طرح عليّ الفنان عبد القادر قوزع سؤالاً حول مكانة الفصاحة مستندًا على مقالة لأحد العلماء المعاصرين تحذر من المنافق العليم اللسان، بما قد يستشف القارئ منه أن الإسلام يكره الفصاحة ويحبذ الرثاثة القولية مع أن كتابات ذلك العالم جميلة. ولكي تعم الفائدة، آثرت أن أكتب هذه المقالة القصيرة عن خطورة الفصاحة كسلاح ذي حدّين يمكن أن يسمو بالحق إلى آفاق الذرى، أو يخسف به إلى أعماق الثرى.
وكان العرب قبل الإسلام يفاخرون بفصاحتهم الأمم، رغم إفلاسهم المريع في سائر ميادين الحضارة، وكانوا يعتزون بلغتهم ويُسَمُّون من لا يتكلمون العربية بالأعاجم
ونبدأ بالتأكيد على أن الفصاحة والبلاغة والبيان هي في حد ذاتها نِعم جزيلة وعطايا ثمينة، مَن اعتلى ناصيتها موهبةً وخبرة فقد ركب أحد معارج الترقي الاجتماعي، وامتلك بعض مقاليد الجاذبية الآثرة والتأثير الاجتماعي.
ولأهمية البيان امتن الله على الناس في بداية سورة الآلاء والألطاف الربانية “الرحمن” بأنه علّمهم البيان، ونسب التعليم إلى ذاته المقدسة تنويهًا وتشريفًا، حيث قال تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)(الرحمن:1-4).
ومن المعلوم أن معجزة هذا الدين الخاتم معجزة بيانية عقلية، مما يعني أن تأثير الفصاحة يساوي تأثير عصا موسى عليه السلام، وتأثير البلاغة يوازي إحياء الموتى الذي جرى على يد عيسى عليه السلام.
غير أن تأثير تلك المعجزات محدود زمانًا ومكانًا، بينما تجتاز معجزة القرآن حدود الزمان والمكان.
ولأهمية الفصاحة فقد تحدّى القرآن الإنس والجن تحديًا مفتوحًا، وما فتئ يدهش ملوك الفصاحة بفصاحته، ويذهل أمراء البيان ببيانه، ويُبهر أباطرة البلاغة ببلاغته.
وظلت فصاحة القرآن هي الوعاء الذهبي الأنيق الذي احتوى كل صور الإعجاز العلمي والتشريعي والغيبي في القرآن الكريم، والتي صارت -عبر قرون من الزمن- البوابة العريضة التي دلف من خلالها كثير من العظماء إلى بساتين الإسلام الوارفة.
العربية أزهى اللغات بيانًا، وأجملها بلاغة، وأروعها فصاحة، وهذا الأمر واضح حتى في عنوانها، فالعروبة في القاموس تعني الفصاحة والإبابة
ولقد اختار الله عز وجل اللغة العربية لغةً للقرآن الكريم؛ وذلك لاعتبارات عديدة أهمها ما نحن بصدده هنا، وهي أن العربية أزهى اللغات بيانًا، وأجملها بلاغة، وأروعها فصاحة، وهذا الأمر واضح حتى في عنوانها، فالعروبة في القاموس تعني الفصاحة والإبابة.
وكان العرب قبل الإسلام يفاخرون بفصاحتهم الأمم، رغم إفلاسهم المريع في سائر ميادين الحضارة، وكانوا يعتزون بلغتهم ويُسَمُّون من لا يتكلمون العربية بالأعاجم، وكان بيت واحد من الشعر يرفع أقوامًا ويضع آخرين.
ومن عوامل فصاحة العربية بين سائر اللغات العالمية، غناها بالمفردات والتراكيب والأساليب، وامتلاكها لقواعد الاشتقاق ومقومات التجدد والتطور.
وعلى سبيل المثال، فإن مفردات قاموس عربي قديم، تساوي أضعاف مفردات أكبر قاموس في اللغة الأهم الآن -وهي الإنجليزية- رغم الفارق الزمني ورغم أنها أصبحت لغة العلم والحضارة في العالم كله ولأسباب عدة أهمها: تفوق وقوة الإنجليز والأمريكان خلال العصور الأخيرة، واهتمامهم الكبير بها من كل النواحي.
