﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(الحج: 65).
تتضمن هذه الآية الكريمة معاني علمية دقيقة، فالسماء -وهي كل ما علانا- تبدأ بغلاف الأرض الهوائي؛ فالفضاء، فأجرام السماء، المشع منها بذاته مثل النجوم، فالمجموعات النجمية والسدم والمجرّات، وغير المشع بذاته كالأقمار والكواكب والمذنبات والنيازك والجزيئات والذرات والغبار الكوني.. وجميع هذه العوالم تحتفظ بكيانها وتماسكها تحت تأثير عدة قوى أهمها الجاذبية والقوى الناشئة عن الحركة. ولقد تجلّت مشيئة الله ورأفته بالعباد بأن هيّأ للأرض غلافا جوّيا يحتوي على العناصر الغازيّة التي لا غنى للحياة عنها، كما أنه يحمي سكّان الأرض من الإشعاعات الكونية، وأسراب الشهب، والنيازك التي تهيم في الفضاء والتي عندما تدنو من الأرض تحترق في جوها العلوي (احتراقا جزئيا أو كليا) قبل أن تصل إلي السطح (العلوي للأرض).
ومن إرادته تعالى ورحمته أنّ سقوط النيازك التي تدمّر سطح الأرض نادر الحدوث جدًّا، وهو يتم في الأماكن الخالية من السكان، وهذه الظاهرة تدل على عناية الله تعالى ورحمته بعباده. وفي هذا تأييد وتصديق لقوله تعالى: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(الْحَجِ:65) أي ويمسك بقدرته السماء كي لا تقع علي الأرض فيهلك من فيها، ﴿إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ أي إلا إذا شاء، وذلك عند قيام الساعة.
مع القمر
إن أقرب أجرام السماء إلينا هو القمر الذي تقدر كتلته بنحو سبعين مليون مليون مليون طنّ، ويدور في مدار حول الأرض يقدر طوله بنحو 2.4 مليون كيلومتر بسرعة متوسطة تقدر بنحو كيلومتر واحد في الثانية، وهي نفس سرعة دورانه حول محوره، ولذلك يُرى منه وجه واحد لأهل الأرض.
ومدار القمر حول الأرض، وكذلك مدار الأرض حول الشمس بيضاويّ الشكل (أي إنه على شكل قطع ناقص). ومن قوانين الحركة في المدار البيضاوي (أو مدار القطع الناقص) أنّ السرعة المحيطية فيه تخضع لقانون تكافؤ المساحات مع الزمن؛ وهذا القانون يقتضي اختلاف مقدار السرعة على طول المحيط، فتزداد نسبيا بالاقتراب النسبي من الأرض، وتزداد بزيادتها قوة الطرد المركزيّ على القمر فتدفعه بعيدا عن الأرض، وإلا اصطدم القمر بالأرض فدمّرها ودمّرَته. وتقلّ السرعة المحيطية للقمر كلّما بعُد نسبيّا عن الأرض، فتقلّ القوة الطاردة المركزية على القمر لئلا يخرج عن نطاق جاذبية الأرض، فينطلق إلى فسحة السماء أو تبتلعه الشمس، وأعلى مقدار لسرعة سبح القمر في مداره حول الأرض يقدّر بما قيمته 3888 كيلومترا في الساعة؛ وأقل مقدار لتلك السرعة يقدر بنحو 3483 كيلومترا في الساعة، وهذا يجعل السرعة المتوسطة لسبح القمر في مداره حول الأرض تقدر بنحو 3675 كيلومترا في الساعة.
ونفس القانون (قانون الجري في القطع الناقص) ينطبق على سبح الأرض حول الشمس، وسبح باقي أجرام السماء كل في مداره حول الجرم الأكبر، أو التجمع الأكبر.
ويؤكد علماء الفلك أن أبعد كواكب مجموعتنا الشمسية يبعد عن الشمس بمسافة متوسطة تقدّر بنحو ستة آلاف مليون كيلومتر، وأنّ مجرتنا تحوي قرابة تريليون نجم.
