نحن نلخص خط كفاحنا كورثـة الأرض بكلمتي الحركية والفكر. وإن وجودنا الحقيقي لا يتم إلا عبر الحركية والفكر… حركية وفكر قادران على تغيير الذات والآخرين. والواقع أن كل كيان ثمرة حركة ومجموعة من المبادئ والتصورات، كما أن بقاءه مرتبط باستمرار هذه الحركة وتلك التصورات.
وإن أهم شيء وأشـده ضرورة في حياتنا هو الحركية. فمن الضروري أن نتحرك على الدوام في ظروف قاهرة، نضع أنفسنا تحت ثقلها بأنفسنا، لنحمل فوق ظهورنا واجبات ونفتح صدورنا أمام معضلات… الحركية المستمرة والفكر المستمر، ومهما ضحينا في هذا السبيل. فإن لم نتحرك وفقا لهويتنا الذاتية الأصيلة، فسندخل في تأثير الدوامات الفكرية والبرنامجية لأمواج هجمات الآخرين وأعمالهم الحركية، ونضطر إلى تمثل فصول حركاتهم.
إن الحركية -من مقترب أفضل- هـو احتضان الإنسان للوجود كله بأصدق وأخلص القرارات، والتدقيق فيه، والسير من خلال المعابر التي فيه إلى اللانهاية
إن السكون الدائم يعني إهمال التدخل فيما يحدث حولنا، وترك المشاركة في التكوينات المحيطة بنا، والاسـتسلام للذوبان الذاتي رغماً عن أنفسنا كقطعة جليد سقطت في الماء. وتعاجزُنا عن حماية جزيئاتنا الذاتية في هذا الذوبان، يعني التسليم لأي تكوين أو حادث يناقض ذاتنا ويضاد جوهرنا. إذن ينبغي على الذين يبرمجون لبقاء الذات أن يطلبوه بكل رغبـاتهم وميولهم وقلوبهم ووجدانهم وحركاتهم وأفكارهم، لأن حضور الوجود يقتضي توتراً تاماً في الجوهر الإنساني. نعم، يقتضي الوجود بداية، ثم إدامة الوجود، ذراع الإنسان وجناحه وقلبه ورأسه. ونحن إن لم نضحّ منذ الآن بقلوبنا ورؤوسنا من أجل وجودنا في الغد، فسيطلبها منا الآخرون بوقاحة في مكان وزمان لا نفع لنا فيه قطعاً.
إن أهم مميزات الحركية الإسلامية والفكر الإسلامي هو أنْ يكون وجودُنا ذاتَنا، وأن نجعل مطالبنا مطالب العالم ورغباته، ثم نجد مجرى حركة لنا في عموم الوجود ونسـيل بذاتنا في مجرانا الخاص ضمن مجريات عموم الكائنات، (ويعني الحفاظ على خطنا الخاص إذ نتكامل مع الكائنات كلها). ومن لا يرتبط باعتبار عالمه الخاص بعموم الوجود، ولا يحس بعلاقاته مع الكائنات، وينكفئ في روابط مطالبه الفردية والجزئية في مواجهة الحقائق الشاملة للعالم، فإنه يقطع أواصر ذاته عن الوجود كله، ويجردها، ويسقطها في حبس الأنانية القاتل. ولا شبهة في أن الباعث على انقطاع الإنسان عن الوجود وبقائه وحيداً بذاته، هو الشهوات البدنية والصراعات الواقعة في أطراف الجسمانية. وكل سلوان فارغ الفحوى وذي بُعد وهمي، يرجع في جذوره إلى تلك الشـهوات البدنية والصراعات الجسمانية. إن دنيا رجل الحركية والفكر الحقيقي، وسعادته في دنياه، ذات تلونات عالمية الشـمول مؤطرة بالأبد. فكأن دنياه لابداية لها ولا نهاية، أو أنها تتجاوز تصوراتنا. ولذلك، نتذكر أمثال أولئك حينما نقول “الإنسان السعيد”. وهل تسمى “سعادة” بحق سعادة لها نهاية أو بداية؟
كأن القوة -اليوم- قد انصهرت في قالب الحق واستسلمت له بعد أن ذاب معظمها.
إن الحركية -من مقترب أفضل- هـو احتضان الإنسان للوجود كله بأصدق وأخلص القرارات، والتدقيق فيه، والسير من خلال المعابر التي فيه إلى اللانهاية، ثم إحلال دنيـاه في فَلَك غاية الخلقة الحقيقية مستخدماً الطاقة الكلية لذكائه وإرادته بالسر والقوة التي اكتسبهما من اللامتناهي.
إن الفكر عمل حركي داخلي. فالفكر المنظم والهادف هو التساؤل من الكائنات بذاتها عن المجاهيل التي تجابهنا في وتيرة الوجود، والاسـتماع إلى جوابها عنها، أو بتصريح آخر، فعالية الشعور الباحث عن الحقيقة في لسان كل شيء وفي كل مكان، بتأسيس قرابة بين ذاته والوجود كله.
إن روح الإنسان يلتف ويتآلف مع العالم بالفكر وفي ظل الفكر، فيتعمق باستمرار في ذاته وداخل نفسه.. ويمزق قوالب عقل المعاش الضيقة ليفيض خارجاً، ويتحرر من الأوهـام المنسلة إلى أغوار الروح.. يتحرر، فيوائم الحقائق التي لا تُزيغ ولا تُضل. وبعبارة أخرى، الفكر هو تفريغ داخل الإنسان من أجل أن يتسع المكان للتجارب الميتافيزيقية في أعماق داخله بالذات. هذا هو أول مدارج الفكر؛ وأما المدرج الأخير في ذاك السلم فهو الفكر المتحرك.
إن حركية حياتنا الدعوية والفكرية هي حياتنـا الروحية، في حالٍٍ لا يمكن به فصل حياتنا الروحية عن فكرنـا الديني. فقد تحقق كل صراع من أجل الوجود والحضور، خاصة شعبنا، باللجوء إلى المعنى والروح الإسلامية.. وظهر بارزا بالأعماق التي يختزنها في ذاته كلما توجه إلى الإسـلام، كما يتسامق البذر إلى السنبلة متى ما استقر في صدر التراب، وكما يتفتح البرعم حين يستقبل النور. هذا التوجه وبلوغ الذات، يحقق تنامياً وتوسعاً في الإمكانات المكنونة في كنهه، وضمانا لوجوده وبقائه. وكما يتحقق بالعبادة والذكر والفكر تقاسم القلب والروح لمستوى الحياة في عالمه الداخلي الذاتي، فإن احتضانه للوجود كله، واسـتماعه إليه “هـو” في وجيب نبضاته، وإحساسه بـه “هـو” في كل كلية لعقله، يرتبط بشـعور العبادة وجهد الذكر والفكر عنده. فمن البديهة أن كل تصرف للمؤمن الحقيقي عبادة، وكل فكر منه مراقبةٌ، وكل كلام له مناجاةٌ وملحمةُ معرفةٍ، وكل مشاهدة منه للوجود تطلّع وتدقيق، ثم كل مناسـبة بأهل وطنه شفقةٌ رحمانية. وإن بلوغ هذا المعيـار من الرحمانية مرتبط بالانفتاح على الأحاسيس، فالمنطق والمحاكمة، ثم من المنطق والمحاكمة إلى الإلهام فالواردات الإلهية. وبإفادة أخرى، من العسير الارتقاء إلى هذه الذروة ما لم تمرر التجربة من مصفاة العقل، وما لم يُسلّم العقل نفسه للفطنة العظمى وما لم يقع المنطق في حال الحب عينه، وما لم ينقلب الحب أيضاً إلى العشق الإلهي. فإن تحقق، فبهذا النظر يكون العلم بُعداً من أبعاد الدين وخادماً لـه، والعقلُ طيفَ نور يصل به الإلهام أينما يشاء، والمكتسبات التجريبية منشوراً يعكس روح الوجود… ويصدح كل شيء بصوت أناشـيد المعرفة والمحبة والذوق الروحاني.
نحن نلخص خط كفاحنا كورثـة الأرض بكلمتي الحركية والفكر. وإن وجودنا الحقيقي لا يتم إلا عبر الحركية والفكر…
ولئن كان إنساننا -ببعض جماعاته- يحمل المشاعر والفكر بعينه، ويتقاسم -أو هو في وضع تقاسم- الحالة النفسية بعينها، ثم لا يتصرف تصرفاً إيجابياً بقدر ما ينبغي ورغماً عن هذه المفاصل المشتركة الواسعة، بل قد يقع أحيانا في انحرافات وسلبيات، فالجدير هو أن ينبش عن السبب في غياب الإيمان بمعناه الحقيقي. فتصرفات المؤمن الحق إيمانية التلون دوماً، وحركاته تدور في فَلَك الفكر أبداً، مهما كان القالب الذي يحصره، ومهما كانت المضادات التي يسحب إليها.
لذلك، ينبغي أن يستشعر وارثو الأرض الذين يخططون لإقامة عالم المستقبل، نوعَ العالم الذي يريدون إقامته، ونوع الجواهر اللازم استعمالها في إعمار هذا العالم.. حتى لا يضطروا هم بأنفسهم إلى هدم ما بنوه بأيديهم من قبل. إن جذور المعنى وأصول الأسس لألف سـنة من حياتنا -نحن- معلومة ومعروفة. وعلى مهندسي مستقبل الضياء أن يجهدوا في استخدام قوتهم الفكرية -إلى جانب دوافعهم الحركية- من أجل أن تنصت المحركات التاريخية التي ننشئ بها حياتنا الدينية والوطنية إلى صوت الإسلام كرة أخرى، وتلتقط زاوية نظره وتجس نبضه وتستمع إلى وجيبه، بالاستفادة القصوى من المرونة والامتداد العميق والعالمية في إعلاء بناء هذه المحركات مع الحفاظ على الكتاب والسنة وصوافي اجتهادات السلف الصالح، وحسب مدارك العصر وأسلوبه. ذلك، حتى لا يعيشوا حياة البرزخ في طريق الانبعاث بعد الموت! وكل هذا يرتبط أولاً وقبل كل شيء بالابتعاد عن أثقال النفسانية ودوافعها كافة، والانفتاح على الروحانية، والنظر إلى الدنيا والعلم بها كصالة انتظار إلى الأخرى. وبإفادة أخرى، يتحقق هذا بتعميق الكمية في عباداتنا إلى النوعية، وبإطلاق النقص الحاصل في رياضية الأوراد والأذكار إلى الآفاق اللامتناهية بالنية والخلوصية، وبالمعرفة والاعتبار واليقين في دعواتنا ومناجاتنا وبثنا إلى الذات الإلهية الأقرب إلينا من أنفسنا. ولا يعي هذا المعنى إلا الذين يحسون الصلاة كالطائف في المعراج، ويستلذون من أداء الزكاة كحافظ الوديعة أو موظف التوزيع، ويعيشون الحج كندوة عالمية لتداول معضلات العالم الإسلامي، وفي أرضية يرصدون فيها نورانية ومهابة الروح والقلب والأبعاد الأخروية.
إن الشعور بكل هذه والإحساس بها، فمعايشتها في الحياة، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأطباء المعنويات القادرين على تشخيص بؤسنا الداخلي والخارجي ومداواته، وبمرشدين صادقين مشدودين إلى الأخرويات من غير انقطاع. أولئك المرشدون الذين يمتد عالمهم الفكري من المادة إلى المعنى، ومن الفيزياء إلى الميتافيزيقا، ومن الفلسفة إلى التصوف. فهؤلاء كانوا وراء أيام العمران المديدة حتى اليوم، وسيكون هؤلاء ممثلين لحركات الإعمار والإحياء الآتية غداً. وسيتحقق هذا التمثيل باستنباط نظريات حقوقية جديدة من مصدري الكتاب والسنة لمعالجة المستحدثات والتوقعات المستقبلية، وتزيين أفكارهم بآراء العالم الجديد، وتطوير متلقيات فنية طازجة تلائم عالمية الإسلام وتركز روح الأمة وشعورها في بؤر الإسلام وترتبط بأحاسيس التجريد، وعجن ثقافتنا الذاتية المستوعبة للدين والدنيا والموروثة من خزائن ألف سنة متصلة. فإن تمثيلا في هذا المستوى لقادر في زمن قصير على تحقيق تصدرنا للأمم الأخرى في العلم والفلسفة والفن وحياتنا الدينية، وتقويم وحدات الحياة كلها على الطريقة المثلى، وجعْلِ أبنائنا المتشردين المنفلتين في الشوارع -سواء الدارسين منهم أو الأميين- رجـالَ الغد في الفكر والصنعة والمعرفة والفـن. فتتنفس الأزقة والشوارع هواء العرفان وكأنها أركان المدارس، وتصير السجون أوكاراً للعلم، وتزين الخمائلُ البيوتَ كزوايا الجنة. وفي كل مكان يسير الدين مع العلم يداً بيـد، وينثر احتضان الإيمان والعقل ثماره في كل صوب، وينبت ويزدهي المستقبل في صدر الأماني والآمال والعزم بألوان وأفنان لا يضاهيها خيال “المدن الفاضلة”، وتنشر التلفزيونات والراديوات والصحف والمجلات في جو الفضاء الفيوضات والبركة والنور، ويرتشف الكوثر كل قلب سائح في ربيع الجنة هذا ما خلا الذي كالرميم المتخلف من التاريخ.
سيولد هذا التكون الجديد من قيمنا التاريخية وحضارتنا وثقافتنا ورومانسيتنا… وستظهر هذه الحركة من الحالة الروحية لعصور مستمرة تحت الغبن والقهر والظلم من جهة، ومن جهة أخرى، من حماسة قلبنا المتشبع بالإيمان والمتحفز دوماً والمستعد للانطلاق في كل آن.
إن تحقيق هذه الرسالة الحيوية مرتبط قبل كل شيء بتحريك دبيب الأرواح الصدئة في هذه الأرضية الصدئة. ويبدو أن المجهود الدؤوب منذ خمسين أو ستين سنة قد نجح في زحزحة الصعاب. فيمكننا أن نئن مع الشاعر المُعَذَّب، إذ يقول: “اضرب بالمعول يا فرهاد، قد مضى الكثير وبقي القليل…” التحرك الأول هو تحرك الروح، وهو يلقي السلام علينا اليوم أينما مضينا كأقواس الترحيب المقامة من أكاليل السماء النورانية، بنعومة السكينة ودفء غيمة الربيع. فلقد اقترب موعد احتضانه لوطن المظلومين والمغبونين والمقهورين كله، وصب وابل حنينه الرحيم زخاً زخاً.
وكأن القوة -اليوم- قد انصهرت في قالب الحق واستسلمت له بعد أن ذاب معظمها. نعم، في وجود القوة حكمة… فلا يمكن حل مسائل كثيرة من غيرها. ولئن كان ضرر -وأيما ضرر- في القوة المنفصمة عن الحق والمنطلقة معاندة له، فإننا نحسب القوة المتحدة بالحق حقاً بعينه. والجرأة المنبثقة من توحد القوة بالحق حامية للمظلوم لا الظالم، ولسان ناطق للحق. والمهم بعد ذلك أن يمثل أبطال الفكر والحركية إياه. وسوف أعرّج إلى أبطال الحركية في عالمنا في موضع آتٍ إن شاء الله تعالى.
_______________
* الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي أوغلو.