الإسلام دين الجماعة. أي الأمة، تلك خصيصة من خصائص المنهج الإسلامي. وكون الأمة هي الجامعة الأساسية -في المنظور الإسلامي- لا يعني الإجحاف بحقوق “الفرد”، ولا الإنكار لوجود “الطبقة” -بالمعنى الاجتماعي- في إطار “الأمة”، وإنما هي العلاقات التي أقامتها الوسطية الإسلامية الجامعة بين “الفرد” و”الطبقة” و”الأمة” على نحو متميز وفريد.
فالمسؤولية في الإسلام في الكثير من التكاليف، وفي الحساب والجزاء عليها مسؤولية فردية، نَقَل الإسلام بها هذا الفردَ من وضع الذوبان الكامل في إطار القبيلة والعشيرة، لكن هذا الإنسان الفرد هو مدني بالجبلة، اجتماعي بالطبع، يستحيل عليه أن يحيا فردا وفي حدود النـزعة الفردية.

نسق التكاليف الدينية

والتكاليف في الإسلام منها الفردي (فروض العين) ومنها الاجتماعي (فروض الكفاية)، وهي جميعا ينتظمها نسق واحد، هو نسق التكاليف الدينية، والرباط بينها عضوي، حتى لَيستحيل على الفرد -بسبب من مدنيته واجتماعيته- أن ينهض بتكاليفه الفردية (فروض العين) إذا أصاب الخللُ النظامَ الاجتماعي بتخلف الفروض الاجتماعية. فإذا انعدم الأمن في المجتمع أو عزّ فيه القوت، فأنّى للعابد أن يعبد الله ويؤدي فرائضه العينية؟! لقد قال الفقهاء: إن صلاة الخائف والجائع لا تصلح؛ لأن الحضور فيها -وهو شرط إقامتها- لا يتأتى إلا بالأمن الاجتماعي وتوافر الأقوات. ولقد أصاب الإمام الغزالي عندما حدد الضرورات الاجتماعية التي يستحيل بدون توافرها إقامةُ الدين، فقال: “إن نظام الدين لا يصلح إلا بنظام الدنيا؛ فنظام الدين بالمعرفة والعبادة، لا يُتوصل إليهما إلا بصحة البدن وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات والأمن. فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق هذه المهمات الضرورية. إن نظام الدنيا شرط لنظام الدين..”(1) ولذلك كانت فروض الكفاية (الاجتماعية) في المنهج الإسلامي آكدَ من فروض العين (الفردية)، للارتباط العضوي بينهما في النسق التكليفي الواحد، ولترتُّب التمكن من أداء كثير من فروض العين على تحقيق كثير من فروض الكفاية.

مركزية دور الفرد

لكن تحقيق الفروض الاجتماعية لا يغني عن ضرورة الفروض العينية؛ لأن مكانة الأمة والجماعة في التصور الإسلامي لا تلغي دور الفرد ومكانته، فالمسؤولية والتكليف والحساب والجزاء فردي، ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(الإسراء:15) في التكاليف الفردية، لكن البلوى الاجتماعية إذا عمت طالت من لا يد له فيها. ولذلك دعانا الله إلى اتقاء الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا دون سواهم ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾(الأنفال:25). إن النهوض بالمسؤوليات والتكاليف الفردية هو السبيل إلى إقامة التكاليف الاجتماعية.. كما أن إقامة التكاليف الاجتماعية هو الذي يهيئ للفرد الوفاءَ بحقوق تكاليفه العينية. وهذا الترابط بينهما هو التعبير عن ارتباط الفرد بالأمة في منهج الإسلام.

الفرد لبنة كيان الأمة

وفي ضوء هذه الحقيقة نقرأ صياغتها عند الماوردي عندما يقول: “واعلم أن صلاح الدنيا معتبر من وجهين: أولهما: ما ينتظم به أمورُ جملتِها. والثاني: ما يصلح به حال كل واحد من أهلها. فهما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه؛ لأن من صلحت حاله مع فساد الدنيا واختلالِ أمورها، لن يعدم أن يتعدى إليه فسادها ويقدح فيه اختلالها؛ لأنه منها يَستمد ولها يستعد. ومَن فسدت حاله مع صلاح الدنيا وانتظام أمورها لم يجد لصلاحها لذة ولا لاستقامتها أثرا؛ لأن الإنسان دنيا نفسه، فليس يَرى الصلاح إلا إذا صلحت له، ولا يجد الفساد إلا إذا فسدت عليه؛ لأن نفسه أخص وحاله أمسّ، فصار نظره إلى ما يخصه مصروفا، وفكره على ما يمسه موقوفا.(2)
فالفرد هو نقطة البدء، وهو بواسطة الأسرة والعشيرة يُعدّ لبنة في كيان الأمة، ولا مكان للفردية المغالية في المنهج الإسلامي؛ لأن صلاح اللبنة موقوف على كونها جزءاً من البناء الكبير.

