إن هذا الكتاب المرسوم بالقرآن كتابٌ غير عادي تماماً. إنه كلام من طبيعة أخرى، وخطابٌ من عالم آخر. ولكن العادة تضعف الحس البشري؛ فليس لنا معشر البشر إلا الوقوف على ضفافه الفسيحة، وتَلَقِّي أمواجه بصدورنا، نتذوق من خلالها مواجيد الإيمان، ونشاهد سُبُحات الجلال والجمال.
إن هذا القرآن الكريم ينبئ عن نفسه ويعرف بطبيعته وماهيته. إنه يتكلم إلى الإنسان من خلال بعده الكوني، ومصدره الرباني. ومن هنا فإنه أعمق من أن يحيط به الإدراك المادي المجرد: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(الشورى:51) ولذلك فإن أسرار آياته ترتبط جميعا بحقائق الكون. فهو فهرست الوجود، والكشاف الجامع لكل موجود، إذ هو ينتمي إلى عالم “الأمر” ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾(الشورى:52). إنه يمثل في حقيقته وفي وجدان المتبصر لبصائره روحَ الحقائق كلها، فلا حياة لها إلا به.
إن عظمة القرآن تتمثل أساسا في أنه “كلام الله رب العالمين”. إن ما يبهر الإنسان من ذلك ويفيض مشاعره أن القضية هي من العظمة والرهبة بحيث يستحيل على القلب البشري تحمل مواجيدها، بدءاً بالتفكر في هذا الكون الشاسع الممتد من فضاءات لا يحدها بصر ولا تصور ولا خيال، وما يسبح فيه من نجوم وكواكب ومجرات وسدم غائرة بعيدة بملايين السنوات الضوئية، وما يحيطها من سماوات بعضها فوق بعض، وما يعمرها من خلائق نورانية مما لا يُدرك له شكل ولا صورة، إلى ما بين هذا وذاك من طبقات الزمان المختلفة عدّاً وتقديراً، من الأيام والسنوات، قد يختزل اليومُ الواحد منها ﴿أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾(السجدة:5)، إلى ﴿خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾(المعارج:4). وربُّ هذه العوالم جميعاً، الخالق لها، والمحيط بأزمنتها وأمكنتها كلها، المدبر شؤون حياتها ومماتها وأرزاقها، بقيوميته الممتدة من الأزل إلى الأبد، المالك زمام أحوالها بأنوار أسمائه الحسنى وصفاته العلى سبحانه وتعالى، هذا الرب الرحمن الرحيم والملك العظيم المتنـزه في مطلق علوه وسموه وجلاله وكبريائه؛ يقدر برحمانيته ورحمته أن يكرم الإنسان هذا المخلوق الضعيف القابع في الأرض، هذا الكوكب الضئيل السابح في بحر عظيم زاخر بأمواج السدم والمجرات، فيكون من أعظم مقامات هذا التكريم أن يخاطبه بهذا الكلام الإلهي العظيم: القرآن الكريم!
فكيف للنسبي الفاني إذن أن تتحمل مواجيدُه كلام المطلق الباقي؟! كيف للقلب المحكوم بالزمان والمكان أن تستوعب خفقاتُه المعدودة وأنفاسُه المحدودة وقْعَ الكلام الخارق للزمان والمكان؟!
وإن الله إذا تكلم سبحانه تكلم من علُ، أي من فوق؛ لأنه العلي العظيم سبحانه وتعالى، فهو فوق كل شيء، محيط بكل شيء علما وقدرة، إنه رب الكون: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾(فصلت:54). ومن هنا جاء القرآن محيطاً بالكون كله، متحدثاً عن كثير من عجائبه، قال تعالى في سياق الكلام عن عظمة القرآن: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الواقعة:75-80).
وهذا المقال يرمي إلى إبراز قضيتين:
الأولى: كون القرآن خطاباً كونياً بما هو روح من أمر الله.
والثانية: بيان أنه بذلك معراج للتعرف إلى الله جل علاه.
الأولى: كونية القرآن الكريم
إن معنى “كونية القرآن” لازم من لوازم كونه “كلام الله رب العالمين”. فالربوبية قاضية بكل معاني الشمول والامتلاك والسلطنة؛ ذلك أن “القرآن” من حيث هو كلام رب العالمين، متضمن لمعنى الربوبية الجامعة لكل عناصر الكون امتلاكا وقهراً. كما أن الكائنات من خلاله تدور جميعها حول هذا المعنى، سالكة إلى الله خالقها، منجذبة إلى نوره تعالى. ولذلك كان القرآن -وهو خطاب الله إلى الإنسان- خطاباً كونياً أيضاً. ويمكن بيان “كونية القرآن” من خلال الخصائص الثلاث الآتية:
أ-القرآن قراءة لكتاب الكون، وكشف لأسراره: ومعنى ذلك أنه كتاب كاشف للغز الحياة بصورة بسيطة. فهو يقدم الصعب المعقد تقديماً سهلاً ميسراً، فسهل على العامة والخاصة قراءة مقاصده من خلال أبعاده الكونية؛ إذ يلفت انتباه الإنسان إلى مظاهر الكون وحقائقه ليتفكر في خلق السموات والأرض، كل على حسب طاقته وسعة إدراكه. فيكون القرآن الكريم بكونيته هذه خطاباً لجميع الناس بجميع مستوياتهم الثقافية واختلافاتهم اللغوية والعرقية. وهو ضرب من ضروب الإعجاز. ومن هنا كان القرآن بحقٍ مفسرَ كتاب العالم.
بـ-القرآن روح الكون: ومعنى ذلك أنه ما دام المتكلم به هو اللهَ رب العالمين -بالاعتبار الذي ذكرنا- أي “خالق كل شيء” سبحانه، فإنه لا شيء إلا وهو راجع في حقيقة وجوده إلى حقائق القرآن الكونية. وما علمنا ذلك كله إلا من خلال القرآن الكريم الذي هو كلام رب العالمين الخالق لكل شيء. فالقرآن يمثل -من حيث حقائقه- حقائق الكون كله، بدءا بقصة الخلق إلى غاية الإعادة من يوم القيامة ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾(الأنبياء:104)، ثم البعث والنشور، فالمصير. فلو تُصُوِّر عدم حقائق القرآن -وهو فرض محال- لاستحال تصور وجود العالم الكوني كله.
ثم إن حقائق القرآن التي هي التفسير السليم لنظام الكون، هي وحدها القادرة على الحفاظ على ذلك النظام الكوني في العقل. ولو افترضنا تفسيراً غيرها، لعمت الفوضى تصورات العقول، ولاختل التوازن في الفكر، بتصورات لا يمكن إلا أن تؤدي في النهاية إلى افتراضات تقضي في المنطق العقلي إلى اختلال الكون كله في التصور. وبهذا المعنى كان القرآن هو روح الكون.
جـ-القرآن محيط بمفهوم الزمان الكوني: إذا كان القرآن كلام الله رب العالمين، فإنه صفة له سبحانه؛ لأن الكلام صفة للمتكلم. وقد عُلم أن الله سبحانه وتعالى محيط بالزمان والمكان. فهو فوق كل شيء ومحيط بكل شيء، لأنه تعالى خالق كل شيء. من هنا إذن كان القرآن محيطاً بالزمان الكوني: الماضي والحاضر والمستقبل جميعاً، ثم بالزمان الأرضي، وهو الزمان بالتقدير البشري الدنيوي مما نعد به التاريخ والأعمار، وكذلك بالزمان المعراجي بنوعيه: الأمري والملائكي. فالزمان الأمري هو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾(السجدة:5)، والزمان الملائكي هو المشار إليه في قوله سبحانه: ﴿تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾(المعارج:4). وكذلك الزمان العندي وهو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾(الحج:47).
ثم الزمان الأخروي وهو الزمان الخالد السرمدي الذي لا ينتهي أبداً مما يكون بعد إعادة الخلق، حيث قيام يوم الدين، من بعث وحشر وحساب وجنة ونار. فحديث القرآن عن ذلك كله حديث جامع مانع. ومن هنا كان محيطاً بكل الزمان، مما ينتسب إلى عالم الغيب أو إلى عالم الشهادة.
ذلك هو القرآن… كلام من أحاط بمواقع النجوم خلقا وأمرا وعلما وقدرة وإبداعاً. فجاء كتابه بثقل ذلك كله، أنزله على سيدنا محمد ، من بعدما هيأه لذلك وصنعه على عينه سبحانه جل وعلا، فقال له: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾(المزمل:5).
ومن هنا لما كذب المنكرون بالقرآن للقرآن، نعى الله عليهم ضآلة تفكيرهم وضحالته وقصور إدراكهم وضعف بصرهم عن أن يستوعبوا بعده الكوني الضارب في بحار الغيب، فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(الفرقان:5-6) وإنه لرد عميق جداً. ومن هنا جاء متحدثاً عن كثير من السر في السماوات والأرض؛ قال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾(الكهف:54)، وقال جل وعلا: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾(فصلت:53-54).
الثانية: القرآن معراج التعرف إلى الله
إن أول مقاصد القرآن الكريم إنما هو تعريف الناس بالله، المتكلم بالقرآن. ولذلك جاء تعريف الله لذاته سبحانه بأسمائه الحسنى مباشرة بعد التنبيه على عظمة هذا القرآن -كما جاء في سورة الحشر- كأنه قال: اعرف القرآن أولاً تعرف الله. أَوَليس هو تعالى المتكلمَ بالقرآن؟ قال جل وعلا: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الحشر:21)، فقال بعدها مباشرة: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(الحشر:22-23).
إن الذي ينصت إلى خطاب الفطرة في نفسه يسمع نداء عميقا يترجم الرغبة في معرفة من أسدى إليه نعمة الوجود، ذلك الإنسان مفطور على شكر من وصله بمعروف. ومن هنا نخلص إلى نتيجة وهي “حق الخالقية” هو مفتاح التعرف إلى الله.
وهذه حقيقة قرآنية كبرى تترتب عليها أمور كبيرة في حياة الإنسان. ذلك أنه كلما نادى الله الناس في القرآن بالاستجابة لأمره التعبدي ناداهم من حيث هو خالقهم، هكذا، بهذه الصفة دائماً، وهو أمر مهم فيما نحن فيه من طريق المعرفة بالله، أي إنه تعالى يسألهم أداء “حق الخالقية”، هذه الصفة العظيمة لذاته تعالى، التي بها كنا نحن الناس هنا في الأرض نتنفس الحياة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:21-22)، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾(النساء:1).
هاتان آيتان كليتان من القرآن العظيم، تعلق الأمر فيهما بالعبادة والتقوى، وما في معناهما من الانتظام في سلك العابدين، وفلك السائرين إلى الله رب العالمين، إثباتاً لحق الله من حيث هو خالق للبشر. ولا يفتأ القرآن يذكّر بهذه الحقيقة باعتبارها مبدءاً كليا من مبادئ الدين والتدين، وأنها العلة الأولى منه، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:51) إنها آية كونية عظمى.. إنها مفتاح من مفاتيح فهم القرآن العظيم، وباب من أبواب معرفة الربوبية العليا.. قال تعالى في سياق الحِجاج: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾(نوح:13-14). إنه تعالى ربط حقه سبحانه على عباده بمبدإ خلقهم أطوارا.. فكلما ازداد المنكرون تعنتا ازداد القرآن إفحاما في بيان تفاصيل الخلق. فتلك حجة الله البالغة إجمالا وتفصيلاً.
وكما كانت تلك هي حجة القرآن في الدعوة إلى العبادة، وإثبات “حق الخالقية” لله الواحد القهار؛ كانت هي عينُها حجته في الدعوة إلى التوحيد ونفي الحق الوهمي للشركاء، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(الروم:40). وبهذا المنطق أيضا رد الله على المشركين، كما في قوله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾(الأعراف:191). وقوله سبحانه: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾(النحل:17). فما كان هذا البيان والتفصيل لقضية الخلق ليكون؛ لولا أنها قضية كونية كبرى، ينبني عليها ما ينبني من مصير وجودي في حياة الإنسان، هذا المخاطب بها ابتداء.
إن “قضية الخلق” تمثل مفتاح فهم الربوبية، إنها المبدأ الكلي الذي على أساسه خاطب الله الإنسان بكل أمر ونهي، بل إنها تمثل البنية الأساس لخطابه، الذي عليه يتفرع كل شيء، مما قرره في العقيدة والشريعة على السواء. نعم، “حق الخالقية” إذن هو مفتاح التعرف إلى الله جل وعلا.
إن إحساس الإنسان بوجوب هذا الحق عليه يخرجه من التيه الوجودي، أو بعبارة قرآنية يخرجه ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾(البقرة:257). وأيّ ظلام أشد من التصور العبثي للحياة! فبأي نفسية يعيش الإنسان هذه الحياة وهو يرى أنما غايتها إلى العدم المطلق والفناء الرهيب، الذي ما بعده حياة؟!
إن السالك حينما يذوق من معرفة الله لمعات وأنوارا يتعلق قلبه بحب الله تعالى، لأنه هو الذي أوجده وخلقه، وإنما يجد الجمال الحق في تلك المعرفة.. وإنما نرى جمال الله سبحانه وتعالى في شعورنا القوي بجمال خالقيته تعالى وكمال قيوميته وحسن إجابته وكرم رعايته، وقرب رحمته وأنسه.
فلم يكن عبثاً إذن أن يتوارد ذكر الأسماء الحسنى والصفات الإلهية العلا عبر كل فصول القرآن. فهي كالنجوم الدرية تتلألأ بالنور الرباني العظيم في تلك المسافات جميعاً، ما بين السوابق واللواحق والقرائن، بما يجلي للعبد الذاكر جمال الله وجمال المعرفة به، فيعبّد له طريقها سالكة جلية. ولكن كل ذلك إنما يكون على قدر شهود القلب وصفاء البصيرة وصدق الإقبال على الله عند الدخول في مشاهد الذكر والتلاوة للكتاب.
إن العبد الذي أيقن بمعرفة الله يفيض قلبه بالمحبة، محبة كل شيء، إذ يجد أخوة إيمانية في وجدانه مع كل شيء من الكائنات، عدا من تولّى. فالكل مستغرق في عبادة الله سائر إليه عبر مسالك المحبة ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(الإسراء:44). ولقد جعل الله لنبيه داود معجزةَ كشفٍ لبعض ذلك، فكانت الجبال والطير تسبح بتسبيحه وتدعو بدعائه، في مجالس تفيض بالنور والجمال، تلتقي على موعد بالغدو والآصال، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾(ص:18-19). إن الكون كله في وجدان المسلم مثل طيور داود عليه السلام، مجالس أنس وذكر تشعره بالأخوة الكبرى في السير إلى الله عبر أفلاك العبودية: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(الأنبياء:21)، فالمعرفة طريق لا تنفد تجلياتها، ولا تنتهي إشراقاتها إلا بلقاء الله، حيث ينكشف سر السير إلى الله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾(الحجر:99)، ويرى العبد هناك بعين اليقين حقيقة الوجود الدنيوي من خلال وجوده الأخروي: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(ق:22).
إن المعرفة بالله تملأ القلب أنسا بالله، ثم أنسا بالحياة، وأنسا بالكون والكائنات، وأنسا حتى بالموت الذي لن يرى فيه العبد المحب -إذ يقف عليه- إلا موعدا جميلا، للقاء جميل، مع رب جميل. فذلك ذوق الإحسان في قمة المشاهدات الإيمانية. وإنما “الإحسان أن تعبد اللهَ كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (متفق عليه).
