إن لحاسة الشم أهمية كبيرة في حياة كلٍّ من الإنسان والحيوان. فعن طريقها -مثلاً- يستطيع الإنسان أن يتعرف على الطعام الجيد فيقبل عليه، أو الطعام الفاسد فيتحاشاه، وعن طريقها أيضًا يستطيع التمييز بين الروائح الذكية التي تنبعث من الأزهار أو العطور، والروائح الكريهة التي تتصاعد من البِرَك والمستنقعات الراكدة أو غيرها.
ولا تقتصر هذه الحاسة على الإنسان وحده، بل إن هناك من الحيوانات ما يتفوق عليه بصورة ملحوظة في هذا المجال. ففي الغابات مثلاً -حيث يكون الصراع رهيبًا بين الحيوانات المفترسة والفرائس التي تتغذى عليها- تلعب حاسة الشم دورًا رئيسًا في حياة هذه الحيوانات على اختلاف أنواعها. وتعتبر أعضاء الشم من أهم الأعضاء الحسية، وهي تلعب دورًا هامًّا في حياتنا، وفي حياة الحيوانات، حيث تقوم بإمدادنا بإشارات معينة عن طريق الهواء الذي نستنشقه.
إن أنف الإنسان مليء بالعجائب والقدرات، ولعل أكثر الأنوف التي تلفت الانتباه، هي أنوف خبراء الروائح والعطور
وبرغم أن القدرات الشمّية للإنسان لا تصل إلى قدرات بعض الحيوانات -مثل الكلاب والقطط- إلا أنها عظيمة وهامة جدًّا في حياتنا، ومثال ذلك الرابطة بين الأم وطفلها الرضيع؛ فالطفل يستطيع أن يميز رائحة ثدي أمه من أيّ ثدي غريب آخر، ويمكن للأمهات أن يميزن أطفالهن من رائحتهم.
إن أنف الإنسان مليء بالعجائب والقدرات، ولعل أكثر الأنوف التي تلفت الانتباه، هي أنوف خبراء الروائح والعطور؛ حيث اكتسب بعض هؤلاء الخبراء القدرة على تمييز حوالي عشرة آلاف رائحة، ويمكنهم تمييز أنواع زيت اللافندر من بعضها، بل والبلد الذي زرع فيه. وقد أوضحت الدراسات التشريحية المقارنة أن المساحة الشمّية في التجويف الأنفي في الإنسان، تبلغ حوالي 3 سم2 على كل من الجانبين، وكل جانب من تجويفي الأنف يحتوي على 5 مليون خلية حسية شمّية، لكن مساحة هذه المنطقة في الكلاب، تبلغ 18 سم2 وفي القطط 21 سم2.
وهذا يبين أن جهاز الشم في الإنسان أقل حجمًا من المشاهَد في العديد من الحيوانات الفقارية.
ولعل أوضح مثال على ذلك، هو ما يشاهَد في كلاب الصيد أو الكلاب البوليسية التي تستخدم في التعرف على الجناة أو المجرمين، حيث تعتبر قدرة الكلاب على تمييز الروائح المختلفة من الخوارق التي لا يستطيع الإنسان تفسيرها بصورة مقبولة؛ فهي تستطيع أن تميز بين رائحة إنسان معين، ورائحة مئات آخرين من البشر لكل واحد منهم رائحته المميزة، إذ يكتفي أحد هذه الكلاب المدربة بأن يشم أي شيء يتعلق بهذا الإنسان المجهول فينتقيه من بين المئات.
لكن هل يعني ذلك قلة اعتماد الإنسان على حاسة الشم؟ ربما يعتقد البعض أنه يمكننا الاستغناء عن حاسة الشم، إلا أن الأشخاص المصابين بمرض فقدان حاسة الشم يعانون من مشاكل حادة، منها فقدان الشهية للطعام، مما يؤدي إلى فقدان الوزن والهزال، وأخطرها عدم اكتشاف الغازات السامة.
إن هذا التأثير يبدو مألوفًا لنا عندما نصاب بالزكام؛ حيث إن المخاط الذي يغطي الطبقة الشمّية في الأنف، يفقدنا الإحساس بمذاق الطعام؛ لأنه يوجد اتحاد وامتزاج بين حاستي التذوق والشم. وعلى النقيض من ذلك فإن الأشخاص الذين يعانون من السمنة ولا يتوقفون عن تناول الطعام رغم امتلاء معداتهم، حيث يسيطر عليهم إغراء حاسة الشم القوية للأطعمة الشهية فيزداد إقبالهم على تناول الطعام. ويفكر العلماء الآن في الوصول إلى مركب كيميائي يمكن نثر رذاذه داخل الأنف ليوقف حاسة الشم مؤقتًا، فيوقف إغراء رائحة الطعام بالمزيد من الأكل.
