جلستُ مساء ذات يوم أُحادث نفسي عن الحكمة التي يدَّعيها الفلاسفة، والـمدينة الفاضلة التي بناها أفلاطون ولم يعمرها ليومنا أحد. جلستُ أبكي الأخلاق والفضيلة والأدب والـمؤدِّبين؛ فلامتني نفسي وهي تقول: إننا نعيش فوضى الأخلاق مذ تلوَّثَ معين الصدق بالكذب والرياء، مذ رفعت الرّذيلة على الهَام، وخُسِف بالعفِّة تحت الأقدام؛ فاختلفت في عيوننا الحقيقة، وضاعت منا الطمأنينة، وعلا صوتُ الفِرَق والأحزاب. التحق بنا شيخٌ مهيبٌ عارفٌ يشعّ وجهه نورًا ووقارًا، فقلت: ما قولك في هذا يا شيخ؟.
قال: إن الهدوء الذي نفتقد ليس سكوت الطفل الرضيع في البيت أو عند الجيران، ولا ضجيج السيارات في الخارج، ولا سكون الأحياء.. إن الهدوء الذي نفتقد هو طمأنينة الروح؛ الروح التي إذا تدبَّرت ملكوت الله علمتْ وعملتْ بصدق، وبنت لها جنة في الدنيا بعيدة عن الهوى والأهواء.
حتى قال: إننا حقًّا نعيش أنواع الضياع إلا من عرف ذروة الإيمان ومنتهاه.
قلت: وما الضياع؟
قال: الضياع مفهومٌ أكبر من أن يعرِّفه ابن فارس وابن منظور والموسوعات.
الضياع: ضادٌ حائرةٌ؛ ضبابةٌ تُغشي العيون فلا تعرف للغد طريقًا، توحَّدت مع المجهول فكانت على بني آدم ضدًّا.
ياء يأسٍ؛ ينبوعٌ من الآلام البئيسة المتجددة لم تجد مع كل هذه الـمستنقعات إلى البُرْءِ سبيلاً يبسًا.
ألف الألفة والأخوَّة الميّتة وكل الأواصر المقطوعة حتى صار كل ذي روحٍ على البسيطة فردًا أحدًا.
عين العداوة؛ عين عرَّافةٍ تزعُم السفر في المستقبل والغد البعيد؛ فتقرأ الفناجين لكنها عمياء تمشي ذات اليمين وذات الشمال على غير هدًى وزِد عِوجًا.
الضياع أكبر من أن تجمع هذه الحروف فتحُدَّه.
قلت: زدني.
قال: الضياع أن تبحث عن نفسك في عينيك فلا تجدها.
الضياع أن تبحث عن الإيمان في الجوامع والكنائس والبيع فلا تجده.
الضياع أن تبحث عن الحب في القلوب؛ فتسألك القلوب عن أيّ غريب تبحث.
الضياع أن تقصد المحاكم بحثًا عن العدل؛ تجد الميزان رسمًا يُزيِّن ذا الجدار وذا الجدار.
الضياع أن تقصد المدارس والجامعات بحثًا عن العلم والأدب؛ ولا تجد غير أجسادٍ تمشي دون العلم والأدب.
الضياع أن تقصد البحر بحثًا عن الهدوء والطمأنينة؛ فترمي لك الأمواج في غفلةٍ من حوتها صيدًا من بني جلدتك.
قال: أعرفتَ ما الضياع؟
قلت: لكن كيف السبيل إلى الخلاص؟
أجاب العارف: إنك ميِّت لا محال. فاختر في الأُولى ما ستكون عليه في الأُخرى تجد الخلاص، فإما أن تختار تلك الطريق الـمشعّة بالنور العبِقة بأنفاس الصالحين الأخيار الطاهرين، أو تختار طريقًا محفوفة بالشوك والعَوْسج آخرها حالك كسواد الليل.. فإذا وقعت عينُك على الطريق الأولى؛ أعربت بالدمع الـمنساب فرحًا وطمأنينة فكان الخلاص، أما إذا سارت في الثانية جوارحك، فاعلم أنك قد رغبت عن الصواب ولن تزيد إلا ضياعًا وهلاكًا.. فالزم الأولى لا صُمّ صداك، وتذكَّر أن لا شيء لك.
قلت: كيف ذلك؟
قال: ستغادرها كما جئت ذات يوم وحيدًا.
قلت: زِدني وأَفْصِحْ.
قال: لا شيء لك، حتى القبر الذي ستوضع فيه ليس لك، سيأتي يومٌ ويوضع فيه ميتٌ معك سهوًا، أو عمدًا، أو بعد أن تُنسى، أو تزدحم الأرض بالقبور.
المهم لا شيء لك، لست إلا عابرًا في هذه الدنيا الزائلة، وهي أمامك تتزين بكل ألوان الجمال، وإذا حاولت الإمساك بها، تحولت إلى سراب فلا تبالي. مغرورة جدًّا فلا تصدقها، وكلما سرت نحوها زادت تعجرفًا؛ تمنِّيك بالآتي من الأيام وهي تحفر تحتك حفرًا تفضي بك إلى وادٍ جارف لا قرار له.. فدَعْها ودُعَّ نفسك عن الشبهات.
ثم قام كالذي أصابه الفزع راحلاً وعاد يهمس في أذني: الزم الأولى لا صُمّ صداك.
رتَّبَ وشاحه الأبيض على ظهره وانصرف بخطوات سريعة يطوي الظلام. وما زلتُ أراقبه حتى وقع في نفسي صدق ما قال، فعلمت حقًّا أن أول الضياع إنما هو ضياع النفوس وغرقها في الأهواء، وأن النجاة لا تكون إلا بالرجوع عن هذا، إلى الصواب فُرادى وزرافات.
(*) كاتبة وباحثة مغربية.