كذلك يحصي علماء الفلك أن بالجزء المدرك من الكون أكثر من مائتي بليون مجرة تتفاوت في أشكالها وأحجامها وكتلها وسرعة دوران كل منها حول محورها، وسرعة جريها في مدارها، وسرعة تباعدها عنا وعن بعضها البعض (كما تتباين في أعداد نجومها) وفي مراحل تطور تلك النجوم، فمن المجرات البيضاويُّ والحلزونيُّ وغير ذلك من الاشكال؛ ومنها المجرات العملاقة التي يصل قطر الواحدة منها إلى 750 ألف سنة ضوئية، وتصل كتلتها إلى تريليون مرة قدر كتلة الشمس، ومنها المجرات القزمة التي يكاد يتعدّى طول قطرها 3.200 سنة ضوئية، وتكاد كتلتها تتعدى مليون مرة قدر كتلة الشمس؛ وتقدر كتلة مجرّتنا (سكة التبانة أو درب اللبانة أو الطريق اللبني) بنحو 230 بليون مرة قدر كتلة شمسنا (المقدرة بنحو ألفي مليون مليون مليون مليون طنّ).
وتتجمع المجرات في وحدات تضم العشرات منها تُعرف باسم المجموعات المحلية، وتتجمع تلك في وحدات أكبر تضم المئات إلى عشرات الآلاف من المجرات وتعرف باسم التجمعات المجرّية، وتلتقي هذه في تجمعات أكبر تعرف باسم المجموعات المحلية العظمى التي تلتقي بدورها في التجمعات المجرية العظمى، ثم تجمعات التجمعات المجرية العظمى، إلى نهاية لا يعلمها إلا الله.
وفي كل الأحوال يدور الصغير حول الكبير في مدار بيضاوي على هيئة قطع ناقص، تحكمه في ذلك قوانين الحركة في مثل هذا المدار.
والتجمع المجري الأعظم الذي تنتمي إليه مجرتنا يضم مائة من التجمعات المجرية ينتظمها قرص يبلغ قطره مئة مليون من السنين الضوئية وسمكه عشر ذلك (وهي نفس أبعاد مجرتنا مضروبا في ألف).
وهذه الأعداد المذهلة مما قد علمنا من أجرام الجزء المدرك من السماء الدنيا لا تمثل إلا نحو عشرة بالمئة من مجموع كتلة ذلك الجزء المدرك، وهي ممسوكة بشدة إلى بعضها البعض، وإلا لزالت وانهارت.. ولذلك قال ربنا تبارك وتعالي: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(الحج:65). وقال عزّ من قائل: ﴿إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(فَاطر:41). وقال سبحانه وتعالى: ﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى﴾(الرعد:2). وقال سبحانه: ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾(الغاشية:17-18).
وقد تمكنت العلوم المكتسبة من التعرف على عدد من القوى التي تمسك بأجرام السماء على النحو التالي:
1- قوة الجاذبية
وهي أضعف القوى المعروفة على المدى القصير، ولكن نظرا لطبيعتها التراكمية فإنها تتزايد باستمرار على المسافات الطويلة حتى تصبح القوة الرابطة لكل أجزاء السماوات والأرض بإرادة الخالق سبحانه وتعالى حيث تمسك بمختلف أجرام السماء الدنيا على الأقل، وتجمّعاتها من الكواكب وأقمارها، والنجوم وتوابعها، وتجمعاتها على كل المستويات إلى نهاية لا يعلمها إلا الله.. ولولا هذا الرباط المحكم الذي أوجده الخالق سبحانه وتعالى لانفرط عقد الكون.
ويفترض وجود قوة الجاذبية على هيئة جسيمات خاصة في داخل الذرة لم تكتشف بعد، واقترح لها اسم الجسيم الجاذب، أو الجرافيتون الذي يعتقد بأنه يتحرك بسرعة الضوء، ليربط بين مختلف أجزاء الكون حسب قانون محكم دقيق تزداد فيه قوة الجاذبية بزيادة الكتلة للجرمين المتجاذبين، وتتناقص بزيادة المسافة الفاصلة بينهما. وقد لعبت الجاذبية دورا مهمّا في تكثيف الدخان الكوني الذي نشأ عن واقعة الانفجار العظيم، على هيئة كل صور المادة الموجودة في السماء الدنيا (على أقلّ تقدير)، كما لعبت ولا تزال تلعب دورا مهما في إمساك الأرض بغلافَيها الغازي والمائي، وبكل صور الحياة والهيئات الصخرية من فوقها.