إن حاسة الشم في الواقع هي حاسة التذوق عن بُعد، وكما أن أعضاء التذوق في اللسان تنتبه بواسطة مواد نتناولها في الفم، كذلك فإن الأعضاء الشمّية تنتبه بواسطة مواد طيارة نستنشقها من خلال الأنف.
كيفية شم الروائح المختلفة
تعتبر حاسة الشم أكثر غموضًا من الحواس البشرية الأخرى، كما أن المعلومات المتعلقة بها، أقل بكثير عما هو معروف عن تلك الحواس. وتختص هذه الحاسة بالتعرف على مختلف الروائح التي تنبعث من الأشياء العديدة التي تحيط بنا في كل مكان، وعليها التمييز بينها.
وتعتمد هذه الحاسة على نوع خاص من الخلايا توجد داخل الأنف وتُعرَف بـ”الخلايا الشمّية”، وتتجمع النهايات العصبية المتصلة بهذه الخلايا، ليتكون منها زوج من الأعصاب تسمى “الأعصاب الشمية”، وتخترق هذه الأعصاب الحاجز الأنفي في الجمجمة العظمية، لتصل إلى “المنطقة الشمّية” في المخ.
إن قدرات تمييز أضعف الروائح تختلف من شخص لآخر، ومثال ذلك أن القدرة على تمييز رائحة البيض الفاسد (سلفيد الهيدروجين) تختلف بمقدار 45 درجة من شخص لآخر، كما يمكن للإنسان أن يميز بعض الروائح في تركيزات صغيرة جدًّا مثل رائحة “ميثيل الميركابتان”، وكذلك “رابع كلوريد الكربون” الذي يتلف الكبد.
وتعتمد الكفاءة في تمييز الروائح على ثلاثة عوامل هي: التعود، والارتباط الشديد بين الرائحة واسمها، ورد فعل الشخص الذي يشم. ولقد وجد العلماء أن الأشخاص يمكنهم التمييز بين 16 رائحة، ولكن مع التدريب يمكن تمييز عشرات الروائح.
لا شك أن الله تعالى خلق حاسة الشم لكي يلفت أنظار بني البشر لفتة بسيطة، حيث إنها تحتوي على كثير من العجائب والمعجزات، وتضم الآلاف من التركيبات الدقيقة، والجسيمات العجيبة
ولا تتوقف قدرات الشم على مجرد اكتشاف الفروق بين الأنواع المختلفة ودرجة تركيزها، بل تتعدى ذلك إلى معرفة الاتجاه الذي تأتي منه الرائحة، وإلى تحديد الفرق بين مرورها على إحدى فتحتي الأنف بالنسبة للأخرى، وهناك رأيان لتفسير هذه الظاهرة، أحدهما أن الجزيئات المختلفة تمر عبر الغشاء المخاطي المغطي للخلايا العصبية الشمّية بسرعة مختلفة، ويرجع ذلك إلى سرعة ذوبان الروائح. وأما الرأي الآخر هو أن كل نوع من الروائح ينبه نوعًا معينًا من المستقبلات.
وقد وهب الله تعالى فاقدي البصر بعض العوض بالاعتماد على الروائح في تمييز البيئة المحيطة، لكي يحفظوا أنفسهم من الخطر، وذلك باكتشاف الروائح التي تهددهم، مثل رائحة احتراق محول كهربائي.
كذلك تلعب حاسة الشم دورًا هامًّا في العلوم الطبية؛ فالطبيب الجيد يمكنه أن يشخّص أنواعًا عديدة من الأمراض، بداية من الحمى الصفراء ومرض السكر حتى الفشل الكبدي، من رائحة المريض.
والجدير بالذكر أن حاسة الشم تضعف بسرعة، وهذا مفيد من جهة، ويدعو إلى الحرص من جهة أخرى. فعندما يتعرض الإنسان لرائحة ما، فإن قدراته على تمييزها تختفي بعد برهة، وذلك ضروري لكي تفسح المجال للإحساس بنوع آخر من الروائح. وعندما تقابل شخصًا ما، فإنه يمتدح رائحتك الجميلة، لكن كثيرًا ما يتعرض الناس للاختناق بالغازات السامة في الحمام، أو في الأماكن المغلقة التي يدخنون فيها أو يوقدون فيها النار، لأن إحساسهم بالخطر ينعدم لتوقف حاسة الشم.
لا شك أن الله تعالى خلق حاسة الشم لكي يلفت أنظار بني البشر لفتة بسيطة، حيث إنها تحتوي على كثير من العجائب والمعجزات، وتضم الآلاف من التركيبات الدقيقة، والجسيمات العجيبة، ويؤدي كلٌّ منها عمله في تناسق وانسجام، مما لا يترك مجالاً للشك في أنها صممت على أحسن صورة وأدق تركيب. كما لا شك أن في هذه الدقة الفائقة في التصميم والإنتاج، إشارة واضحة إلى جلالة خالقها وجماله.
(*) استشاري في طب وجراحة العيون، وعضو الجمعية الرمدية المصرية.