الأمة في التصور الإسلامي

والأمة في التصور الإسلامي ليست مجرد جمع “كمي” يساوي عدد الأفراد فيها، وإنما هي كيان جامع، له حالة (كيفية) جديدة تفوق كيفياتِ وقدراتِ أفرادها متفرقين. إنها كيان متميز، له ما ليس للأفراد المتناثرين. إن الخيوط المتفرقة ليست لها القوة المتحصلة منها ذاتها إذا هي اجتمعت. وقطرات الماء المتفرقة لا تحدث الري الذي تحدثه عند الاجتماع. والأفراد المتفرقون ليست لهم حصافة الرأي ورجاحة العقل وكياسة النظر التي تتأتى لهم بشورى الاجتماع. ولذلك لم يَمنع جوازُ الضلال على كل فرد من أفراد الأمة، أن تكون لهذه الأمة العصمةُ عند الاجتماع والإجماع. ويشهد على هذه الحقيقة الموضوعية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله وعدني في أمتي وأجارهم من ثلاث: لا يعمهم بسنة، ولا يستأصلهم عدو، ولا يجمعهم على ضلالة” (رواه الدارمي).
فللأمة في الإسلام مقام فريد، يعلو بها عن مجرد الجمع العددي والتراكم “الكمي” لما لدى أفرادها وآحادها. ولقد أبصر الماوردي وهو يتحدث عن مذاهب الأمم في “الشورى” كيف أن الحضارات التي مالت كفتها لحساب “الفرد” قد حبذت “الشورى الفردية”، بينما حبذت الحضارات التي مالت كفتها لحساب المجموع “شورى الاجتماع”. ثم أضاف الجديد الذي تميزت به حضارة الإسلام وشوراه، عندما جمعت بين الاثنين (الفرد والمجموع) فقال: إن مذهب الإسلام في “الشورى” هو الجمع بين “شورى الفرد” و”شورى الاجتماع”، فحيث تكون القضايا مما تحتاج إلى الاجتهاد وإعمالِ الفكر واستنباطِ الأدلة تكون شورى الانفراد؛ لأنها شورى الاجتهاد. وحيث يكون المراد هو الكشف عن ثمرات الاجتهاد الفردي، فإن الاجتماع والمواجهة (شورى الاجتماع) تكون هي السبيل القويم.(3) فللارتباط بين الفرد والمجموع كان جمع الشورى الإسلامية بين نمطي شوراهما جميعا.

