الإنسان البنَّاء عمودٌ من أعمدة الحضارات، تحرص الأمم على أن تستكثر منه بين ظهرانيها… ومن البداهة بمكان أن نقول إنّ معاول الهدم والتخريب في الأمم والحضارات لا تطال أول ما تطال إلاّ صروح الروح، لأنّ هذه الصروح حصن الإنسان الحصين التي تقيه عواصف الهدم والتخريب، وهي الحِمَى الذي يأوي إليه وجوده الأفضل، فإذا ما تهدمت تيتَّمَت الأمم وضاعتْ وأجدب روحها ومات قلبها، وصارت نهبًا مشاعًا لكل طمَّاع دسَّاس.
ومن هنا جاء مقال أستاذنا فتح الله كولن الموسوم “ونحن نقيم صرح الروح”؛ فقد عالج فيه الكيفية والآلية العملية التي تساعدنا على إقامة صرح الروح المتهدم، وبنائه من جديد على أسس سليمة وقواعد رصينة.
وأما غياب الهوية الإسلامية وخطر هذا الغياب على الأمة كما يرى الدكتور البوطي فيكاد هو الآخر يصبُّ في السياق نفسه من وجهة نظر أخرى. وأمّا الأستاذ النورسي مبدع “رسائل النور” فلا يكاد يخلو عدد من أعداد المجلة عن مقال يدور عنه وعن بعض جوانب فكره كما نشاهد ذلك في مقالَي الدكتور محمد عبد النبي من الجزائر والدكتور عبد العزيز برغوث من ماليزيا. وعن الطاقة الاحتوائية للثقافات الأخرى التي يتميز بها الإسلام يحدثنا فضيلة الدكتور محمد عمارة في شيء من التفصيل والدقة كما هو شأنه في كل ما يكتب. وأمّا باب المجلة العلمي فيتحفنا العالم الجليل الأستاذ زغلول النجار بمقال يحدثنا عن الحفيظية الإلهية للسماء.
وللقصة كذلك كما للشعر مكانها المناسب من المجلة، فقد صاغ لنا الأستاذ نور الدين صواش بقلمه البديع المتأنق قصة واقعية مؤثرة عن واحد من مديري إحدى المدارس في آسيا الوسطى. أما أديب الدباغ فإنه يكتب عن “الاغتراب الحضاري لدى المسلم المعاصر”. ومن المغرب الشقيق يهدينا العالم والأديب الأستاذ الدكتور فريد الأنصاري مقالاً يكاد يكون دراسة عن “جمالية التفكير الإيماني”. وأما الشاعر والأديب الكبير الأستاذ حسن الأمراني فيهدينا إحدى رائعاته الشعرية “وباسمك أفتح الملكوت”، إلى جانب مقالات قيمة أخرى.
وبعد، فإنّ “حراء” وهي تقدم هذه الإضمامة من المقالات بأقلام جمهرة من الأساتذة الكرام للقارئ العربي لامسةً حِسّه الفكري المرهف لا تريد أن تنتحل سيادة فكرية ميسرة على أفكار الآخرين بقدر ما تريد أن تكون إحدى المساهمات إلى جانب أخواتها من المجلات العربية في مواجهة النَّوء القاسي الذي يتعرض له عالمنا الإسلامي.
إن السؤال الذي يفرضه علينا واقعنا المفتقر إلى معرفة إيمانية شاملة هو كيف نستطيع أن نبني هذه المعرفة وأن نغنى بها إلى حد الامتلاء. وهذا الغناء هو ما تسعى إليه حراء بجهدها المتواضع، سائلين الله تعالى التوفيق والسداد والسلام.