وكان الأنبياء أصحاب فصاحة وبيان؛ لأن ذلك من مقتضيات البلاغ، إذ يقول الله عز وجل: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)(النور:54).
ولما كان نبي الله موسى عليه السلام يعاني من لثغة في لسانه، وخشي أن لا ينطلق لسانه فيتسبب ذلك في عدم قبول دعوته، فقد دعا الله أن يردفه بأخيه هارون متحججًا بأنه “أفصح منّي لسانًا”، ولِوَجاهة الطلب والحجة استجاب الله له.
ويبدو هنا أن الفصاحة لازمة من لوازم النبوة، إذ لم يكن ينقص موسى عليه السلام من مؤهلات النبوة إلا هي، وبسبب خارج عن إرادته فاكتمل النقص بـ”هارون”.
ومن المعلوم أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أفصح العرب والعجم، وأنه أوتي جوامع الكلم، وكان يحتفي بالنصوص الفصيحة ويطرب لها، ويشجع البلغاء حتى إنه أهدى أحدهم بردته الشريفة.
ومع ذلك كله فقد أمره الله عز وجل بركوب ناصية البلاغة في البلاغ، فقال تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا)(النساء:63)؛ لأن كثيرًا من مغاليق العقول وأقفال القلوب، تنفتح بمفاتيح البلاغة وشفرات الفصاحة. وظل صلى الله عليه وسلم يجتبي البلغاء ويصطفي الفصحاء، ويحضُّهم على تسخير فصاحتهم، الشعرية والنثرية، الخطابية والحوارية، من أجل المنافحة عن هذا الدين وخدمته.
إن معجزة هذا الدين الخاتم معجزة بيانية عقلية، مما يعني أن تأثير الفصاحة يساوي تأثير عصا موسى عليه السلام
ولهذا اختار لنفسه شاعرًا مُجيدًا وخطيبًا مِصْقَعًا، وكان يحرّض شاعره حسان بن ثابت قائلاً: “اهجهم وروح القدس معك”، وأُثِر عنه قوله صلى الله عليه وسلم: “إن من البيان لسحرًا”.
وما تزال الفصاحة من أهم المؤهلات لقادة الشعوب وصناع الرأي العام في أذهان أغلب البشر، رغم ارتفاع منسوب الوعي وطغيان المادة في هذا العصر، وظهور الكثير من المتغيرات التي يفترض انتقاصها من مكانة الفصاحة والبيان.
وكمثال على ذلك: إن إحدى أقوى مؤهلات الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” لبلوغ البيت الأبيض، كانت فصاحته وليست معارفه وخبراته، فلم يكن سوى محامٍ بسيط، ولم يسبق له أن تسنَّم منصبًا عامًّا في حياته، ثم إنه ينتمي إلى الأقلية السوداء المنتقصة عند أعداد عريضة من البيض، إذ كان أبوه مسلمًا وفد من كينيا في إفريقيا بحثًا عن فرصة عمل، لكن فصاحته رَفَعته مكانًا عليَّا.
وقد ذكرت نصوص الإسلام أن المنافقين يحرصون على الظهور بلغة جميلة، حتى إن الله قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)(المنافقون:4).
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من المنافق عليم اللسان.. فهل هو موقف من الفصاحة؟ وهل في ذلك انتقاص من البلاغة أو اتهام لأصحاب اللغة الجميلة والتعبيرات الرشيقة؟
إن ذلك لا ينتقص من الفصاحة وليس فيه دعوة للرثاثة اللغوية، بل العكس تمامًا هو الصحيح؛ فهو تأكيد على أهمية الفصاحة، وتحذير من خطورة استغلال المنافقين لها، بحيث يخفون تحت أرديتها الفاتنة قبح عوارهم وعوراتهم، ويزينون بجمالها الساحر مشاين أخلاقهم وخلالهم.
وأختم هذه السانحة بطرح هذا التساؤل:
هل استخدام اليهود -مثلاً- لطائرة “إف 16” في قتل أطفال المسلمين، يجعلها قبيحة بذاتها عند عامة المسلمين؟ وهل يبرر لهم ذلك مقاطعتها؟ ولو فعل ذلك أحد فهل يعده الناس عاقلاً؟
(*) أستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز / اليمن.