التمايز الطبقي

وكما أن دار الإسلام تتألف من أوطان وأقاليم يجمعها جامع الإسلام: العقيدة والشريعة والحضارة؛ فكذلك أمة الإسلام تتألف من الشعوب والقبائل التي تعارفت بالإسلام وعليه، فغدت أمة الإسلام التي لا تمزِّق وحدتَها التمايزاتُ القومية والعرقية والبيئية؛ لأنها تمايزات الواقع الذي لا يناقضه الإسلام، وإنما يهذبه فينظمه في نسق العقيدة الواحدة والحضارة الواحدة.
وإذا كانت مكانة الفرد في المنهج الإسلامي قد شهدت بتميزها المسؤولية الفردية، والتكاليف الفردية.. وإذا كان القرآن الكريم قد أبرز مكانة الأمة ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(الأنبياء:92) ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران:110) ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾(البقرة:143).. فإن المنهج الإسلامي لا ينكر وجود “الطبقة” ولا التمايز الطبقي في إطار الأمة وفي داخلها؛ فالتفاوت الاجتماعي -بنظر الإسلام- حقيقة من حقائق الواقع، نابعة من تفاوت الحوافز والقدرات والجهد المبذول والذكاء الذي يستخرج الثمرات.. والإسلام لا يقفز على حقائق الواقع ولا يتجاهلها ولا يعاديها، ولكنه يهذبها ويضبطها كي تظل في إطار “المشروع” ونطاق “العدل” الذي لا يعني المساواة التامة وإنما يعني “التوازن” بين فرقاء متفاوتين.. التوازن (الوسط) العدل، الذي ينكر الظلم ويقترب بالتفاوت إلى حيث درجة التوازن ولحظة العدل، التي يكون فيها التفاوت مؤسسا على ما هو ضروري ومشروع وطبيعي من العوامل والأسباب. ﴿وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ﴾(النحل:71). فإذا تأسس التفاوت والتمايز الاجتماعي والاقتصادي على ما هو مشروع من الأسباب، وإذا أحدث هذا التفاوت تمايز الأمة إلى طبقات اجتماعية متميزة، فإن الإسلام لا يرى في وجود الطبقات إخلالا بالأمة، ولكنه كما أقام علاقات الترابط بين الفرد وبين الأمة، كذلك يهذب من حدود التمايز والتفاوت الطبقي ويضبط جموحه ويرسم آفاقه، على النحو الذي يجعل علاقات الطبقات الاجتماعية في لحظة التوازن ودرجته ومستواه؛ لأن هذا التوازن الذي يجمع بروابط التساند الطبقات المتعددة هو العدل الوسط في منهج الإسلام.
أما إذا اختل هذا التوازن الاجتماعي بين الطبقات في أمة الإسلام؛ فإن الخيوط الجامعة بين الطبقات تخلي مكانها لعوامل التناقض والصراع بين هذه الطبقات. وتلك هي الأخرى حقيقة موضوعية، وواقع اجتماعي، لاينكره المنهج الإسلامي ولا يستنكره ولا يتجاهله ولا يقفز عليه. لكنه يضع أيضا لهذا الصراع الضوابطَ، ويحدد له الغاياتِ والآفاقَ؛ فالهدف منه هو العودة بالعلاقات الطبقية إلى درجة التوازن ولحظة العدل الوسط. وليس الهدف منه أن يَنفي قطبٌ القطبَ الآخر تماما، وأن تُلغي طبقةٌ الطبقةَ النقيض كلية وتقتلعها من الوجود؛ فهذا المفهوم للصراع الطبقي هو خصيصة غربية، لأن لهم مفهومهم الخاص لآفاق حرية الطبقة في التمايز والامتياز.. وهي آفاق قد لا تعرف الحدود. فالبرجوازية سعت إلى نفي الإقطاع، والبروليتاريا سعت وتسعى إلى نفي البرجوازية. وما حديث “الشمولية-الشيوعية” عن المجتمع اللاطبقي إلا حديث عن المجتمع الذي تنفرد فيه طبقة واحدة بسلطات الفكر والحكم والمال.. لكنهم يكتشفون أن التمايز الطبقي الطبيعي حقيقة موضوعية من حقائق التوازن الاجتماعي (أي العدل الاجتماعي) وضرورة من ضروراته. فما ظنوه اقتلاعا للبرجوازية، لم يكن أكثر من استبدال الطرف الذي يتمتع بامتيازاتها؛ فبدلا من الملاك الرأسماليين حل “الحزب” و”التكنوقراط” (أي الدولة) التي امتلكت سلطات الفكر والحكم والمال بدلا من ملاكها السابقين. تغيرت الأسماء، ولم تلغ الطبقية في المجتمع الذي ظنوه لا طبقيا، حتى لَيتحدثون عن حاجة مجتمعهم هذا إلى ثورة لإزالة ما به من تناقضات.

الإسلام لا يتجاهل الواقع

لكن الإسلام الذي لا يقفز على الواقع ولا يتجاهل حقائقه -ومنها التمايز الطبقي النابع من التفاوت الاجتماعي الطبيعي- يجاهد لإبقاء هذا التفاوت في حدود الأسباب المشروعة، ويعمل على أن لا تتجاوز آفاقه لحظة التوازن، التي هي درجة العدل (الوسط).. فإذا تجاوز هذه الآفاق واختل التوازن وحل الظلم الاجتماعي محل العدل الاجتماعي، فلا حرج في الإسلام أن يشهد المجتمع دفعا طبقيا، بل لقد رآه الإسلام سنة من سنن الله في المجتمعات، تقود الظاهرة الاجتماعية من درجة الخلل ولحظة الظلم إلى درجة التوازن ولحظة العدل بين الطبقات؛ ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(البقرة:251)،(4) و”من أريد ماله بغير حق فقاتل فَقُتِل فهو شهيد” (رواه الترمذي).
فهذا الدفع الاجتماعي الذي هو سنة من سنن الله في المجتمعات هو أداة العودة بالعلاقات -إذا هي خرجت من دائرة التمايز المشروع والطبيعي في الرابطة الجامعة إلى دائرة التناقضات العدائية والممزِّقة لجامع الأمة وتضامنها- هو أداة العودة بالعلاقات الطبقية من إطار الخلل والظلم إلى إطار التوازن والعدل؛ لتظل الأمة هي الجامعة، حاملة رسالة الإسلام: العقيدة والشريعة والحضارة. وليست الطبقة هي حاملة الرسالة البرجوازية -ورسالتها “الليبرالية-الرأسمالية”، والبروليتاريا -ورسالتها “الشمولية-الشيوعية”.

علاقة الطبقة بالأمة

ثم إن هذا الموقف المتميز للمنهج الإسلامي من علاقة الطبقة بـ”الأمة”، هو الآخر مؤسس على مفهوم متميز لمعنى “الطبقة” في منهج الإسلام؛ فإذا كانت “الطبقة” هي الشريحة المتميزة اجتماعيا في إطار الشعب أو الأمة، وإذا كان هذا التعريف لها هو مما يمكن الاتفاق عليه في مختلف المذاهب والحضارات، فإن خلاف المنهج الإسلامي مع المناهج الغربية يأتي في العامل والمعيار الذي يميز هذه الشريحة فيجعلها طبقة اجتماعية متميزة عن غيرها من الطبقات.
ففي الحضارة الغربية نجد أن الوضع المادي (الاقتصادي) هو الأساس الأول والمعيار الأعظم في تمييز الطبقة اجتماعيا. وما نوع العمل في ذلك المنهج إلا سبيل لتحديد مستوى هذا الوضع المادي والاقتصادي.. أما في المنهج الإسلامي فإن معايير تمايز الطبقات متعددة ومتنوعة، ولا تقف عند العامل المادي وحده. فنوع العمل ووظيفته في المجتمع ومكانته في الهيئة الاجتماعية يثمر تميز الطبقة اجتماعيا حتى مع غيبة التماثل المادي والاقتصادي داخلها، لأن شرف العمل أو وضاعته، وخطره أو ثانويته، تثمر رباطا يصنع ويميز الطبقة اجتماعيا عن غيرها من الطبقات، وابن الفلاح الذي ينفلت من طبقة الفلاحين مهنيا طبيبا أو مهندسا أو عالما أو رجل دولة أو قائدا عسكريا، إنما يدخل في طبقة اجتماعية جديدة تميزه اجتماعيا، حتى ولو لم يتجاوز ماديا المستوى الاقتصاديَ الذي يوجد عليه أبوه الفلاح، وحتى مع بقائه عضوا في أسرة فلاحية. فليس بالعامل المادي والاقتصادي وحده تتمايز الطبقات. كما أن هذا التمايز، لأنه في إطار الجامعة الأعظم جامعة الأمة، لا يعرف الفواصل الحادة، على النحو الذي عرفته الحضارة الغربية في العلاقات ما بين الطبقات.

