الحديث عن المنهج النقدي في القرآن الكريم، حديث يقتضي أن يُقدّم بين يديه ضبط مصطلحيٌّ من أجل إبراز التمايز بين الذي يُراد بالنقد وبالمنهج في هذا السياق القرآني الاستثنائي، وبين ما يُراد بهما في سياقات أخرى.
والحاصل أن الذهول عن هذه القضية يمكن أن يجعل شائبات مفاهيمية كثيرة تشوب البحث والتناول لهذا الموضوع. ذلكم أن السياقات الأخرى التي يُطلق فيها مصطلح النقد ويمارَس، تكون سياقات مؤطرة بمجموعة من النماذج المعرفية “البراديغمات” ومن الثوابت النفسية التي توجّه استعمال هذا المصطلح، أي إن ثمة مجموعة من النماذج الكامنة التي تحدد المقاصد والغايات المتوخاة من العملية النقدية؛ وغير خاف أن كل منظومة لها منطلقاتها ومقاصدها وغاياتها التي تؤطر ممارسة عملية النقد من داخلها، وتصبغها بصبغتها، وهذا في النسق القرآني أبرز.
لن أتناول في هذا المقام تلافيف وتفاصيل البحث المصطلحي اللغوي حول المنهج النقدي، وبحسبي أن أركز على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنّ النقد يُراد من ورائه تمييز الصالح مما دون ذلك، ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾(الجن:11)، وهذه قضية بارزة في كل نقد.
الأمر الثاني: أن النقد يمكن أن يكون ستاتيكيا ثابتا كما يمكن أن يكون ديناميا تجاوزيا. فالنقد الستاتيكي هو النقد الذي يمارَس انطلاقا من وحدات قياسية ومعيارية ثابتة، في حين أن النقد الدينامي التجاوزي هو الذي تكون له القدرة على إنتاج وحداته القياسية والمعيارية وفقا للسياقات التي يمارَسُ فيها. غير أن السياق القرآني لا يمكن للنقد فيه أن يكون ثابتا ستاتيكيا، إنّما هو متجاوز ودينامي، بحيث إنّ الإنسان في تعامله مع القرآن المجيد لا يزال في ارتقاء كلّما ظن أنه قد أبصر. فإن هذا الإبصار سوف يجد نفسه متجاوزا بمزيد من الحوار والتعاطي مع الوحي الخاتم، المصدِّق لما بين يديه والمهيمن عليه. وهو ما يجسده مفهوم بليغ في القرآن المجيد، مفهوم الأكبرية ﴿هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾(الأنعام:78)، والذي تعبر عنه صيغة التكبير في الآذان والصلاة “الله أكبر” التي يقترن فيها اسم الجلالة بصيغة التفضيل فتفيد أنّ الإنسان ما يزال متجاوزا لذاته حين النطق بهذه الأكبرية في كل حركة من حركات الصلاة فيكون بذلك في ارتقاء واقتراب دائمين، ﴿كَلَّا لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾(العلق:19){س}، ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾(النجم:42). إن صيغة التفضيل تفيد أن الله عز وجل أكبر ممّا استقر في نفسي عنه سبحانه في اللحظة التي سبقت النطق اللاحق بهذه الأكبرية. ففي السياق القرآني ليست هناك ستاتيكية ولا جمود، وإنما هو التجاوز بإطلاق.
العلوم الاستنطاقية
الأمر الثالث الذي أود الإشارة إليه بين يدي الحديث عن المنهج النقدي في القرآن المجيد هو أنّ الإنسان في حواره مع القرآن الكريم، من أجل القيام والاضطلاع بمهمة النقد هذه، وجَب أن ينتبه إلى أن العلوم التي يتحرك انطلاقا منها، تعد في جُلها علوما اجتهادية، اللهم إلاّ ما كان منها توقيفيا كأبواب الاعتقاد والفقه الثابت المستندة أحكامهما إلى نصوص قطعية الثبوت والدلالة. وما عدا ذلك فمن العلوم الاستنطاقية “ذلكم القرآن فاستنطقوه” كما قال علي رضي الله عنه وأرضاه، أو كما قال سيدنا عبد الله بن مسعود “ثَوِّروا القرآن” أي استخرجوا خيراته، وهي علوم يكون الإنسان في حوار دائم مع الوحي انطلاقا من مؤهلاته ومن أفقه المعرفي هو من أجل اكتشاف مفاتيح جديدة يدخل باستعمالها إلى عالمه الرحيب.
وآية ذلك أنّ الله عز وجل يبين أنّ هذا القرآن جاء ميسرا: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾(القمر:17-22-32-40) أربع مرات، ثم في سورة مريم، ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾(مريم:97)، وهو تيسير مرتبط بالتدبر، ومرتبط بالنظر المستأنف في الوحي من أجل إنتاج مجموعة من العلوم يمكن أن نصطلح على تسميتها “علوم التيسير”.
وبموازاة مع ذلك فالكون فيه ميكانيزمات وآليات أخرى؛ فهو الكتاب المنظور الذي سُخّر في مقابل تيسير القرآن الكتاب المسطور ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾(الجاثية:13). والإنسان انطلاقا من حواره مع الكون يكتشف علوما يمكن أن نصطلح على تسميتها بعلوم التسخير. وفي مجالات التيسير كما في مجالات التسخير(1) ينطلق الإنسان في إدراكه وتأسيس معارفه من هبة إلهية استثنائية فريدة “المواءمة” أي إنه قد خُلق موائما للوحي، وموائما للكون. ولولا هذه المواءمة لما استطاع أن يتعقَّل الكون من حوله فيسخره انطلاقا من التفكر، ولما كان قادرا على التعامل مع الوحي وبنائيته ليستطيع بذلك أن ييسره انطلاقا من التدبّر.
وهنا تبرز ظاهرة حريّة بالتتبع والرصد، ومفادها أنه بعد إحكام الكتاب الخاتم، وجعله بناءً وترتيلا، حدثت ثورة في مجالات علوم التيسير، ونشأت علوم.. فإنْ نحن تتبّعنا مثلا ما قام به الصحابة الكرام رضي الله عنهم والتابعون وأتباع التابعين فسوف نجد أن التعارك والتفارك والتشاحذ كان سمة من سمات البحث في مجالات التيسير البارزة.
فقد كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يعجبه ارتفاع أصوات محمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف وزُفر حين يتحمسون أثناء تباحث المسائل والقضايا، ويُسَرُّ بذلك. وكذا الإمام مالك بن أنس، وهذا الإمام الشافعي يقرأ القرآن الكريم المرة تلو المرة أثناء بحثه عن دليل للقياس حتى يستقرّ رأيه على قوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾(الحشر:2)، وكذا أثناء بحثه عن دليل للإجماع. وإن نحن قرأنا كتابه “الرسالة” فسوف نرى نماذج من الحوار الحي والنابض مع القرآن المجيد.
طفرات بين مراحل الجمود
كما نجد أنّ العلماء الذين تلوا قد زادوا وأضافوا وشحذوا آراءَ هؤلاء الأئمة الأعلام وغيرهم ممن نذكر في هذا المقام، إلى أن أتت علينا أحيان من الدهر أصابت فيها هذه الدينامية أضرب من الجمود تخللتها طفرات؛ مثل طفرة العزّ بن عبد السلام (ت660هـ) في “الإحكام في مصالح الأنام” أو طفرة ابن تيمية (ت728هـ) وتلميذه ابن القيم (ت751هـ) أو طفرة الشاطبي (ت790هـ)، وبعد ذلك آخرين مباركين. لكنّها تبقى طفرات، إذ لم يبق البحث بنفس العرامة والاستمرارية التي كان عليها، بيد أنه استمر في مجالات التسخير إلى درجة أنّك اليوم إنْ أنت ذهبت إلى طبيب تريد الاستشفاء وأخرج لك كتاب “الحاوي في الطب” للرازي، أو كتاب “القانون” لابن سينا ليداويك بمقتضياتها فإنّك سترفض، لوعيك أن نقلات نافعة ومقدّرة قد حدثت في هذه العلوم. وهنا وجب التنبيه على أمر هام، وهو أنّ ثمة ثوابت، وأنّ هذه الثوابت قامت عليها الأدلة، ومن ثم فهي أجزاء لا تتجزأ من علوم الوحي ومعارفه، فهي الأسس التي تحمل البناء كله، ومن ثم فهي لا تدخل في هذا الصدد إلا من حيث وجوب بذل المزيد من الجهد لاستبانتها وفقهها، غير أن هناك في هذه المعارف أقضية ومسائل كثيرة قابلة للاجتهاد والنظر وجب طبعا أن تُقدّر بقدرها في استحضار لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾(الإسراء:36).
إذْ أوضحنا هذه الأمور الثلاثة التي تؤطر منهج تعاملنا مع هذه القضية، فإننا نُريد بعون الله أن نتناول المنهج النقدي في القرآن الكريم، من مدخل واحد سوف نقتصر عليه للضرورة وللإكراهات المقامية وهو “مدخل التصديق والهيمنة”. فمع أن هناك آيات كثيرة في القرآن المجيد تتحدث عن التصديق، إلا أننا لا نجد إلا آية واحدة في سورة “المائدة” تشتمل على التصديق والهيمنة مقترنين، وهي قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾(المائدة:48). وهذا المدخل لم يعط بعد حقه من الاستكشاف ومن البحث لإبراز خصيصة الاكتمال في الوحي الخاتم، والتي جاءت إليها إشارات واضحة في كل من القرآن الكريم والسنة المطهرة.
الكتاب المبين
ففي القرآن نجد كلمة “أحسن” في قوله تعالى: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾(الزمر:23)، وفي قوله سبحانه: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾(الزمر:55)؛ تدلّ على أن هذا الوحي قد أذن منـزله بارتقائه إلى مرحلة أصبح فيها الوحي الأحسن والأمثل والأكمل. وهذا هو الذي يبرز مثلا من خلال تسمية كتاب نبي الله موسى وأخيه هارون عليهما السلام ﴿الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ﴾(الصافآت:117)، في حين أن القرآن المجيد سمي كتابا مبينا ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾(المائدة:15)، أي إنه قد وصل إلى درجة الإبانة المطلقة.
وفي السنة نجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يُشبّه النبوة كلها بالبناء المكتمل أيضا في قوله عليه الصلاة والسلام: “إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وُضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين” (رواه البخاري).
وجهتا التصديق والهيمنة
إن آلية التصديق والهيمنة في القرآن المجيد لها وجهتان:
الوجهة الأولى إزاء الكتب السالفة؛ فهناك تصديق لما صحّ من هذه الكتب ثم هيمنة عليها في تكامل تامّ معها. والوجهة الثانية إزاء ما يمور ويعتلج في حياة الناس وارتفاقاتهم من ممارسات وما هو مستقر فيها من أعراف. والتصديق في هذه الوجهة عبارة عن إقرار الصالح من كل ذلك بالسكوت عنه أو الثناء عليه، وتغيير الطالح بالحديث عنه وكشف مساوئه.
وتتم الهيمنة في القرآن الكريم في اتجاهات متعددة، وهي اتجاهات كلها تجاوزية غير إستاتيكية. وهي تجاوزية تتجلى من خلال التوسعة مع الاحتفاظ على كل القوة التي تستبطنها الحقائق الموسّعة، ويجري ذلك بطريقة متنامية، إذ بعد كل مرحلة من مراحل الهيمنة، يبنى على الحقائق الجديدة لكي تتم الهيمنة بها بدورها على مفاهيم وحقائق مستقرة أخرى وتتم توسعتها، لكي تشمل أبعادا أخرى لم تكن تشملها في مرحلة الخصوصية؛ لأن الوحي في المراحل السابقة عن نزول القرآن المجيد كانت له خصوصيته، إذ كان يُبعث الرسول النبي من أجل هداية الخلق وإرشادهم إلى الصواب ضمن السياقات التي يوجد فيها ووفق توازنات معينة. فعيسى عليه السلام -على سبيل المثال- يأتي في وقت قد غرقت فيه أمة بني إسرائيل وانغمست في العالم.(2) فجاء بهذه الدفقة الروحانية من أجل انتزاع وانتشال أمته وجذبها الشديد لتخليصها من هذا الانغماس، وقد كان أفق دعوته وهدايته عليه السلام متسقا مع أزوف زمن بعثة نبي الختم صلى الله عليه وسلم، وظل هذا الأفق مفتوحا كما يتجلى ذلك في قوله تعالى: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾(الصف:6). إذ هو صلى الله عليه وسلم الرسول الذي سوف يُحدث التوازن المنشود. فنحن بصدد تخطيط وتصميم رباني يقوم على التكامل في الأدوار بين الأنبياء: الجذب من لدن عيسى عليه السلام كان قويا جدا في انتظار رسول يأتي من بعده اسمه أحمد ليُحدث التوازن المطلوب. فبينما كانت اليهود لا تسجد لتكون صلاتها -تبعا لذلك- جلّها وقوفا، جاء عيسى عليه السلام فنقلهم إلى السجود لتكتمل مظاهر العبادة مع مجيء الرسول المبشّر به أحمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي سيضيف الركوع إلى كل ذلك تصديقا وهيمنة.
إن تجاوز التأرجح بين هذين القطبين (قطب الرهبنة، وقطب التكاثر) يندرج ضمن مفهوم التوسعة الذي تتجلى من خلاله الهيمنة، وهو تجاوز يستكمل أبعاده ويتم، بإضافة مفهوم الميزان ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾(الرحمن:7-9)، وهو مفهوم نقف على سريانه في كل مفردات الأداء الحضاري الإسلامي من خلال تأطير وتوجيه رائعين بالآيات والأحاديث المتكاملة. تتم الهيمنة أيضا من خلال “الضبط التأويلي” بتحديد أصوله وقواعده، وتبيان موقع النص والعقل ودور الإنسان ومسؤولية العالم؛ حيث يقوم القرآن المجيد من خلال هذا الضبط بتنقية ما اعترى العقل الجماعي المسلم بسبب تسرب بعض ما كان في الأمم السابقة بفعل التداخلات التي تقع من الناحية المفاهيمية والانكسارات المعرفية التي تحصل تحت تأثيرات اجتماعية أنثروبولوجية وأخرى تاريخية.
كما نجد أن الهيمنة في القرآن المجيد تتجلى من خلال فتح المفهوم، وفتح المعتقد بطريقة تجعلهما مستمرين شاملين مستوعبين لكل عصر ولكل مصر؛ فتلتقي الهيمنة بهذا المعنى مع خصيصة الشمول والاستيعاب في القرآن الكريم.
الكلمة المفتاح
وفيما يلي سوف نرصد منهجية عمل آلية الهيمنة في القرآن الكريم باعتبارها من مكونات منهجه النقدي من خلال كلمة مفتاح هي كلمة “الربّ”.
إن القرآن عبارة عن ترتيل، وهو الترتيل الذي يشبه بيت الرُتيلاء التي تنضُد وتنسّق وتُحسّن البناء بطريقة تقوم على التفاضي والاتصال المطلق بين كل مكوناته (Web)؛ بحيث يكون المتعامل مع القرآن المجيد وفق هذا النموذج من المقاربة، حالاّ مرتحلا في كل حين منتقلا بين أرجاء القرآن المجيد كما قال عليه الصلاة والسلام: “أحب العمل إلى الله تعالى الحالّ المرتحل”، قال: وما الحالّ المرتحل؟ قال: “الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حلَّ، ارتحل” (رواه الترمذي والدارمي). وهذا المفهوم هو الذي ركّز عليه المفسرون حين قالوا: “ويفسر بعضه بعضا”، ذلك أن أول تفسير للقرآن المجيد هو عين تفسيره لذاته.
حين نأخذ كلمة “الرب” في القرآن الكريم سوف نجد أنها تنفتح على أبعاد كثيرة. فالقرآن قد نزل على العرب وهم يستعملون كلمة “الرب” إزّاء هبل واللات والعُزّى، وقد عدّ العادّون حوالي ستين وثلاثمائة صنما حول الكعبة. وكلمة “الرب” كانت تنسحب على هذه الآلهة بشكل “أتوماتيكي”، وإذا كانت كلمة “الرب” مشتقّة من ربَّ يَرُبُّ، أي باشَر يُباشر، وأَشرف على المصالح يُشرف، واعتنى يعتني إلى غير ذلك من المعاني(3)، فإننا نجد أنّ مفهوم الربوبية يَبرز في القرآن المجيد باعتباره أيضا من الأمور التي تقوم بدور اللّحمة والسدى في مجتمع معين وإن بباطل، فرعون مثلا حين يقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾(النازعات:24) يبرز باعتباره يمثل لُحمة المجتمع من خلال توحيده لهذه الأمة من الناس، ولكن بشكل ضال بفعل هذه الربوبية المدعاة، ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾(طه:79)، وهو مثال قد أعمل فيه القرآن المجيد آلية الهيمنة في اتصال بمفهوم الربّ لتوسعته وتجاوز واقعه في الأذهان نحو ما هو عليه حقيقته، أي نحو التوحيد، فبعد ادعاء فرعون أنه رب المصريـين الأعلى ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾(النازعات:24)، نجده ينتقل بفعل اللقاء المستأنف مع موسى عليه السلام إلى السؤال عن رب العالمين ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(الشعراء:23) فيجاب: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾(الشعراء:24)، لكي يختم مساره الجحودي بالاعتراف -ولات حين مناص- بما قرره نبي الله موسى عن الربوبية حين قال وهو يغرق: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾(يونس:90)، كل ذلك يتم في إطار من الهيمنة المتصاعدة، ليصل في أمِّ القرآن سورة الفاتحة، إلى هذا المفهوم العظيم الذي هو ﴿رَبّ الْعَالَمِينَ﴾، لدرجة أنّ هذا الذي يبرز -وإن في سياق الضلال- باعتباره توحيداً ولُحمة وسَدى في هذه المجتمعات، نَجده لا يُفقد بل نجده يصحّح ويُنّمى إلى درجة يُصبح معها مفهوم الربوبية “ربّ العالمين” قابلا لاستيعاب الكائنات كلها والأمم كلها، والشعوب كلّها، ويدخل في منظومة قرآنية بامتياز، هي منظومة التعارف: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾(الحجرات:13). ولكن قبل أن يصل القرآن المجيد بهؤلاء -وبالعالمين من خلالهم- إلى هذه الدرجة وإلى هذا المستوى نرى سيرورة تجاوز الأرباب الزائفة المرصوصة حول الكعبة بالردّ إلى رب هذه الكعبة والذي هو صاحب المنن والنعم على أم القرى وما حولها من خلال قوله تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾(قريش:3-4)، ثم يكون الاستيعاب تدريجيا بحيث نجد التصديق والهيمنة بعد أن تمّا في هذه الاتجاهات كلها يتناميان عبر الآيات لكي يوصلانا إلى هذا المفهوم البارز الواضح المستوعب الكبير والشامل، مفهوم “ربّ العالمين” الذي يستقطب هذه الأبعاد كلّها ولكن بطريقة بنائية وتدريجية، حتى يصل بالإنسان إلى حيث يريد أن يوصله منـزّل القرآن المجيد ﴿أَحْسَن الْحَدِيثِ﴾(الزمر:23)، ﴿أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾(الزمر:55).
إن البحث في مسألة الهيمنة في القرآن يُفضي بنا إلى آفاق في غاية السعة والجمال، وقد قمنا الآن بالبحث في كلمة واحدة ومصطلح واحد: “الربّ”، ورأينا كيف أن القضية اتسعت إلى أن وصلت إلى مفهوم سام هو “ربّ العالمين”، لكي ينفسح المجال بعد ذلك إلى “الرحمن الرحيم”، انسيابا نحو المصور، الباري، والقدوس إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والتي كلها تُلقي إضاءات على مفهوم “الربّ”.
وبالتتبع سوف نجد أنّ كل البنائية التي في القرآن المجيد سوف تُنسج حول هذا المفهوم بسعته ومداه الجديدين كما برزا في أمّ القرآن ثم في سائره، لكي تُمنح الأمة قِبلتها وتُمنح وِجهاتها المتعددة التي تُفضي بها هذه القبلة بطريقة متجددة وغير متناهية.
منهجية التصديق
وجبت الإشارة هنا إلى أنّ ثمة خمسة شروط لابد من مراعاتها في أفق إعمال أوفق لمنهجية التصديق والهيمنة واستكشافٍ أدقَّ لمعالمها:
الشرط الأول الأساس هو شرط اعتقاديّ بامتياز؛ اعتقادي بحيث يعتقد الباحث اعتقادا جازما أنّ القرآن المجيد كلام الله عز وجل ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾(فصلت:42)، ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(الأنعام:38)، ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(النحل:89)، فتتوفر عنده ضمن هذا الشرط مجموعة من المنطلقات التي تُلزمه بالجدّية القصوى وهو يبحث في القرآن المجيد، وتُلزمه بأن يحشد كل طاقاته وكل نباهته، وأنْ يتوفّز كل توفّز قبل أن يدخل إلى عالم القرآن المجيد، فيكون توفّزه أكبر من توفّز الباحث الذي يدخل إلى مختبره، ومن توفّز الطبيب الذي يدخل إلى عملية جراحية مما من شأنه أن يجعل نتائج البحث أبرك إن شاء الله.
الشرط الثاني: إنْ أردنا أنْ نبحث في قضية الهيمنة بطريقة تأسيسية، وجب أن ننظر في القرآن المجيد باعتباره بناء، وأن لا يتم إغفال هذه البنائية أوالذهول عنها، إذ هما إغفال وذهول مُدخِلان في اللوم الموجّه إلى ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾(الحجر:91)؛ وإسقاط في التعضية والتفريق والتمزيع في القرآن المجيد وفي عدم الدخول إليه باعتباره بناءً متماسكا، ترتيلا ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾(الفرقان:32) ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾(المزمل:4) أي اعتبر أيها المتعامل مع القرآن المجيد هذه البنائية ولا تُهمل منه كلمةً ولا حرفا.
وهنا أريد الإشارة إلى نموذج مفاهيمي معرفي قد تسرب إلى عقول بعض علمائنا فأصبحوا بمقتضاه ينظرون إلى القرآن باعتبار أن آياته التي تحتها عمل لا تتجاوز الخمسمائة آية على أكثر تقدير، ويسمّونها آيات الأحكام، من مجموع عدد آياته الستِّ وثلاثين ومائتين وست آلاف (6236)، فأين ذهبت الآيات الأخر؟ وما هي تجلياتُ ربانية مصدرها؟ وما هو الهدى الموجود فيها؟
مقابل هذا المنظور التي يستبطن -بدون وعي- الكثير من الانتقاء ومن الإقصاء المسبق، نجد أنّ كل حرف من القرآن المجيد فيه هدى وفيه رشاد وفيه نور، ولعل هذا من الحكم الكامنة وراء وجود الحروف المقطعة في فواتح بعض السور. وبالتالي فحين نؤمن ونسلّم بأنّ القرآن بناء، سوف نراجع وننقد مناهجنا القائمة في أفق المواءمة المنهجية مع هذه البنائية المباركة.
الشرط الثالث: وهو فرع عن الثاني، ومفاده وجوب تتبع المصطلحات قيد الدراسة في كل مواطن ورودها، واعتبار السياقات التي يتم فيها هذا الورود قبل أي تعريف لهذه المصطلحات.
الشرط الرابع: ضبط الضمائم، فإذا تم الذهول عن حقيقة أنّ الكلمة في القرآن المجيد تكون لها ضمائم كما تكون لها نظائر تلقي عليها أضواء إضافية، وإنْ لم يتم النظر في كل هذه المرافقات والمحتوشات التي تُحيط بالكلمة المصطلح فإن الباحث وإن اعتبر السياق ونظر في كل الشروط التي سلفت قد يفوّت الشيء الكثير.
الشرط الخامس: أن يكون لدى الباحث وضوح في القضايا التي يريد أن يستنطق بخصوصها القرآنَ المجيد في علاقته بالهيمنة، إذ حين اتضاح هذه القضايا فإنها تكون بمثابة التضاريس الفكرية والنفسية والوجدانية التي من شأنها أن تمكّن الدارس من التقاط ما يتعلق بالمواضيع المبحوث فيها من إشارات؛ وإلا فسوف تغلب على البحث العموميةُ والسطحية.
فالإنسان الذي قد اشتغل في التربية مثلا ووقف على بعض إشكالاتها وأدرك الأمور التي تقتضي الحل، ووقف على حيثيات التربية، يكون أكثر استعدادا لتلقي الإشارات والآيات الموجودة في القرآن المجيد بخصوص هذه المسألة. أما إذا دخل خالي الذهن فإنّه سوف يتخطّف ويُجتال بقضايا كثيرة ومتعددة، ولن يكون الاستنطاق للقرآن المجيد بخصوص الهيمنة في مضمار التربية كما هو مرجو؛ بمعنى أنّ بناء هذه التضاريس التي سوف تلتقط الآيات المتعلقة بالقضية المدروسة لابد منه بين يدي الدخول إلى عالم القرآن الرحيب لبحثها.
الشرط السادس: وهو مسألة النماذج المعرفية، أو الأنساق القياسية، أو الأطر المرجعية التي ينطلق منها الباحث؛ فإن كانت مُغلَقة فاته الكثير، بخلاف الأمر إنْ دخل وهو مُطَّرِحٌ بين يدي كتاب الله عز وجل، مستعد لأنْ يتجاوز ما في ذهنه من الأطر المرجعية والأنساق القياسية والنماذج المعرفية وأبنية أخرى جديدة بحيث -وهو يبحث- تكون هناك هيمنة ذاتية.. مع ضرورة استدامة الانفتاح والحفاظ على الوعي التّام بأنّه إنسان محدود وبأن هذه المحدودية تقتضي التكملة.
الشرط السابع الذي لابد منه أثناء بحث قضية الهيمنة في القرآن المجيد، هو أن تكون مستحضرا في كل لحظة كونكَ إنساناً تنتمي إلى الأسرة الآدمية الممتدة عبر الزمان والمكان وأنك تشكل معها وحدة وتعيش معها تحديات مشتركة لابد من العمل المتظافر لرفعها، مما يجعل منك كائنا كونيا يتبنّى هموم العالمين في كافة امتداداتهم، وهذا تنتج عنه حالة من المشاركة الوجدانية تساعد على تَلقِّي إشارات القرآن الكريم بخصوص الهيمنة، إشارات لا سبيل إلى تلقيها في غياب هذا الشرط النفسي والوجداني.
وهذا الشرط يعدّ -في اعتباري- بمثابة الإطار العام المحدّد للوجهات التي سوف ينطلق فيها الباحث حين يكون منفتحا على هموم العالمين، ويكون عنده كل الافتقار وكل الإدراك اللذين مضت إليهما الإشارة.
فإذا تدبرت -على سبيل المثال- مفهوم الطلاق وكيف تمّ التصديق والهيمنة بخصوصه في القرآن على ما سلف، ثم نظرت في سياقات دينية وحضارية حُظر فيها الطلاق سوف تتجلى أمامك الهيمنة على هذه المفاهيم المستقرة، وسوف تكتشف كيف أنّ القرآن المجيد قد قوّى هذا الرباط المبارك المتصل بصناعة الحياة؛ رباط التزويج، بفتحه لإمكان مفارقة الرفيق متى ما أصبحت الحياة المشتركة متعذرة لسبب أو لآخر، درءا لدواعي اللجوء إلى ما لا يحل، وهو لجوء عادة ما تفضي إليه التدينات التي لا تتيح هذه المكنة باليسر وكذا الاحتراز الموجودين في شرعة الإسلام، وهذا مما يؤهل الباحث لأن يكون أقرب نفعا للعالمين من خلال إفاضة وتعدية هدى كتاب الناس إلى الناس.
منطق الظاهر الحضاري
مسألة أخرى بهذا الخصوص تتجلى إن نحن انتقلنا بالبحث إلى الجوانب الفكرية وإلى الأفكار السائدة التي هي بمثابة البراديغمات المسيطرة المنتجة لما يسمى بـ”النسق المفاهيمي المؤطر” لحضارة معينة، سوف نتبيّن من مدخل استحضار هذا الإدراك أن المنطق العام المهيمن على الحضارة الراهنة منطق يدور في فلك ما أسماه الله تعالى: ﴿ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ في قوله سبحانه: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾(الروم:7)؛ أي إنّ النسق المفاهيمي التصوري في هذه الحضارة منحسر ومنحبس في هذا الإطار الذي هو ظاهر الحياة الدنيا أي الحجب الثلاثة حجاب الدنيا والمادة، وحجاب النفس، ثم حجاب الخلق. فإذا تم الدخول إلى القرآن المجيد في استحضار لهذا الإشكال الكبير الموجود في هذه الحضارة (الانحسار في ظاهر من الحياة الدنيا)، سوف تبرز مجموعة من المعطيات الجديدة المهيمنة والمخلِّصة، كالميزان والمعاد والجزاء القائم على الحساب، والسعي إلى الرضوان، والتجانف عن الغضب والإبعاد، والتنعم بالنعيم، والفرار من الجحيم، مما يعتبر هيمنة محررة من سجن هذا الاعتقاد المحجّم لأبعاد الحياة وأبعاد الإنسان.
وإذا انضاف إلى هذا استحضارُ الانتماء إلى الأسرة الآدمية الممتدة في انتشارها الزماني والمكاني، والاعتقاد بوجوب تبنّي همومها لما يقارفه من الأجر والرضوان، سوف يستطيع الباحث أن يرى أوجه الهيمنة في القرآن الكريم على هذا الضرب المنحسر من التفكير، ومن ثم سوف يتمكن من تجاوزه في ذاته ثم في الآخرين من خلال إبرازه لهم، وكما قال ابن خلدون: “في حلَّة قوية البنيان ومتينة الأركان” بحيث تتقبّله العقول ويكون رحمة للعالمين.
فهذه سبعة شروط متصلة بقضية التصديق والهيمنة وآليات عملهما في القرآن الكريم أردتُ الإسهام بها من أجل استئناف فتح ملف هذه القضية التي أعتقد أنها لم تُعط حقّها كما يلزم ضمن الأبحاث المنتمية إلى دائرة معارف الوحي.
ـــــــــــــــ
الهوامش
(1) في مجالات التيسير تدبّرا: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾(ص:29)، وفي مجالات التسخير تفكّرا: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾(آل عمران:191).
(2) إذ الأمم دائما تتأرجح بين قطبين؛ قطب الرهبنة -أو الخروج من العالم- وقطب التكاثر والاستكثار -أو الغرق في العالم-.
(3) كما فصّله المصريون القدامى عمليا من خلال اتخاذ ربّ للحرب، وربّ للمحبة، ورب للحياة وآخر للممات وكأنّ هناك تخصّصات في الإشراف والرعاية.