تطوير الذات أم حل ألغاز الشخصية؟

أصبح تـعبير “تطوير الذات” تقليعة السنوات الأخيرة، فهل كان الناس منذ آلاف السنين من تاريخنا يعيشون حياة غير متطورة؟ وبتعبير آخر هل نظرة السنوات العشر الأخيرة أصبحت تتحدى ما تم تراكمه خلال آلاف الأعوام؟
لا يمكن الجواب طبعًا على هذا السؤال بـ”نعم”. بل على العكس من هذا، فإن الناس في العهود السابقة أسسوا توازنًا -بمقياس كبير أو صغير- بين عالمهم الداخلي والخارجي طوال حياتهم. أما العالم الغربي اليوم، فهو على الرغم من نجاحه نجاحًا باهرًا في السيطرة على العالم الخارجي، إلا أنه يعيش مشاكل كبيرة في صدد العالم الداخلي للإنسان. فالتوازن “الداخلي-الخارجي” قد اختل تمامًا ضد الإنسان. لذا يبدو “التطوير الذاتي” نوعًا من قيام الثقافة والفلسفة الغربية بالبحث عن حل.
لقد تأسست مدنيات وحضارات عديدة طوال التاريخ الإنساني، وكانت لكل حضارة من هذه الحضارات عهود أزمات وعهود صعود من زاوية تحقيق الذات الإنسانية.
وفي السبعينات أصبح تطوير الذات إحدى القنوات التي حاولت الحضارة الغربية استخدامها لحل مشاكلها والوصول إلى تأمين سعادة الفرد وإزالة سلبيات الفلسفة السائدة في الغرب، وكتب الشيء الكثير في هذا الصدد وألقيت محاضرات عديدة. وأما في بلادنا فقد بدأ الاهتمام بهذا الموضوع في تسعينات القرن الماضي، وفي عام 2000 م وما بعده انتشر ودخل كل ميادين الحياة.

جوانبه السلبية

وكما في الأمور الأخرى يحتوي قطاع “تطوير الذات” على تناقضات وازدواجيات. فهو في الحقيقة وسيلة لبحث الإنسان عن جوهر ذاته وعما يفتقده، غير أنه يُستغَل من قِبل الفئة التي تملك القوة والرأسمال والقدرة الاقتصادية؛ فهؤلاء يوجهون هذا البحث نحو قنوات مفيدة لهم ولمصالحهم الشخصية، إذ لتطوير الذات جوانب مؤثرة في ساحة عمل العمال والإنتاج وفي العلاقات الاجتماعية كذلك.
إن المعلومات التي تُنتَج في هذا المجال مختلفة جدا وذات أهداف شتى. هناك العديد من العقائد والثقافات والمدارس الفلسفية التي تحاول نشر أفكارها تحت يافطة “تطوير الذات”. ولما كانت الطبيعة لا تتحمل الفراغ، فإن الذين يقعون في فراغ معنوي وروحي نتيجةَ بُعدهم عن التربية المتوازنة والثقافة الدينية وعن الثقافة الفلسفية المنضبطة والفنون الجميلة لا بد أن يبحثوا عمّا يملأ هذا الفراغ. واليوم يحاول قطاع تطوير الذات ملء هذا الفراغ.
وكما يتم استعمال قطاع تطوير الذات كبديل للدين عند الذين نشأوا بعيدين عنه، كذلك يمكن استعماله لعرقلة توجه الناس إلى الدين للحصول على الزاد الروحي الضروري للإنسان وتمييع معلوماتهم الدينية. وهناك جماعات تنظم المناهج والبرامج التربوية القائمة على خلط عقائدِ وأديان بلدان الشرق الأقصى ببعض العقائد والفلسفات القديمة وتقديمها تحت عنوان “تطوير الذات” من أجل إفساد الأديان السماوية وتلويث صفائها ولاسيما الدين الإسلامي.
والجانب السلبي الآخر الملاحظ في تطوير الذات هو قيامه بتضخيم أنانية الأفراد وتوجيههم لمزيد من الإنتاج والاستهلاك ولمزيد من اللهو، وذلك انطلاقًا من الزعم القائل بأنه “لكي تنتج كثيرًا عليك أن تستهلك كثيرًا، ولكي تستهلك كثيرًا عليك أن تلهو كثيرًا”. وهكذا يرومون تشجيع المجتمع الاستهلاكي.