مفهوم العدل في الإسلام

هكذا أقام المنهج الإسلامي ويقيم العلاقة بين الفرد والطبقة.. وبين الطبقات -في إطار الأمة- على النحو الذي يحقق فيه الكلُّ ذاتَه ورسالته، وعندما يكون التوازن والعدل والوسط هو ميدان الاجتماع والالتقاء. فإذا اختل الأمر كان الدفع الاجتماعي والجهادُ لإعادة العلاقات إلى صحتها، ونفيِ عوامل المرض وجراثيمه منها، وليس لينفي طرف من الأطراف الطرفَ الآخر حالمِاً بالانفراد والاستغناء. إن الاجتماع والاشتراك (الأمة) والتأليف والتساند بين الفرقاء المتميزين هو العدل.. أما الانفراد -من الفرد أو من الطبقة في السلطة السياسية أو بسلطان المال- فهو عين الظلم وذات الطغيان. وصدق الله العظيم حين يقول: ﴿كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾(العلق:6-7).
إن هناك حدا أدنى للعدل لابد أن يتوفر للفرد هو الإنصاف في القانون والحكم، والإنصاف في أمور المعاش. وفي كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه حول القضاء إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، يقول: “وبحسب المسلم الضعيف من العدل أن ينصف في الحكم والقسم”.(5) هذا هو الحد الأدنى من العدل للفرد الضعيف في منهج الإسلام.
وفي العهد الذي كتبه الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى واليه على مصر (الأشتر النخعي) حديث عن التمايز الطبيعي والواقعي بين طبقات الأمة، وعن واجب الدولة الإسلامية حيال هذا الواقع الطبقي، وعن السبيل لإبقاء العلاقات في درجة التوازن ولحظة العدل. يقول الإمام علي رضي الله عنه لواليه: “واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها: جنود الله، ومنها: كُتّاب العامة والخاصة، ومنها: قضاة العدل، ومنها: عمال الإنصاف والرفق، ومنها: أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها: التجار وأهل الصناعات. ومنها: الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة (أي العاجزون عن الكسب والتحصيل).. فالجنود حصون الرعية، وسبل الأمن. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج. ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب. ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات”.(6)
فالمطلوب لتحقيق العدل ليس الصراع الذي تنفي فيه طبقةٌ بقيةَ الطبقات، بزعم أن العدل مرهون بالمجتمع اللاطبقي. وإنما العدل المطلوب سبيله إقامة التوازن بين الطبقات التي تُعد وظائفُها ضروراتٍ اجتماعية تحقق للمجتمع ثمرات من الكسب المادي والفكري، والكسبِ الحافظ على المجتمع قدرته وحركته ومنعته. لأن هذه الطبقات -كما يقول الإمام علي-: “لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض”.
ولعل هذا التساند الطبقي، والارتفاق الذي لا غنى عنه بين الطبقات، لعله ان يكون التفسير الأدق لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾(الزخرف:32). فالتمايز والتفاوت الطبقي والمحدد بأنه درجات، هدفه -وهذا هو المعنى المناسب لـ﴿سُخْرِيًّا﴾- هو التساند والارتفاق، وأن تكون كل طبقة هي للأخرى مرفق وسند وعماد. وليس المراد سخرة الاستعباد والإذلال التي هي عين الظلم الذي تَنَـزه اللهُ عن فعله وعن إرادته للناس. فالطبيعة وظواهرها وقواها قد سخرها الله للإنسان يرتفق بها ويستعين على عمارة الأرض وتزيينها. وكذلك التمايز الطبقي ضرورة للتساند والارتفاق، عندما تكون العلاقات الطبقية في لحظة التوازن ودرجة العدل؛ لتكون الأمة بأدائها الاجتماعي كالفريق وكالجسد الواحد، الذي وإن تكن من أعضاء متمايزة إلا أن العلاقات والروابط الصحيحة بين أعضائه المتعددة تُحقق له -بتنمية الحوافز وإثارة الهمم- أداء موحدا لجسد واحد، حتى إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
ولأن هذه هي “فلسفة الإسلام الاجتماعية” وجدنا القرآن الكريم يجعل “المال” مال الله عز وجل في ذات الوقت الذي يجعله مال الناس بحكم خلافتهم فيه عن الله، فلقد قال خالقه وواهبه لخلفائه فيه: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾(الحديد:7). فجعل ملكية الرقبة الملكية الحقيقية له سبحانه، وجعل للإنسان فيه ملكية المنفعة لملكية المجازية المحقِّقة لمقاصد الاستخلاف في هذه الأموال، وذلك حتى ينفتح الباب -دائما وأبدا- أمام حركة الدفع الاجتماعي وأنصار العدل الاجتماعي كي يعيدوا أوضاع الامتلاك والاختصاص والحيازة في الأموال إلى درجة التوازن ولحظة العدل التي تنفي الخلل والظلم وتُحقق مقاصد الاستخلاف. فإذا غدا المال ﴿دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ﴾(الحشر:7) جاز -بل وجب- إعادة التوازن بين الفرقاء، بتأسيس التفاوت بينهم على المشروع من الأسباب والحلال من الثمرات.
وفي نطاق المستخلفين وجدنا القرآن الكريم يضيف مصطلح “المال” إلى ضمير “الجمع” في سبع وأربعين آية ﴿أمْوَالكُمْ﴾ و﴿أموَالهُمْ ﴾ وإلى ضمير الفرد في سبع آيات ﴿مَالهُ﴾ ﴿مَالِيَهْ﴾، فلا ينفرد جانب دون الآخر بحق الاستخلاف.
ولعل في تأمل الآية الكريمة التي تشرّع لنوع العلاقة بين المستخلَف في المال وبين الله الذي استخلفه، ثم بينه وبين أصحاب الحقوق في هذا المال -وهي علاقة الواسطة والسبب بين الواهب وبين أصحاب الحقوق-.. لعل في تأمل الآية التي تشرّع لذلك فتقول: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾(النور:33) ما يجسد هذا المعنى الذي نلح على إبرازه. فالمال مال الله، وهو قد آتاه حائزةً ليؤتى منه أصحاب الحقوق. فالحائز “واسطة”، والحيازة وظيفة اجتماعية واقتصادية لمصلحة المجموع.
ثم لنتأمل صنيع عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الصحابي بلال بن الحارث رضي الله عنه، و”الإقطاع” الذي أقطعه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقد سأل بلال الرسول أن يقطعه أرضا واسعة، فأقطعها له، وكان ذلك سبيلا لإحياء الارض الموات أو زراعة الأرض التي لا صاحب لها، ولكن بلالاً حجز هذه الأرض دون أن يزرعها بحجة أنه صاحبها يفعل فيها ما يريد. لكن عمر رأى أن في ذلك إخلالا بالتوازن والعدل الذي يجب أن يحكم علاقات الملكية والحيازة في الأموال كي لا تكون دولة بين الأغنياء، يحوزون أكثر مما يطيقون ويحتاجون، بينما لا يجد الآخرون ما يحتاجون. فأراد عمر العودة بهذه العلاقة بين بلال والأرض من درجة الخلل إلى درجة التوازن والعدل، وذلك بأن تقتصر حيازته على ما يطيق زراعته، وأن يعطى الزائد لمن يحييه ويستثمره. ولما جادل بلال في ذلك قسره عليه عمر، بل وسَنَّ قانونا ينظم أمر هذه الإقطاعات، ويَضمن إعادة العلاقة بالأموال -إذا هي اختلت- من درجة الظلم والخلل إلى درجة العدل والاتزان.
لنتأمل صنيع عمر هذا من خلال كلمات الحوار الذي دار عنيفا بينه وبين بلال ابن الحارث رضي الله عنه، والذي بدأه عمر رضي الله عنه فقال لبلال: إنك استقطعت رسول الله أرضا طويلة عريضة، فقطعها لك. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنع شيئا يُسأله، وأنت لا تطيق ما في يدك.
– أجل.
– فانظر ما قويت عليه فأمسكه، وما لم تقدر عليه فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين.
– لا.. لا أفعل، هذا شيء أقطعنيه رسول الله.
– إن رسول الله لم يقطعك لتحتجزه عن الناس، وإنما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورُد الباقي.
– لا أفعل.
– والله لتفعلن.
وأخذ عمر من بلال ما عجز عن عمارته فقسمه بين الناس. ثم خطب الناس: “من أحيا أرضا ميتة فهي له.. ومن عطل أرضا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له”.(7)
فنحن هنا أمام تطبيق خلّاق لفلسفة الإسلام في استخلاف الناس في الأموال عن الله، وتحديد آفاق ملكيتهم وحيازتهم لها بحدود عهد الاستخلاف. وأمام تجسيد لمذهب الإسلام في الإقرار بالتمايز الاجتماعي والطبقي، مع الحرص على أن تكون علاقات المتمايزين طبقيا عند لحظة التوازن والعدل (الوسط). فإذا حدث الخلل والظلم عاد المنهج الإسلامي بهذه العلاقات -كما صنع عمر مع بلال بن الحارث- إلى درجة التوازن والعدل. فهو لم يلغ حيازة بلال للأرض إلغاء كاملا، وإنما وقف بها عند حدود التوازن العادل. “خذ منها ما قدرت على عمارته، ورد الباقي إلينا نقسمه بين المسلمين”.
هنا تنشأ وتصح العلاقات بين الفرد، والطبقة، والأمة، وتظل الوسطية الإسلامية الجامعة المعيار الذي يرشِّد هذه العلاقات، ويضمن لها البقاء في درجة التوازن ولحظة العدل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “الوسط: العدل، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾(البقرة:143)” (رواه أحمد).
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) الاقتصاد في الاعتقاد، للغزالي، مطبعة صبيح، القاهرة، ضمن مجموعة، بدون تاريخ.
(2) أدب الدنيا والدين، للماوردي، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1973م، ص: 134.
(3) أدب الدنيا والدين، ص: 293.
(4) وقال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحج:39-40).
(5) تاريخ الطبري، لابن جرير الطبري، دار المعارف، القاهرة، 4/ 203
(6) نهج البلاغة، للإمام علي بن أبي طالب، دار الشعب، القاهرة، ص: 337.
(7) الخراج ليحيى بن آدم طبعة القاهرة، 1374م، ص: 91-93؛ الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام، طبعة الشروق، القاهرة، 1989، ص: 382-384.