الاجتهاد -كالجهاد- من جَهَدَ، وهو لغة: استفراغ الوُسْع في تحصيل أمر مُستلزِم للكلفة والمشقة. واستفراغ الوُسْع معناه: بذل تمام الطاقة، بحيث يحس المجتهد من نفسه العجز عن المزيد عليه. وفي اصطلاح الأصوليين: استفراغ الفقيه الوُسع لتحصيل ظن بحكم شرعي. فالمجتهد هو الذي تكون لديه ملكة الاقتدار على استنباط الفروع من الأصول.
والأسباب التي تُمكن المجتهد من الاجتهاد في العلوم الشرعية -وكذلك في العلوم العقلية- كثيرة، تفاوت تعدادها لدى بعض العلماء. لكن يجمعها سببان أو شرطان:
أ-معرفة الأصول كتابا وسنة.
وربما مع تعقُّد شؤون الواقع الجديد، وتشعُّب علوم الشريعة والحضارة إلى تخصصات كثيرة ودقيقة، كانت الحاجة إلى “الاجتهاد الجماعي” كالشكل الأنسب للعصر الذي نعيش فيه.
بـ-معرفة الاستنباط من الأصول بالقياس.
هذا في الشرعيات، والحلال والحرام. أما في العقليات، فالسببان هما:
أ-معرفة الأوائل العقلية.
بـ-ومعرفة وجه الاستنباط منها.
أما تفصيل شروط المجتهد، كما حددها علماء الأصول فهي:
1-التمكن من اللغة العربية إلى الحد الذي تتحصل للمجتهد القدرة على إدراك أسرار البيان القرآني المعجز ومقاصد السنة النبوية الشريفة.
2-الفهم والتدبر لآيات الأحكام في القرآن الكريم والتي تبلغ الخمسمائة آية.
3-رسوخ القدم في السنة النبوية وعلومها رواية ودراية سنداً ومتنا، وعلى الأخص ما جاء في صحاحها ومجاميعها ومسانيدها من أحاديث الأحكام التي قدَّرها البعض بثلاثة آلاف حديث.
4-المعرفة المحيطة بالناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق المقيد في آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة النبوية الشريفة.
5-المعرفة بأصول الفقه واجتهادات أئمته فيه ومسائل الإجماع والقياس فيه.
6-الحذق لروح التشريع الإسلامي ومقاصد الشريعة الإسلامية حتى تتحصل للمجتهد ملكة الجمع والمقارنة بين النصوص المتعددة -والتي قد تبدو أحياناً مختلفة أو متناقضة- في المسألة الواحدة، والخروج منها بالحكم المحقق للمقاصد وروح التشريع.
ولقد تبدو هذه الشروط عزيزة الوجود والتحقق والاجتماع في العالم الفرد، في عصر التخصصات الدقيقة والجزئية -للعلوم- الذي نعيش فيه. لكنّ تطوّر أدوات ووسائل الطباعة والتوثيق والفهرسة والتخزين للمعلومات قد يسهل أمور الاجتهاد وييسر اجتماع شروطه لعماء اليوم أكثر مما كان ذلك ميسوراً قبل هذا التطور في سبل البحث العلمي ووسائله.
دواعي الاجتهاد
ودواعي الاجتهاد في الشريعة الإسلامية التي جعلته ضرورة من ضروراتها وقانونا وسنة من قوانينها وسننها كثيرة، منها:
أ-خلود الشريعة الإسلامية لختم الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي يقتضي الاجتهاد المحقِّق لصلاحها لمختلف العصور. فغيبة الاجتهاد يقف بها عند تلبية احتياجات عصور دون الأخرى، الأمر الذي يهددها بالجمود الذي يعجزها عن تلبية حاجات العصور المتتالية، والتي هي بحكم سنة التطور متغيرة ومتجددة.
بـ-عموم الرسالة المحمدية -ومن ثم شريعتها- للعالمين. الأمر الذي يستدعي الاجتهاد لتلبية اجتياجات البيئات المختلفة والعادات المتغايرة والأعراف المتمايزة، للبلاد والأمم والأجناس المختلفة.