جوانبه الإيجابية

من القنوات الإيجابية الموجودة في قطاع تطوير الذات الدعوة إلى المحافظة على حقوق الإنسان وكيف أنه ليس سلعة للاستهلاك. كما يمكن لهذا القطاع أن يكون داعيًا للتأكيد على أهمية الفرد وعلى مسؤوليته ومساعدته على توسيع قابلياته. كما لا يمكن إنكار أنه يمكن استخدامه في حل المشاكل العائلية ومشاكل الطلبة واستغلالُه إيجابيا في ساحات وميادين عديدة. لذا بدلاً من رد جميع أوجه تطوير الذات دفعة واحدة نستطيع أن نختارالنواحي الإيجابية ونفرزها عن غيرها ونصفّيها ونغَربلها وننتقي منها ما يلائم ثقافتنا وهويتنا وعقائدنا. لذا نؤكد هنا على أن من لم يحصل على إرشاد ومساعدة من المختصّين في هذا القطاع -الذي يختلط فيه النافع بالضار- لا يستطيع الاستفادة منه الاستفادة الصحيحة والمفيدة.

الإنسان الكامل

كما ذكرنا تمتد جذور تطور الذات إلى المشاكل الإنسانية والمشاكل الاجتماعية التي ظهرت في الغرب في عهد الثورة الصناعية، ثم إلى عصر المعلومات والحداثة وما بعد الحداثة وإلى الجهود المبذولة في الوصول إلى حل هذه المشاكل. وهو قطاع عُدّ في المجتمعات التي بعدت عن هويتها وثقافتها وعقائدها وكأنه يقدم الحلول لكل المشاكل. والأنموذج الذي يستهدفه ويتناوله هو التعريف الغربي الناقص لأنموذج الإنسان. وهو تعريف لا يتطابق ولا يتلاءم مع مفهوم الإنسان في عقيدتنا وحضارتنا وثقافتنا. ومفهوم الإنسان عندنا يستند إلى مفهوم عميق للوجود وللعلاقة بين الإنسان والكون المماثلة للعلاقة بين البذرة والثمرة. ويصل هذا المفهوم إلى الذروة بأنموذجه في “الإنسان الكامل”، وهو أنموذج كوني لا يحتاج إلى أي نماذج إنسانية أخرى. ونستطيع القول بأن العديد من المواضيع التي يتطرق إليها تطوير الذات تجد عمقها الحقيقي في عالم ثقافتنا وعقيدتنا.

رؤيتان مختلفتان

يمكن أن تتوافق رسالة الأديان مع النظريات والنوايا المتداولة في قطاع تطوير الذات أو تتناقض معها حسب زاوية نظر هذه النظريات ونياتها. ولكن إذا تناولنا هذه المسألة بنظرة شاملة ومن حيث قواعدها وأسسها، رأينا أن نظرة
الأديان السماوية إلى الإنسان تختلف عن نظرة قطاع تطوير الذات إليه، فلكل نظرةٍ أنموذجُها الإنساني المختلف. فمثلا بينما يتم النفخ في أنانية الفرد ويوجَّه كل اهتمام لها ولتضخيمها في قطاع تطوير الذات، نجد أن الأديان السماوية تَعد “النفس الأمارة” أكبر عدوّ للإنسان، لأن للنفس ماهية تحتاج إلى التربية والتزكية. فبدلاً من تضخيمها يجب تربيتها وتوجيهها لطاعة الله تعالى وتنفيذِ أوامره. فالمهم هنا هو أنه كيف يتم استخدام الأفكار التي تجول في هذا القطاع وما النية الموجودة وراءها، ولأي غاية تستخدم؟ فهل نستخدمها لتقوية أنانية النفس أم لمعرفة النفس وتربيتها وجعلها مرآة صافية تتجلي فيها أسماء الله الحسنى؟
إن تطوير الذات يربي الفرد على اتباع شهوات نفسه ويجعله أسيرًا لها دون أن يدري، بينما توضح الأديان السماوية للإنسان كيف يستطيع لجم شهواته وكيف يسيطر عليها وكيف يزينها بالفضائل، وتريه الطرق الموصلة إلى الإنسان الفاضل. فالنظرة الأساسية لقطاع تطوير الذات للإنسان تختلف عن نظرة الأديان السماوية، ولكن إن كانت نظرتنا لها نظرة تجزيئية فسنشاهد كثيرًا من الأجزاء المتشابهة بينهما.

الفراغ الروحي ورواج الفكرة

هناك عوامل عديدة في زيادة الاهتمام بـ”تطوير الذات”.
• إننا لا نعرف العديد من القواعد المهمة في ثقافتنا وفي عالم عرفاننا وحضارتنا، ولم نحصل على أغذية كافية منها ولم ندرك أعماقها.
• نظرًا لأن الآثار المهمة لعالمنا وحضارتنا لم تقدَّم لنا في صورة عصرية، فهي لا تبدو جذابة ولا تصل إلى قطاعات واسعة من الجماهير.
• هناك شعور بمركب النقص تجاه قيَمنا، وعدمُ ثقة بها. وقد لعبت الأفكار المسبقة التي تقول بأن كل ما جاء من الغرب فهو صالح وجيّد دَورًا مهمًّا في هذا الصدد.
• يبدو تطوير الذات بديلاً لملء الفراغ الموجود عند الذين لم يتلقوا تربية دينية صحيحة، لذا فهو يرى تأييدًا وتشجيعًا من قبل بعض البؤر والأوساط المعلومة.
• يقوم تطوير الذات بإيهام الناس بجنّة دنيوية خادعة وزائلة دون الإشارة إلى القيم الاجتماعية التي يؤكد عليها الدين وإلى دورها في هذا الميدان وإلى الروابط الروحية للإنسان.
• أخذ قطاع تطوير الذات على عاتقه مهمة إكساب الفرد القدرةَ والقوة دون أن يهتم بأي حدود أخلاقية، وذلك بنقل الثفافات والعقائد والقيم المعنوية والحاجات النفسية والثقافية للإنسان إلى السُوق الاقتصادية كسلعة من السلع. وأخطر ما في هذا الأمر أنه يحوّل الحاجات المعنوية والروحية للإنسان إلى سلعة من سلع الاستهلاك.
• إن العديد من الأغنياء الذين لم يسعدوا في ظل طراز الحياة المادية المفرطة في الغرب بدأوا يبحثون عن الراحة النفسية في أديان الشرق الأقصى. وفي ظل شعار “كلُّ شيء قابل للشراء”، تُعطى في قطاع تطوير الذات طرقُ الاتصال والبيع والشراء للوصول إلى النتائج دون الاهتمام بأي نية حسنة، بحيث ينقلب الأمر إلى مجرد فن لخداع الناس والدفاع عن النفس. لذا نرى أن طرق الحصول على القوة والقدرة عن طريق الشهرة والشهوة قد تحولت في هذا القطاع بطرق التعليم المعطاة إلى حرفة.
وأخيرًا فإن توجيهات ومحتوى تعاليم تطوير الذات المقدمة إلى الناس بطرق محبّبة إلى الإنسان وبطرق اللهو تؤدي إلى زيادة الطلب في السوق.

التوترات النفسية

في هذه الأيام هناك زيادة متسارعة في الاضطرابات النفسية. وحسب تقارير منظمة الصحة العالمية يُنتظر أن تصل نسبة الذين يعانون من الاضطرابات النفسية إلى 20% خلال السنوات العشر القادمة. وسيزداد التوتر النفسي والقلق والخوف والأمراض العصبية والنفسية الأخرى. ففي المجتمعات التي لا تكون مهيأة للتغيرات والتحولات السريعة تزداد أمراض ازدواج الشخصية وتحطم الشخصية وجنون الاضطهاد وجنون العظمة والأمراض العصابية والميل إلى العدوانية. لذا فإن التدابير المتّخذَة لصيانة الصحة النفسية والعقلية ستزداد أهمية في السنوات القادمة. والمشاكلُ الموجودة حاليا هي زيادة الأمراض النفسية مثل الأنانية والنرجسية (عبادة الذات) والماسوشتية (أي التلذذ بالتعذيب الواقع عليه) والجري وراء الملذات والميل لاستعمال العنف.
وتقوم بعض قنوات قطاع تطوير الذات بتشجيع الأنانية والنرجسية وعبادة الشهرة والصيت والنفخ فيها، وزيادة نماذج الرياء والنفاق في المجتمع. وكما قال العالم النفسي البروفسور “راسم أداصال”: “لقد أدّى خلق النجوم في الفن والسينما وكرة القدم والموسيقى إلى خلخلة التوازن النفسي للإنسان ونسف توازن علاقاته الداخلية والخارجية. فإن لم تتم السيطرة على أهواء الإنسان ونزواته وحبه الشديد للشهرة وللنجاح في مهنته، فإن تعاليم تطوير الذات التي تشجع هذه الميول ستؤدي إلى صعوبة المحافظة على صحته العقلية والروحية”. وفي هذه الأيام التي اشتدت فيها سرعة التحول والتغير في الثقافة والقيم والعقائد وزادت فيها غربة الفرد عن قيمه ومُثُله وثقافته الأصلية سيظهر بالتأكيد العديد من الخلل النفسي في المجتمع.

الفروق الفردية

كل إنسان يأتي إلى هذا العالم بقابليات مختلفة، فإن لم يعرف الإنسان نفسه تمامًا وبدأ بتجارب عشوائية حولها جَرَّها إلى الفراغ وإلى الهاوية، لأن الوصفة الطبية الواحدة لا تؤدي إلى نفس النتيجة عند الجميع. لذا فإنّ كتُب تطوير الذات وتعليماته والمحاضرات التي تلقى حوله لا تصلح للجميع ولا تكون ذات فائدة للكل. لأن الفائدة لا تحصل إلا عندما يتم أخذ الفروق الشخصية واختلاف الأمزجة والقابليات عند الناس بنظر الاعتبار. فيجب تقديم خدمات شخصية خاصة لكل فرد. فمن الخطأ القولُ لشخص: “خذ هذا الكتاب واقرأه فهو حل لجميع المشاكل”. وهو شيء غير صحي وغير مشبع. كما أنه لا يمكن لإنسان أن يطور نفسه بمجرد قراءة كتاب أو كتابين أو أخْذ توجيه لبضع ساعات. فمعرفة الإنسان لنفسه ولقابلياته وبذلُ الجهد لتطوير نفسه وتعميق إنسانيته يستغرق سنوات عديدة. والكتب الموجودة حاليا في الأسواق كتب تحتوي على توصيات عامة وتقدم نماذج غربية، والمعلومات التي تقدمها معلومات سطحية. وأمر آخر مهم وهو وجود صفات عامة مشتركة عند الأشخاص الذين يبرزون في هذا القطاع، فهم عادة أشخاص نشطون مغرمون بالشهرة ومهيأون لتقبل أنواع الإيحاءات والتلقينات ومهتمون بالمظاهر.

الفكر المستورد ومدى نجاحه

يجب معرفة الآليات التي تلعب دوراً مهماً في وجود الإنسان وبقائه معرفة صحيحة. فللإنسان ناحية فردية وأخرى اجتماعية. وهو يأتي إلى الوجود بميراث جيني وميراث ثقافي ويتشكل حسبهما ويكتسب هوية معينة. والآليات الرئيسية للثقافة هي الدين واللغة والتقاليد. هذه العوامل الثلاثة هي التي تشكل هوية الإنسان ولاشعورَه وماهيته سواء أ شعر بها أم لم يشعر. وتشكيل هوية الإنسان له نواح محلية وعالمية. فإن استطاع الإنسان تشكيل هويته بالعوامل والتأثيرات المحلية والعالمية كان عمله هذا إيجابيا وهويته متوازنة. فالأفراد -وكذلك المجتمعات- يحملون مميزات خاصة بهم. ولا يمكن استنساخ ثقافة مجتمع آخر وتفصيل ملابس ملائمة منها. فإن شوهد وجود أجزاء منها مناسبة جاز استعمالها بعد ملاءمتها مع التقاليد المحلية؛ وإلا حدث هنا ما يحدث عند نقل عضو إلى جسم آخر من رفض للجسم للعضو الغريب عنه. فإن نقلت ثقافة غريبة أدى هذا إلى تشكيل هوية غير صحية. واليوم نشاهد مثل هذا الأمر في مجتمعاتنا من أزمة الهوية نتيجة هذا النقل والتقليد العشوائي.

هويتنا وحلّ مشاكلنا

نستطيع القول بأن هويتنا تكفي من الناحية النظرية وتزيد. ولكن يجب هنا الانتباهُ إلى مقدارِ غنى وعمقِ ميراثنا الثقافي وتقديمُه بأسلوب عصري. فنحن نعيش عهد استهلاك وتعودنا على تغليب الاستهلاك على الإنتاج، واللهو على القراءة، والنقل والحفظ على إنتاج فكر جديد. فإن استطعنا التخلص من هذه العادة الضارة استطعنا النجاة. إذ يكفينا الميراث الثقافي الذي وصل إلينا من مئات الشخصيات الفكرية من أمثال الإمام الغزالي، وعبد القادر الكيلاني، والإمام الرباني، وابن سينا، وبديع الزمان سعيد النورسي. فمثلا كتاب “المثنوي” لجلال الدين الرومي و”رسائل النور” لسعيد النورسي في موضوع تطوير الذات إن تم تفسيرهما تفسيرًا صحيحًا، فهما خزينة ثمينة في هذا المجال. فإن استطعنا نقل قيم ثقافتنا وعقيدتنا إلى أطفالنا وشبابنا بلغةِ ونكهةِ العصر فنحن على يقين بأن الطلب على قطاع تطوير الذات -الذي ولد بسبب فراغ في مجتمعنا- سيقل. وما سيجدّ من الطلب سيغطَّى وسيؤمن من منابعنا ومصادرنا الأصلية ومن عالَم قيمنا الذاتية، وسيظهر آنذاك “تطوير الذات الخاصُ بنا”. وقد لا يكون اسمه “تطوير الذات” بل “الطريق إلى فهم أسرار النفس”.
_________________
* الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي.