكاوى، ثم يأتي وقت تبدأ فيه المخابرات الأجنبية وكتائب المرتزقة عملَها. وفي النتيجة يُدَمَّر كل ما بُني في السابق، تُقطع الطرق، وتُهدم الجسور، ويتراجع كل شيء إلى الوراء، وتُصَفَّى تلك النشاطات والخدمات كلها على مذبح الحقد والكراهية وطغيان العداء الأعمى. هذا هو ما جرى حتى الآن، فقد تشكلت معسكرات مختلفة في المجتمع نفسه، وحدثت نزاعات بين بعضها البعض، ثم تحولت بعد ذلك إلى تناوش بالأيدي حتى اختلطت جميع الأوراق.
إن العقل والحكمة والمعرفة أسسٌ مهمّة في الإسلام. فالتفكر والتدبر والاستدلال والاجتهاد من ضرورات المجتمعات الإسلامية. وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم أمته إلى اتخاذ سبيل العقل مرشدًا وهاديًا في ظل الوصايا القرآنية، ففي قوله صلى الله عليه وسلم: “قوامُ المرء عقلُه، ولا دين لمن لا عقل له” (شعب الإيمان للبيهقي)؛ دعوة لنا إلى استخدام العقل والمنطق في كل أمورنا. لقد كان دائمًا بجانب العلم، وكان يبجّل العلماء. فهو أول القائلين: “طلبُ العلم فريضة على كل مسلم” (رواه ابن ماجه)، وهو القائل أيضًا: “الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها” (الترمذي وابن ماجه). لقد حث النبي على العلم والحكمة مرارًا، وإن الآثار الواردة في هذا الشأن لتربو على المئات، ورغم حضّ النبي صلى الله عليه وسلم على هذا وتكراره المتواصل، فإنه لمن الغريب حقًّا أن نرى المسلمين -منذ عصور عدة- لم يستوعبوا هذا الأمر، ووضعوا بينهم وبين العلم والعرفان والفن حجابًا. بل الأمرُّ من ذلك أنهم خمدوا وأصيبوا بعقم فكري، ومالوا إلى السكون والراحة والدعة، وبلغوا مرحلة من الغفلة لم توقظهم منها حتى طَرَقات المستعمرين وسيطرة المحتلين. وبلغ الأمر حدًّا أنه رغم وصاية الآخرين عليهم، لم يتحركوا حتى يكتشفوا ما يجري حولهم، وبات معظمهم لا يعرف الحقيقة، ولا يملك ميلاً للبحث عنها، ولا عشقًا لها، كما لا يراود أكثرَهم شعور بالخجل أو الحرج لكوننا عالة على غيرنا في مجال العلم والتكنولوجيا، والقلة الباقية لا يكاد يُسمع لها صوت.
أما عبوديتنا لله تعالى ومستوى إخلاصنا في الإيمان، فهي ليست أقل سوءًا من سلبياتنا الأخرى. فقد تحولت عباداتنا إلى طقوس فولكلورية، وإلى مجرد تقليد من التقاليد. ولو كنا نوقرر التقاليد لخُفِّفت عنا بعض أوزارنا، ولكن هيهات!
في وضع كهذا، هل يمكن استيعاب جوهر الإسلام؟ وهل للحديث عن الفهم الصحيح لقوانين الإسلام التشريعية، أو استيعاب أسسه التكوينية وفقهها وتفسيرها والإحاطة بها أيّ جدوى؟ لذاا فإن أول ما نحتاج إليه في هذه المنطقة المظلمة التي تعيش فيها مجموعاتٌ من المسلمين، فقَدتْ لونها وملامحها، وتشوهت فيها لغتُها ولهجتُها، هو إشعال جذوة العشق للحقيقة، وإحياء روح محبة العلم، وإيقاظ الرغبة في البحث، وتنبيه الضمائر إلى حقيقة الدين وروحه الأصيل.
إن هذا العالم لا يمكن أن ينجو من هذه الوهدة السحيقة التي سقط فيها، إلا على أيدي أناس تربّوا على قيمهم الأصيلة، ذوي أرواح فتيّة وعقول متوقّدة، نذروا أنفسهم للحق تعالى، وحملواا همًّا مشتركًا واتجهوا نحو غاية واحدة، لا يرجون نفعًا ذاتيًّا، ذوي إرادة وعزم، ساعين في الخدمة الإيمانية بكل جدّية، عازمين على تخطي جميع المصاعب والعقبات، أبطال للعلم والمعرفة والإرادة، لا يبتغون جزاء ولا شكورًا سواء في الدنيا أو في الآخرة.
لقد عشنا حتى الآن على أمل قدوم هؤلاء الأبطال، وسنبقى في انتظار قدومهم ما حيينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نشر هذا المقال في مجلة سيزنتي التركية، العدد 303، السنة 20044. الترجمة عن التركية: هيئة حراء للترجمة.