جـ-طروء البدع -بالزيادة والنقصان- على أحكام الشريعة، بمرور الأزمان، وخاصة في عصور الضعف والجمود. الأمر الذي يستدعي الاجتهاد لجلاء الوجه الحقيقي لأحكام الشريعة ومقاصدها.
د-تناهي نصوص الأحكام -في الكتاب والسنة- ولانهائيةُ المشكلات الحادثة للناس عبر الزمان والمكان، الأمر الذي يستدعي الاجتهاد لاستنباط الفروع الجديدة من الأصول الثابتة، لتستظل بهذه الفروع الجديدة مساحات من الوقائع والمشكلات لم تكن موجودة من قبل.
هـ-التطور، الذي هو سنة من سنن الله في خلقه، في الإنسان والحيوان والنبات والجماد والأفكار، والذي يستدعي الاجتهاد لينمو القانون الإسلامي فيواكب ثمرات التطور ويلبي حاجاته في مختلف ميادين الحياة.
طروء البدع -بالزيادة والنقصان- على أحكام الشريعة، بمرور الأزمان، وخاصة في عصور الضعف والجمود. الأمر الذي يستدعي الاجتهاد لجلاء الوجه الحقيقي لأحكام الشريعة ومقاصدها.
أدلة مشروعية الاجتهاد
أما الأدلة على شرعية الاجتهاد من الكتاب والسنة فإنها كثيرة:
فآيات القرآن التي تحدثت عن فعل العقل والتعقل هي تسع وأربعون آية. وآياته التي تحدثت عن القلب -ومن وظائفه التفكير والتعقل- تبلغ مائة واثنين وثلاثين آية. ولقد ورد الحديث في القرآن عن “اللب” بمعنى العقل، لأنه جوهر الإنسان وحقيقته في ستة عشر موضعا. وجاء الحديث فيه عن “النُّهى” (بمعنى العقل) في آيتين. أما التفكر، فلقد جاء الحديث عنه بالقرآن في ثمانية عشر موضعاً. وجاء الحديث فيه عن “الفقه” في عشرين موضعا. وجاء حديثه عن “التدبر” في أربع آيات، وعن “الاعتبار” في سبع آيات. وعن “الحكمة” في تسع عشرة آية. الأمر الذي يجعل رصيد الاجتهاد في القرآن الكريم رصيداً ضخما وغنيا. ففيما يقرب من الثلثمائة آية يأتي الحديث الذي يحث على الاجتهاد ويزكيه.
أما السنة النبوية، فإن مأثوراتها التي تزكي الاجتهاد وتحض عليه -صراحة أو ضمنا- هي الأخرى كثيرة حتى لتستعصي على الحصر الدقيق.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الاجتهاد في فهم آيات القرآن اجتهادا يصل بنا إلى ما وراء ظواهر النصوص: “أثيروا القرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين” و”من أراد العلم فليثور القرآن” (رواه الطبراني). وإذا دعا لحبر الأمة (ابن عباس) قال: “اللهم فقهه في الدين” (رواه مسلم)، لأن “من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين” (متفق عليه).
وهو عندما يسأل مبعوثه وقاضيه إلى اليمن معاذ بن جبل رضي الله عنه:
– “بم تقضي؟”
فيجيبه: بكتاب الله. يعاود سؤاله:
– “فإن لم تجد في كتاب الله؟”
فيجيبه: أقضي بما قضى به رسول الله. فيعاود سؤاله:
– “فإن لم تجد فيما قضى به رسول الله؟”
فيجيبه: أجتهد برأيي.. وعند ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
– “الحمد لله الذي وفق رسول رسوله” (رواه أبو داود والترمذي).
بل إنه ليشجع على الاجتهاد حتى ليحدثنا عن أن المجتهد مأجور على مطلق الاجتهاد، حتى ولو لم يصادف اجتهاده الصواب “من اجتهد برأيه فأصاب فله اجران، ومن أخطأ فله أجر واحد” (رواه البخاري).
حكم الاجتهاد ومراتبه
والاجتهاد قد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية، وقد يكون مندوبا، وذلك وفق مقام الاجتهاد والحاجة إليه والحكم الذي يستنبطه المجتهد بالاجتهاد، وتعلُّق هذا الحكم بذات المجتهد أو بالآخرين.
وميدانه ما ليس معلوما من الدين بالضرورة، مما اتفقت عليه الأمة من الشرع الجلي الذي ثبت بالنصوص قطعية الدلالة والثبوت. أما مراتب المجتهدين فإنها ثلاثة:
الأولى: رتبة المجتهد المطلق؛ وهو الذي “يستنبط” الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة.
الثانية: رتبة مجتهد المذهب؛ وهو من “يستنبط” الأحكام من “قواعد” إمام مذهبه.
الثالثة: رتبة مجتهد الفتوى؛ وهو المقتدر على “الترجيح” في “أقوال” إمام مذهبه.
والذي جرى عليه الرأي في مبحث الاجتهاد -في الحضارة الإسلامية- هو عدم خلو العصر -كل عصر- ممن ينهض بأداء فريضة الاجتهاد. وللإمام جلال الدين السيوطي كتاب جعل عنوانه: “الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض” قال في مقدمته: “إن الناس قد غلب عليهم الجهل وعمهم، وأعماهم حب العناد وأصمهم، واستعظموا دعوى الاجتهاد، وعدّوه منكرا بين العباد، ولم يشعر هؤلاء الجهلة أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات في كل عصر، وواجب على أهل كل زمان أن يقوم به طائفة في كل قطر”.
والذي جرى عليه الرأي في مبحث الاجتهاد -في الحضارة الإسلامية- هو عدم خلو العصر -كل عصر- ممن ينهض بأداء فريضة الاجتهاد.
الاجتهاد الجماعي
لكن الذي حدث للاجتهاد عبر مسيرتنا الحضارية، أن ميادين من إبداع العقل الإسلامي في الفكر الإسلامي قد أصابها الجدب، فأصيبت ثمراتها بالذبول. فمنذ الانقلاب الأموي على فلسفة الشورى ضمرت إبداعات الأمة واجتهاداتها في الفقه الدستوري والفكر السياسي الذي يحدد أطر وضوابط علاقة الحاكم بالمحكوم؛ على حين نمت وازدهرت إبداعات الفكر واجتهاداته في الميادين الأخرى.
فلما طال الأمد بالخطر الخارجي تتاريا وصلِيبيا، وطال الأمر بدول العسكر المماليك، التي مثلت فروسية العصر اللازمة للدفاع عن وجود الأمة والحضارة إزاء هذا الخطر الخارجي، وجلب المماليك شريعة مواطنهم الأصلية “ياسة” جنكيز خان فجعلوها قانون العسكر (أي الطبقة الحاكمة) والدواوين السلطانية (أي دوائر الدولة) تراجعت مكانة “فقه المعاملات” الإسلامي، فذبل، ثم توقف الإبداع والاجتهاد فيه، وهذا هو الذي أدى إلى ما يسميه البعض إغلاق باب الاجتهاد، حتى جاء عصرنا الحديث ولدينا ثراء وغنى في “فقه العبادات” والشعائر الدينية، يصاحبه فقر شديد في “فقه المعاملات” و”الفكر السياسي” اللازم لمواكبة الواقع الجديد والمستحدثات من الأمور.
الأمر الذي يبرز حاجتنا الماسة إلى تنشيط الاجتهاد في “فقه الواقع” السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليتسنى لأصول شريعتنا الفروع التي تظلل وتحكم وتصبغ بالإسلام هذا الواقع الجديد.
وربما مع تعقُّد شؤون الواقع الجديد، وتشعُّب علوم الشريعة والحضارة إلى تخصصات كثيرة ودقيقة، كانت الحاجة إلى “الاجتهاد الجماعي” كالشكل الأنسب للعصر الذي نعيش فيه.