عندما نتحدث عن زيادة كفاءة الأفراد في تركيا وفي العالم، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن طبعاً هو المؤسسات التربوية. وعندما يكون الإنسان هو الموضوع نتذكر المثل القديم: “العلم في الصغر كالنقش في الحجر”. هذا المثل محق وهو يشير إلى أهمية التعليم والتربية وكيفية تشكل خلفية خزين المعلومات، وشكل التربية لدى الإنسان وأنها تستمر مثلما تشكلت، وأن إحداث أي تغيير فيما بعد يحتاج إلى انقلاب ذهني كبير. لذا فسنقوم هنا بنقد ذاتي لعملية التربية والتعليم الموجودة حالياً في المؤسسات التي تعد قاعدة التعليم، وهي المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وأحياناً مدارس الحضانة أيضاً. كما سنقدم بعض الاقتراحات التي نعتقد أنها تفيد في رفع الكفاءة في هذه المؤسسات التعليمية.
الهوية الجنسية
اكتشف العالم النفسي “هربرت لاندسال” في مركز أبحاث “Bethesda” بأن النساء والرجال الذين أصيبت عندهم الأقسام الدماغية نفسها بالخلل يتأثرون بشكل مختلف. فقد اختار لدراسته مجموعة مصابة بالصرع وقد نُزع القسم الأيمن من دماغهم وهو القسم الذي يحدد الإحساس بالحيز أو الفضاء الموجود حول الإنسان ويعين شكل الأشياء المحيطة به. فشاهد أن النساء اللائي نُزع القسم الأيمن من دماغهن لم يفقدن الشيء الكثير من قابلياتهن. بينما شاهد أن الرجال الذين نُزع هذا القسم من دماغهم قد فقدوا قابلياتهم المتعلقة بالإحساس بالمكان والفضاء في تجارب (IQ)(1) التي أجراها عليهم.
وقام “لاندسال” أيضاً بتجارب حول القسم الأيسر من الدماغ الذي يسيطر على قابلية اللغة. فشاهد أيضاً أن الرجال الذين تضرر هذا القسم من دماغهم فقدوا قابلية الكلام، أما النساء اللائي تضرر هذا القسم من دماغهن فلم يفقدن معظم هذه القابلية، مع أن قابلية الرجال في الكلام واللغة أكثر من قابلية النساء بثلاثة أضعاف.
الفروق الدماغية بين الأنثى والذكر
وأدى هذا بـ”لاندسال” إلى استنتاج ما يأتي: “إن النساء يملكن قابلية الإحساس بالمكان وقابلية الكلام في كلا القسمين من الدماغ”. وهذه النتيجة أصبحت مقبولة بشكل عام. ومع أن هاتين القابليتين أي قابلية الإحساس بالمكان وقابلية الكلام موجودة بشكل أقوى في الرجال إلا أن قابلية الإحساس بالمكان وبالفضاء موجودة عندهم في القسم الأيمن من الدماغ، وقابلية الكلام واللغة موجودة في القسم الأيسر منه. وقد أيدت التجارب العديدة الأخرى التي جرت في هذا الخصوص هذا الاستنتاج. وتوصلت العالمة الكنَدية “ساندرا وتلسون” إلى أن الفروق الدماغية في الرجل تيسر له القيام بفعاليتين في الوقت نفسه. فمثلا يستطيع الرجل القيام بنشاطين مثل القيام بقراءة خارطة والتحدث في اللحظة نفسها بشكل أيسر من المرأة. وهي تقول بأن السيطرة على فعاليتين أو نشاطين في الوقت نفسه يتم في الرجل في فصين مختلفين من فصي الدماغ. أما في المرأة ففي الفصين معاً، لذا يصعب عليها التحدث وقراءة خريطة في اللحظة نفسها. لذا فالأبحاث التي تناولت تشريح الدماغ دلت على أن الفروق بين دماغ الرجل ودماغ المرأة تجعل الرجل أفضل من النساء في النشاطات المتعلقة بالفضاء والمكان، لأن هذا النشاط في المرأة يتم عن طريق فصي الدماغ معاً.
إذن فهذه الأبحاث تؤكد على وجود فروق في الدماغ بين الرجل والمرأة، وأن لكل منهما بنية مختلفة عن الأخرى. وهذا يؤدي إلى فروق في التخصص بينهما، كما يدل أيضا على أن دماغ الرجل قد تخصص أكثر من دماغ المرأة.
هنا يخطر على البال هذا السؤال: هل يبدي كلا الجنسين ردود الفعل نفسها أمام الأشياء نفسها ما دام لكل منهما بنية دماغية مختلفة عن الآخر أم ردود فعل مختلفة؟ هذا هو ما يهمنا هنا. وقد دلت المشاهدات والأبحاث العلمية على أن الرجل يستخدم فص دماغه الأيسر في حل المعضلات التجريدية، بينما تستخدم المرأة فصي الدماغ في هذا الأمر. وتم قياس التيار الكهربائي الذي ينشره الدماغ عند الأولاد وعند البنات لدى قيامهما بإسقاط شكل ثلاثي الأبعاد على الورق، فلوحظ أن الفص الأيمن عند الأولاد يعمل بنجاح أكبر. أما في البنات فهذا العمل يستوجب منهن عمل فصي الدماغ. كما لوحظ في التجارب التي أجريت على الأولاد والبنات بعرض مشكلة أمام العين اليسرى (للوصول إلى الفص الأيمن مباشرة)(2) أن الأولاد كانوا أكثر نجاحاً في حل المشكلة.
لقد نوقشت نتائج هذه التجارب وهذه المعلومات من قبل مئات الباحثين وتم التوصل إلى النتائج الآتية:
• الفروق الموجودة في بنية الدماغ تؤدي إلى فروق في السلوك وفي القابليات بين الجنسين.
• البنات أسرع من الأولاد في تعلم القراءة.
• البنات أكثر نجاحاً في الامتحانات الشفوية من الأولاد.
• الرجل أكثر نجاحاً في القابليات المتعلقة بـ”الفضاء والمكان”
• تستعمل البنات الطرق الشفوية أكثر في حل المسائل الرياضية التجريدية.
• تبدأ الطفلة بالكلام أسرع من الطفل، ويكون خزينها من الكلمات أكثر.
• يملك الرجال قابلية في الأمور المشخصة أو الملموسة.
• البنات في مرحلة الدراسة الابتدائية أكثر نجاحاً من الأولاد في تعلم القراءة، لذا يُتهم الأولاد بأنهم أغبياء. ويترسخ هذا في لاشعورهم مما يكون له أسوأ الأثر في المراحل المقبلة من التعليم.
• تؤسس الطالبات علاقات أفضل مع المدرسين والمدرسات، ويشاركن في الدرس بصورة أكثر إيجابية من الطلاب.
• يبدي الطلاب نجاحاً أكثر من الطالبات في الرياضيات والمواضيع المشخصة (أي غير التجريدية) والنظرية الأخرى.
آليات التعليم والفروق الدماغية
فاستناداً إلى هذه المعطيات يجب التوجه إلى شكل جديد من التعليم قائم على أساس هذه الفروق بين الجنسين. فكما تُعطى مناهج مختلفة من التعليم لمجموعتين مختلفتين من ناحية الاختصاص (مثلا دروس الفيزياء التي يدرسها المهندسون مختلفة عن دروس الفيزياء لمدرسي الفيزياء) كذلك يجب مراعاة هذه الفروق في القابليات للوصول إلى أفضل النتائج.
ثم لننظر إلى هذه المسألة من زاوية المعلمين والمدرسين والأساتذة. فهل على هؤلاء القيام بتعليم مفردات المناهج التعليمية بشكل مختلف للطالبات عن الطلاب؟ أم أن هناك طريقاً وسطاً بين هذه الثنائية؟
هذه الفروق بين المرأة والرجل ليست فروقاً سطحية كما يتوهم البعض. ولا شك أنهما متساويان في الحقوق والواجبات في المجتمع، ولكن إن قمنا بتدقيق القابليات نرى فروقاً كبيرة بين قابلياتهما.
تقول “آنا موير” موضحة هذه المسألة: “تـنزل هذه الفروق إلى أعماق كبيرة، وهي تبدو في الدماغ وفي بنيته وفي أولويات كلا الجنسين واستراتيجياتهما. وهي توجه آمالنا وأهدافنا وقابلياتنا ومهاراتنا. أما حصر هذه الفروق في ساحة التناسل فليس خاطئاً من الناحية العلمية فقط، بل هو إهمال لإنسانيتنا كذكر أو كأنثى”.
وحول فكرة المساواة بين الجنسين تقول “أليس روسي”: “التنوع ظاهرة بيولوجية، أما المساواة ففكرة ومفهوم أخلاقي وسياسي واجتماعي”. وهي بذلك تبدي شكوكها حول مدى تلاؤم مفهوم المساواة مع العلم.
في مرحلة الحضانة والتعليم الابتدائي لا يكون الطلاب موفقين تماما. ولكن ما إن يبلغ الطالب مرحلة المراهقة حتى يبدي تقدما كبيراً حيث يستطيع اللحاق بالطالبات في موضوع القراءة والكتابة والحديث، ثم يتجاوزهن في ساحة الرياضيات؛ حيث نرى أن درجات (IQ) التي يحصل عليها الطالب البالغ سن الرابعة عشرة والسادسة عشرة ترتفع بشكل ملحوظ، بينما تراوح درجات (IQ) التي تحصل عليها البنات في هذا السن في مكانها، بل ربما تهبط أيضاً.
ومع أن البنات يتعلمن العد والحساب بصورة أسرع من الأولاد، (في الحقيقة هن يتعلمن كل شيء في البداية أسرع من الأولاد)، إلا أن الأولاد لا يلبثون أن يتفوقوا عليهن في المنطق الرياضي. وتتناقص قابلية البنات بمرور الوقت في الرياضيات كلما اتجهن من العمليات الحسابية الأربعة –كالطرح والجمع- إلى المستويات النظرية؛ أي إن الفروق في القابليات بين الجنسين موجودة في جميع المراحل العمرية.
قامت جامعة جون هوبكنس في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1972 ببحث حول قابليات الأطفال الأذكياء في مدينة “بوسطن”. وقد شمل هذا البحث آلافاً من الأطفال من كلا الجنسين بعمر 11-12 سنة. وكان البحث يدور حول القابليات الرياضية لهؤلاء الأطفال المتفوقين من ناحية حاصل الذكاء (IQ) والذين كانوا يشكلون 3% ضمن المتفوقين في موضوع الرياضيات والامتحانات الشفوية، فظهر أن الأولاد أكثر قابلية من البنات في موضوع الرياضيات. وكلما زادت صعوبة الامتحانات زادت نسبة نجاح الأولاد بالنسبة للبنات.
ففي التجارب التي أجريت وشارك فيها المئات من الطلبة من كلا الجنسين لوحظ أن نسبة نجاح الطلاب إلى الطالبات في مستوى +420 هو 1.5÷1 وفي مستوى +500 (أي في تجارب وامتحانات أصعب).
كانت النسبة 1÷2، وفي مستوى +600 أصبحت النسبة 1÷4 وفي مستوى +700 (وهو أعلى مستوى) وصلت النسبة إلى 1÷ 13 كما لوحظ أن الفروق المتعلقة بالجنس تتوضح أكثر كلما تقدم العمر. فهرمون الرجولة يقوي قابلية الرجل المستندة إلى النظر والمتعلقة بالفضاء-المكان، بينما يُضعف هرمون الأنوثة هذه القابلية. لذا تتوضح فروق القابلية في علم الرياضيات عند الرجل بعد بلوغه ونضجه.
تناول الباحثون النظرية القائلة بأن الطلاب أكثر نجاحاً في المنطق الرياضي بينما الطالبات أكثر نجاحاً في عمليات الجمع والطرح… تناولوا هذه النظرية بالفحص والنقاش فأعطوا مفردات في علم الرياضيات إلى الطلاب تختلف عن المفردات المعطاة للطالبات. ولكن الفروق في القابلية في علم الرياضيات لم تظهر إلا بعد إعطاء المفردات نفسها لكلا الجنسين.
ولتفسير هذا الأمر ذكروا ما يأتي: “إن معظم مدرسي الرياضيات هم من الرجال، لذا فإن لغة علم الرياضيات ولسانها لغة ذكورية ولا تناسب الطالبات”.
الانقلابية في فلسفة التعليم
لذا نستطيع القول بوضوح بأن على نظام التعليم عندنا قبول وجود هذه الفروق بين الجنسين وأخذها بنظر الاعتبار وتجديد نظام التعليم حسبها. فإن كنا نرغب في تشويق الطالبات وحثهن للدخول إلى كلية الهندسة، علينا أن نجعل درس الرياضيات في المدارس أسهل بالنسبة للطالبات، وهذا يحتاج إلى تعليم الطالبات هذا الدرس بشكل مناسب لعقولهن.
هناك أدلة تبرهن على إمكانية التغلب على العقبات التي يصادفها الطلاب الصغار في مراحل التدريس الأولية، فهم يلاقون في البداية صعوبة في التعلم لأن المناهج الدراسية موضوعة حسب عقول وقابليات الطالبات، ولكن إصرار عوائل الطلاب على قيام أبنائهن بالتعلم يدفع هؤلاء الطلاب إلى اجتياز هذه العقبة وتعلم القراءة والكتابة بسلاسة. ولكن الطالبات لا يستطعن اجتياز عقبة تعلم العلاقات المكانية-الفضائية بسهولة، أي بينما يستطيع الطلاب اجتياز الصعوبات التي يلاقونها في المراحل الأولى من التعلم لا تستطيع الطالبات تطوير قابلياتهن فيما يتعلق بالمكان-الفضاء.
والنتيجة التي نخلص إليها في الختام هي وجوب تقويم الطلاب والطالبات في النظام التعليمي حسب قابلياتهم الفطرية لكي يمكن الاستفادة من هذه القابليات بشكل صحيح. وهذا يستوجب وضع مفردات مختلفة في مناهج التعليم للطالبات وللطلاب تكون متلائمة مع قابلياتهم واستعداداتهم الفطرية. ونحن نأمل زيادة في البحوث العلمية في هذا المجال لكي يمكن الاستفادة بشكل أفضل من قابليات كلا الجنسين.
__________________
الهوامش
(1) IQ: intelligence guatient: أي حاصل الذكاء أو درجة الذكاء ونحصل عليها بقسمة السن العقلي للإنسان على عمره وضرب حاصل القسمة في مائة. (المترجم).
(2) لأن الفص الأيمن يسيطر على الجزء الأيسر من الجسم. والفص الأيسر على الجزء الأيمن منه (المترجم)