وعليه فإن هذا الإنسان بما هو مخاطب بهذا القرآن أساسا بأبعاده “الأمرية” المذكورة هو إنسان “كوني” بامتياز. فهو لا يسكن الأرض إلا بقدر ما يسكن الكون كلَّه حقيقة. وبما أن البشر شتى خلقا وتقديرا وسعيا وتدبيرا، فقد كان هذا القرآن على نفس تلك السعة والشمول من الإمكانات المتصورة للنشاط الإنساني في الأرض على الإطلاق. ولذلك جاء جامعا لكل معارج الكتب السماوية السابقة بدون استثناء؛ ففيه معارج إبراهيم ومعارج موسى ومعارج داود ومعارج عيسى ثم فيه معارج أخرى فُضْل تفرد بها القرآن الكريم لم تفتح قبله قط في التاريخ. وكل ذلك جميعه كان معارج لنبي هذه الأمة الرسول الجامع المانع سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
إن هذا القرآن بعمقه الكوني هذا، المطلق عن الزمان والمكان يحقق أخوة إنسانية كبرى، لا يمكن أن تتحقق على هذا الوزان بسواه؛ لأنه شبكة اتصال وجودية ذات أنسجة أفقية وعمودية، فيها مداخلُ لا حصر لها للإمكانات البشرية. ولذلك فهو يتيح لكل إنسان مهما كانت ميوله وإمكاناته الطبيعية والفطرية والاجتماعية والثقافية أن يتصل بحقائق الوجود الحق: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾(الشورى:52-53). وبما أن شبكته موئلها -في نهاية المطاف- واحد، فهي تصل في الختم إلى الحق الواحد ﴿أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾(الشورى:53)، وهنالك يجد المؤمن لذة التعرف إلى الله جل وعلا.
بناء على ما تقرر من أن غاية الخلق الإلهي للإنسان إنما هي التعرف إلى الله جل علاه، فقد جعل له صلى الله عليه وسلم وسيلة من أعظم الوسائل التعبدية، ألا وهي التعارف. فالإنسان بما هو مفطور خلقة على سنة الاجتماع البشري -إذ خلق من ذكر وأنثى وجعل شعوبا وقبائل- فقد خلقت أرواح الناس لتلك الغاية على ائتلاف واختلاف بقصد إنتاج التكامل المعرفي في طريق السير إلى الله تعالى. وهذا من أعجب السنن الإلهية في الخلق البشري وألطفها، وهو مفهوم من آية قرآنية وحديث نبوي شريف. فأما الآية فقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات:13). وأما الحديث فهو قوله عليه الصلاة والسلام: “الأرواح جنود مُجنَّدة، فما تعارف منها ائْتلف، وما تناكر منها اختلف” (متفق عليه).
إن التعارف العمراني ضروري للإنسان، ليس فقط لأنه لا يمكن أن يعيش بصورة انفرادية اعتزالية، فهذا أمر بديهي، ولكن ليكون ذلك مقدمة لإنتاج حوار في المجال الروحي، والتداول المعرفي بحقيقة المعرفة بالله في طريق السير إلى الله.
إن العلاقات الأفقية على المستوى البشري العمراني في شبكة الاتصال المعرفية إذا أتيحت لها ظروف الحوار الهادئ الصادق، والتعارف البناء الواثق، تفضي في النهاية إلى علاقات عمودية متوازنة ترتفع بالإنسان إلى السماء في طريق معرفة الله، بل في طريق التكامل في تلك المعرفة.
إن هذا القرآن محفوظ بحفظ الله محروس بقدرته جل علاه، كما نص عليه القرآن بآيه المحكم وكما رسخته حقائق التاريخ الطويل. ومن هنا فإن كل من تعلق بمحفوظ فهو محفوظ بالضرورة.