2- القوة النووية الشديدة
وهي القوة التي تقوم بربط الجسيمات الأولية للمادة في داخل نواة الذرة، والتي تعمل على التحام نوى الذرّات الخفيفة مع بعضها البعض لتكون سلاسل من نوى الذرات الأثقل في عمليات الاندماج النووي. وهي أشد أنواع القوى المعروفة لنا على الأبعاد المتناهية الصغر، ولكنها تضعف باستمرار عبر المسافات الطويلة. وعلى ذلك فدَورها يكاد يكون محصورا في داخل نوى الذرات، وبين تلك النوى ومثيلاتها. وتحمل هذه القوة على جسيمات تسمّى باسم القوة اللاحمة أو الجليون.
3- القوة الذرية الضعيفة
وتحمل على جسيمات تسمى باسم اليوزونات، وهي إمّا سالبة أو عديمة الشحنة. وتربط الإليكترونات الدائرة في فلك النواة. وهي لضعفها تؤدّي إلى تفكك تلك الجسيمات الأولية للمادة كما يحدث في تحلل العناصر المشعة.
4- القوة الكهرومغناطيسية
وتحمل على هيئة فوتونات الطاقة أو ما يعرف باسم الكمّ الضوئي. وهذه الفوتونات تنطلق بسرعة الضوء لتؤثر على جميع الجسيمات التي تحمل شحنات كهربائية. ومن ثم فهي تؤدي إلى تكون الإشعاع الكهرومغناطيسي وتؤثر في جميع التفاعلات الكيميائية.
وكما تم توحيد قوّتَي الكهرباء والمغناطيسية في قوة واحدة، يحاول العلماء جمع هذه القوة مع القوة الذرية الضعيفة، فيما يعرف باسم القوة الكهربائية الضعيفة، لأنه لا يمكن فصل هاتين القوتين في درجات الحرارة العليا.
وفي نظريات التوحيد الكبرى يحاول عدد من العلماء جمع القوة الكهربائية الضعيفة مع القوة النووية الشديدة في قوة كبرى واحدة، بل ضم تلك القوة الكبرى مع قوة الجاذبية فيما يسمى باسم “الجاذبية العظمى” التي تربط كل صور المادة في الكون اليوم، والتي يعتقد أنها كانت القوة الوحيدة السائدة في درجات الحرارة العليا عند بدء خلق الكون، ثم تمايزت إلى القوى الأربع المعروفة لنا اليوم والتي تعتبر وجوها أربعة لتلك القوة الكونية الواحدة التي تشهد لله تعالى بالوحدانية المطلقة فوق كل خلقه.
ومن هنا ظهرت نظرية الخيوط فائقة الدقة التي تفترض تكوّن اللبنات الأساسية للمادة من خيوط فائقة الدقة تلتفّ حول ذواتها فتبدو كما لو كانت نقاطا متناهية الضآلة في الحجم مشابهة بذلك شريط الحمض النووي في داخل نواة الخلية الحية الذي يتكدس على ذاته في حيز لا يزيد على الواحد من مليون من المليمتر المكعب ولكنه إذا فرد يبلغ طوله قرابة المترين يضمان 18.6 بليون قاعدة كيميائية في ترتيب غاية في الإحكام وغاية في الإتقان. وتقترح نظرية الخيوط فائقة الدقة، وجودَ مادة خفية تتعامل مع المادة الظاهرة بواسطة قوة الجاذبية.
وهنا تتّضح روعة النص القرآني المعجز الذي نحن بصدده، والنصوص الأخرى المشابهة له في التعبير عن العديد من الحقائق العلمية التي لم يصل إليها إدراك الإنسان إلا بعد مجاهدة استغرقت آلاف العلماء وعشرات العقود حتى وصلوا إلى إدراك شيء منها في السنوات المتأخرة من القرن العشرين.
ووُرود تلك الحقائق في كتاب الله الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم من قبل ألف وأربعمائة سنة، في مجتمع سادته أمّيّة القراءة والكتابة، وأمّية العلم لَمما يقطع بالشهادة للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق، ويشهد للنبي والرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة.