أيها الإنسان (الكون)! ألستَ قسيم الكون؟ وهل يُعقل الكون إلا بك؟ وهل ينطق إلا بك؟ وهل يذلَّل الكون -بإذن مكون الأكوان- إلا لك.
إياك أن تزعم أنك جرم صغير، ففيك انطوى العالم الأكبر. لقد صنعك الله بيده. ونفخ فيك من روحه. فأنت من الروح جئت، وبالروح تعيش، وبها تصنع كل أمجادك. فالروح قبل العقل وقبل الجسد، كما أن العقل قبل المادة. وعندما تذهب منك الروح صاعدة إلى بارئها ينتهي كل شيء فيك.
في البدء كانت الروح. ثم تمضي الحضارة إلى مرحلة العقل وتدخل عالم الأشياء. أما في مرحلة الروح فالغايات قبل الوسائل، والعام قبل الخاص، والمعاني فوق المباني، والأخلاق والمثل والأشواق العليا فوق القوانين، وفوق المعادلات الدنيوية الوضعية. حتى لو كانت هذه المعادلات في إطار العدل، فالحبّ والرحمة والإيثار فوق العدل، دون إلغاء العدل.
دع الروح تعمل فيك متعانقةً مع الوحي. لأنك -بهما- تصل إلى “إنسانيتك”، وبهما تنطلق إنسانيتك من إسارها فتتفجّر حكمة ونورا.
لسوف يضاء المصباح في داخلك، سيلتقي فيك الغيب والشهادة، ستنطلق حواسك إلى مناراتها لتضيء جوانب كونك الداخلي، وإشعاعاتك الخارجية. هنا قد تتحقق فيك بعض الومضات النورانية الربانية. وقد يلتقي فيك النوران: نور الغيب ونور الشهادة.
سوف يدخل المصباح إلى مشكاتك. فلا تستطيع الشهادة الواردة إليك أن تطفئ نور الغيب، ولا يستطيع الغيب الكامن فيك أن يشلّ فاعلية الشهادة، بل إنك سترى الأشياء على حقيقتها، لأنك سترى بنور البصر والبصيرة، وبالروح والعقل والمحسوس معاً. فكل الطاقات ستتفتـّح، كما تتفتح الزهور في الربيع. وسوف يفوح منك عطر الإنسانية الربانية.
سيفقه قلبك، ولسوف تعجب أن هناك ناساً ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾(الأَعراف:179)، وستبصر عينك الأشياء وما وراء الأشياء، وسيذهلك أن هناك ناساً ﴿لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا﴾(الأعراف:179). وستلتقط آذانك كل أنغام التوحيد المبثوثة في “سيمفونية الكون” فتعرف معنى حفيف الأشجار، وخرير الأنهار والبحار، وقطرات الأمطار، بل ربما تفهم منطق الطير، ليس بالشعور السليمانيّ الساطع، بل باللاشعور الوجداني الخافت. وسوف تدرك أن موسيقى الكون لا تتناشز، بل تتناغم، حتى مع العواصف والرياح. فلكلّ دورُه، ولكلّ إيقاعه ودلالته. وما يظنه بعضهم من تناقض ونشاز إنما يعود إلى أنهم لم يفقهوا جيدا أصول الإصغاء: ﴿وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾(الأعراف:179).
عندما تترك الغيب الذي فيك يتكلم، سوف تتكشف لك ألغاز كثيرة.. سوف يدلك الغيب على حقيقة ما عجزت “الشهادة” عن تفسيره، سوف تزول عقبات الصعود، وسوف يمضي الوعي فيك إلى غايته دون قيود. كيف رأى عُمير بن الحمام رضي الله عنه أكل تمرات تساوي عمرا طويلا، فألقاها ليقطع العلاقة بالمحسوس في ساعة المفاصلة بين الشهادة والخلود. لقد أدرك الحقيقة وأراد سرعة العبور، لأن “الغيب” فيه هو الذي كان يتكلم ويعمل.
فدع الغيب الذي فيك يحمل فطرتك النقية ويتكلم ويعمل… دعه يمرّ، واترك موازينك المحسوسة رويدا، وتمهل، وحاول أن تصعد وتحلّق. ترك أبو بكر رضي الله عنه لأولاده الحصى، وهاجر مع النور إلى الأرض المنوّرة “ثاني اثنين” ليغنم، لأن الغيب فيه كان هو الذي يتكلم. فاترك الغيب يحمل فطرتك ويعمل.
قال حاتم الأصم: “لا تغترّ بموضع صالح، فلا مكان أعلى من الجنة، وقد لقي آدم عليه السلام فيها ما لقي، ولا تغترّ بكثرة العبادة فإن إبليس بعد طول تعبّده لقي ما لقي. ولا تغترّ بكثرة العلم فإن بَلعام كان يحسن اسم الله الأعظم فانظر ماذا لقي، ولا تغترّ برؤية الصالحين فلا شخص أكبر منـزلة عند الله من المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولم ينتفع بلقائه أقاربه وأعداؤه”، لأن المهم -قبل كل ذلك- أن يتكلم الغيب الذي فيك، وأن تفقه وتعلم وتقصد أن تعمل.
روي عن ابن أبي ميسرة أنه كان إذا آوى إلى فراشه يقول: “يا ليت أمي لم تلدني”، فقالت له أمه: يا ميسرة إن الله تعالى قد أحسن إليك، هداك إلى الإسلام. قال: “أجل، ولكن الله قد بيَّن لنا أنا واردو النار، ولم يبين لنا أنا صادرون عنها”. انظر كيف تكلم الغيب في أبي ميسرة فعرف الفروق بين الورود والصدور.
وقال ميمون بن مهران: لما نزلت هذه الآية ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(الحجر:43)، صاح سلمان الفارسي رضي الله عنه ووضع يده على رأسه، وخرج هاربا ثلاثة أيام لا يقدرون عليه”. فأي غيب مكنون تحرك في سلمان فأبصر المستقبل من خلال ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾(مريم:71).
قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: “ابْكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فوالذي نفسي بيده لو يعلم العلمَ أحدُكم لصرخ حتى ينقطع صوتـُه، وصلى حتى ينكسر صُلبه”، وكأنه أشار إلى معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً”،
ولكن لماذا لا نعلم العلم؟ لأن الشهادة الموجودة فينا وحدها هي التي تتكلم، أما “الغيب” الذي فينا فقد أخرسناه، حتى لا يتكلم.
عندما أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم أشهدهم على أنفسهم. لكن كيف شهد جميع بني آدم على أنفسهم؟ وأيّ بني آدم كانوا، أأبناء الحاضر المخاطب أو أبناء المستقبل؟ وأين كانوا عندما أدّوا هذه الشهادة الخالدة؟ وبأي لغة تكلموا؟ كان “الغيبُ الواعي” الذي فيهم هو الذي يشهد ويتكلّم: “ألستُ بربكم؟” أجاب الغيب الجماعي الكامن فيهم: “بلـى”.
وهكذا شهدوا على أنفسهم بلغة الغيب الواحدة التي تتكلم دون إرادتهم.. لغة القوة التي لا تحبسها إرادة، ولا يحدها زمان، ولا يحكمها وعي.. لغة الماضي والحاضر والمستقبل: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(فصلت:21). خلقكم أول مرة فاعترفتم بربوبيّته وقلتم: “بلى، شهدنا على أنفسنا”. وخلقكم ثاني مرة، أعادكم بعد بعثكم الثاني ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، فتكلمَت عنكم جلودكم، أنطقها الله الذي أنطقكم أول مرة.
في البداية تكلم الغيب الكامن فينا معترفا بالربوبية. وفي النهاية تكلم الغيب الكامن فينا معترفا بقدرة القادر، وإبداع الخالق. وبين البداية والنهاية تكلمت فينا قوى كثيرة، لكنها قوى الشهادة.
أما قوة الغيب الكامن فينا: قوة الفطرة والوعي والكهرباء المبثوثة في كياننا.. في قلوبنا وأرواحنا وأسماعنا وأبصارنا.. قوة النواة اللاشعورية والخليّة الحية الدائمة.. قوة المضغة التي لو صلحت صلح الجسد كله، والروح التي كانت في البدء، وتبقى معنا، تغدو وتروح حسب فاعليتنا وحضورنا، فإما غبنا فتوفاها الله حين غيابنا في نومنا أو موتنا؛ وإما حضرنا فأرسلها الله إلى أجَلنا المسمى.. أما قوة الغيب هذه فهي التي يجب أن نستثيرها لتتكلم فينا، بل لتعمل فينا، بل لتقودنا.
استفتِ قلبك، إنه قوتك الحقيقة، وهو المصلح والقائد… استشره دائما، واخضع له ولا تخضع لقوى الشهود حين تختلّ في يدها الموازين.
أما موازين الداخل، موازين الغيب الكامن فيك، فهي لا تختل أبدا، شريطة أن تحفظها بسور البداية: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾(الأعراف:172)، وبسور النهاية: ﴿قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(فصلت:21).