إن التفريق في الاستمداد بين مصادر المعرفة (نصا وعقلا وواقعا) باعتماد بعضها دون الآخر ينتج على الفور نزعات فكرية أكثر مما ينتج معرفة متكاملة. وهذا سبب من أسباب الفرقة والخلاف والنـزاع بين طوائف وتيارات الفكر الإسلامي ذات النـزوع النصي الحرفي، أوالعقلاني الصرف أو الدهري الواقعي جدا، ومثلها الباطني الغالي وهكذا. فالأصل في المعرفة أن تنال حظا من هدايةِ وإرشاد الوحي، وحظا من اجتهادِ ونور العقل، وحظا من حاجاتِ ونوازل العصر والواقع. تلك وَحْدها المعرفة القابلة للاستمرار والمقبولة عند ذوي العقول والفطر السليمة.
نجد العلامة النورسي رحمه الله يدافع عن هذا الاختيار التكاملي بين مصادر المعرفة، باعتباره موحِّدا لفكر الأمة من جهة، ومحقِّقا شرطَ كسبها الاجتهادي لزمانها من جهة أخرى، ومحققا لثمرات وجودها الواقعي من جهة ثالثة. يقول -رحمه الله- معبرا عن امتزاج نظره العقلي بيقينه القلبي ومشهودات الواقع الحسي: “اعلم أن عقلي قد يرافق قلبي في سيره، فيعطي القلبُ مشهوده الذوقي ليد العقل، فيبرزه العقل على عادته في صورة المبرهَن التمثيلي”. لذا فهو يرى “أن أعظم سببٍ سَلَب منا الراحةَ في الدنيا وحَرَمَ الأجانبَ من سعادة الآخرة وحجب شمسَ الإسلام وكَسفَها، هو سوء الفهم وتَوهُّم مناقضةِ الإسلام ومخالفتِه لحقائق العلوم. فيا للعجب كيف يكون العبد عدو سيده، والخادمُ خصم رئيسه، وكيف يعارض الابن والده! فالإسلام سيد العلوم ومرشدها ورئيس العلوم الحقة ووالدها”. فالإنسان -حسب النورسي رحمه الله- مزود بقدرات مهمة وإن لم تكن نهائية، وتوظيفُها بتوازنٍ في النظر والاستنباط للتحقق بواجباتِ وتكاليفِ الدين هو المطلوب، إذ الإنسان مسؤول عن كل أجهزته وموازينه المنعَم بها عليه من فاطره، والتي تحيله على عوالمَ لا متناهية في التعرف على خالقه وعلى نفسه وعلى الكون المحيط به، كما يدل على ذلك صريح الآية ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾(الإسراء:36).
ولهذا كما كان النورسي رحمه الله مدمن النظر في آيات النص المسطور، كان كذلك في آيات الكون المنظور. وكما يقول عنه تلامذته كان دائم المطالعة والقراءة لكتاب الكون، له تعامل خاص مع سائر المخلوقات والموجودات. وكان يسألهم: “أتقرؤون كما أقرأ؟”. يقول في “الآية الكبرى”: “مشاهدات سائح يسأل الكون عن خالقه” في بيان قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(الإسراء:44). “إن آيات كثيرة في القرآن الكريم -أمثال هذه الآية العظمى- تَذكر في مقدمة تعريفها لخالق هذا الكون “السماواتِ” التي هي أسطع صحيفة للتوحيد، بحيث ما يتأمل فيها متأمل إلا تغمره الحيرة ويغشاه الإعجاب فيستمتع بمطالعتها بكل ذوق ولذة”.
ولا يخفى أن الجمع بين القراءتين محدد منهاجي أساس في التعامل مع آيات الكتابين فهمًا واستنباطا وتعرفا واستكشافا، باعتبارها دلائل متجانسة متناسقة على الخالق سبحانه. وعلى امتداد رسائل النور نجد الشواهد حاضرة وقوية من الكتابين معا وهو ما أضفى عليها خصوصية الجدة والتفرد والإقبال الكبير.
مَلاحظ منهجية
وللنورسي رحمه الله ملاحظ منهجية كثيرة من خلال القرآن الكريم تمهد السبيل أمام هذا الضرب الجامع من القراءة، نذكر منها مسألة مهمة جدا تتعلق بهيمنة الجزئي على الكلي، والفروع على الأصول، والحاجيات على الضروريات؛ إذ بذلك تشعبت الآراء واختلفت وتمايزت وتعددت حتى لا تكاد تلمس بينها أصلا ناظما يوحدها. ومن هنا كان إلحاحه على الانتباه إلى القرآن الكريم في عرضه للأصول وللكليات الشاهدة والمسدِّدة لحركية الفروع والجزئيات الضابطة لتغيرها وتبدلها زمانا ومكانا؛ فـ”إن هناك خطرا عظيما في مزج الضروريات الدينية مع المسائل الجزئية والفرعية والخلافية وجعلِها كأنها تابعة لها”. ولهذا يرى أنه “لو كان قد بُيّن القرآن الكريم ضمن بيان الضروريات الدينية مباشرة، لكان الذهن ينتقل انتقالا طبيعيا إلى قدسيته ولأثارت الشوق إلى الاتباع ولنبهت الوجدان إلى الاقتداء، وعندها تنمو ملكة رهافة المشاعر لدى المخاطب بدلا من صممها أمام حوافز الإيمان وموقظاته”. وعلى الكتب الفقهية في هذا السياق: “أن تكون شفافة لعرض القرآن الكريم وإظهاره، ولا تصبحَ حجابا دونه كما آلت إليه بمرور الزمان -من جراء بعض المقلدين- وعندئذ تجدها تفسيرا بين يدي القرآن وليست مصنفات قائمة بذاتها”.
وهذه ملاحظة منهجية مهمة توضح أمرين أساسين:
1-كون كتب الفقه والتفسير وغيرها من الكتب الدائرة حول القرآن الكريم يجب أن تكون شفافة؛ معناه أن تنعكس فيها وعليها حقائق القرآن وخصائصه، وأن لا تحجب شيئا من ذلك فتبرز أجزاء دون أخرى. وهذا ما حدث للأسف، إذ نجد الأحكام المستنبطة من القرآن ما هي إلا جزء يسير منه، فلم يُنظر إلى كون كل آية فيه حُكم وحكمة ودلالة واعتبار وتصديق وإيمان.. ولهذا لم تتبلور أحكامُ علوم كثيرة أخرى أهمها علوم الإنسان وعلوم العمران رغم حضورهما القوي في القرآن الكريم، بل نُظر إليها وكأنها شيء آخر خارج نطاق الإيمان والأحكام بل والقرآن.
2-الشفافية تقتضي ألا يتحول الفرع المبيِّن إلى أصل متَّبع بدل الأصل، بل ينبغي أن يكون دالا على عليه كاشفا عن مكنونه ومحيلا قارئه عليه.
يوضح النورسي منهجية القرآن الكريم أكثر في عرض هذه الحقائق التي ينبغي أن تكون دليلا مساعدا للمستنبِط والمستمد من القرآن عموما، بالشكل الذي لا يقرأ به هذا الكتاب قراءة عضين، فتبقى أصول المعرفة مهيمنة على فروعها ويبقى أصل الوحدة ضابطا لمظاهر التجزيء بقوله: “اعلم أن من مزيات القرآن إيرادَ مذكرات الوحدة خلف مباحث الكثرة، والإجمال عقيب التفصيل، وترديفَ بحث الجزئيات بدساتير الربوبية المطلقة ونواميس الصفات الكمالية العامة الشاملة، بذكر فذلكات كالنتائج والتعديلات في آخر الآيات، لأجل ألا يتغلغل ذهنُ السامع في ذلك الجزء المذكور، فينسى “عظمة مرتبة الألوهية المطلقة” حتى يخل بلوازم آداب العبودية الفكرية لذي العظمة والهيبة والكبرياء. وكذا ليبسط ذهنك من ذلك الجزئي إلى أمثاله وأشباهه. وكذا يريك القرآن بهذا الأسلوب ويفهمك أن في كل جزئي -ولو حقيرا وزائلا- سبيلا واضحا وصراطا مستقيما ومحجة بيضاء إلى معرفة سلطان الأزل والأبد وإلى شهود صلوات أسماء الأحد والصمد”.
تكامل العلوم وانتظامها المنهجي في الوحي
وهذا المبحث فرع تابع للمبحث السالف لأنه بتكامل مصادر المعرفة تتكامل العلوم والمعارف، إذ لكل مصدرٍ علومٌ تنبثق عنه وتدور حوله بيانا وتوضيحا وبناءً وتأسيسا، والأصل فيها التداخل والتكامل، لوحدة الغاية والمصدر، وليس التقابل والتنافر والانحباس في دوائر خاصة لا تطل على غيرها ولا تتواصل معها. وهذا الذي حدث تاريخيا -كما ألمحنا سلفا- من حيث التأطر في المذاهب والفرق والطوائف، إنما هو من التحيزات والأفهام الخاصة التي جعلت كل طائفة تستقل عن الأخرى دون القدرة على التكامل معها. وكان لعاملِ تصنيفِ العلوم وتمييز بعضها عن بعض -تسهيلا لتلقينها والتعرف على أحكامها- أثر كذلك في هذا الانقطاع. إذ تَحول هذا الاعتبار المنهجي إلى واقع موضوعي يصعب الانفكاك عنه بالممارسة والتداول التاريخي، خصوصا بين العلوم المسماة “عقلية ونقلية”، “عبادية وعادية”، “حكمة وشريعة”.. وتطور هذا التمييز ليأخذ أشكالا أخرى في فكرنا الحديث والمعاصر في ثنائيات من قبيل: “حديث/قديم”، “ديني/مدني”، “شرعي/عقلي”، “أصيل/معاصر”.. وكأنه لا علاقة لأحدها بالآخر.
أدرك النورسي -رحمه الله- هذا الواقع، ولهذا سعى جاهدا ومجاهدا إلى الدعوة إلى بناء جامعة على غرار الأزهر، يكون لها من السمعة والإشعاع والتكوين والتعليم في القارة الآسيوية، ما له في مصر والقارة الإفريقية. جامعة كما يقول: “تتصافح فيها العلوم النابعة من الفلسفة مع الدين، وتتصالح الحضارة الأوربية مع حقائق الإسلام مصالحة تامة، وتتفق المدارس الحديثة وتتعاون مع المدارس الشرعية”. مدرسة يتم فيها “مزج العلوم الكونية الحديثة ودرجها مع العلوم الدينية؛ [فـ]ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الحديثة، فبامتزاجهما تتجلى الحقيقة فتتربى همة الطالب وتعلو بكلا الجناحين، وبافتراقهما يتولد التعصب في الأولى والحيل والشبهات في الثانية”.
وبهذا تتكامل دوائر العلوم الحديثة وتثمر، كما يصبح محصِّلها متحققا بالعلم والمعرفة على حقيقتها وليس بصور متوهمة منها. كما يكون التعرف على الخالق أكمل والارتباط به أوثق، من خلال الحبال المتعددة الممدودة إلى أصل واحد، وهو قانون سنني سارٍ في الكون، مَن أخذ به قام ومن أهمله نام.
وبخصوص تكامل العلوم وإمكان استيعابها فهو يقرر من جهةٍ “أن علوما كثيرة تتزاحم في كتاب واحد، فبسبب تعانقها وتجاوبها بإمداد بعضها بعضا وإنتاجِ بعضها بعضا يحصل تشابك إلى حد كبير، بحيث لا تكون نسبةُ مسائل العلم الذي ألف الكتاب فيه إلا زكاةَ محتواه”. ويقرر من جهة أخرى أن: “من الحقائق التاريخية، أن الشخص الواحد لا يستطيع أن يتخصص في أربعة أو خمسة من العلوم ويكون صاحب ملكة فيها”، وإنما “[يتخذ] المرء أحد العلوم أساسا وأصلا و[يـ]جعل سائر معلوماته حوضا تخزن فيه”. فـ”كما لا تشتري لوازم البيت المتنوعة من صَنَّاع واحد فقط، بل يجب مراجعة المتخصص في صنعة كل حاجة من الحاجات، كذلك لابد من توفيق الأعمال والحركات مع ذلك القانون الشامخ بالكمالات (قانون الفطرة)، أَلاَ يشاهَد أن من انكسرت ساعته، إذا راجع خياطا لخياطتها فلا يقابل إلا بالهزء والاستخفاف”.
أكثر من هذا، نجد عند النورسي رحمه الله تفاؤلا كبيرا بخصوص هذه العودة المحمودة إلى هذا الأصل التكاملي، إذ يراه انتصارا للحق وبرهانا عليه وسبيلا من سبل عودته للظهور. يقول: “ولما كان المهيمن هو الحق والبرهان والعقل والشورى في خير القرون وعصور السلف الصالح، لم يكن للشكوك والشبهات موضع. كذلك نرى بفضل انتشار العلوم في الوقت الحاضر وهيمنتها بصورة عامة، وفي المستقبل هيمنةً تامةً إن شاء الله عز وجل، سيكون المهيمن هو الحق بدلا من القوة، والبرهان بدلا من الطبع، والهدى بدلا من الهوى”، فـ”من محاسن سلطان الفكر أن تخلصت شمس الإسلام مما كان يحجبها من غيوم الأوهام والخيالات. بل أخذت كل حقيقة منها بنشر نورها، حتى المتعفنين في مستنقع الإلحاد أخذوا يستفيدون من ذلك النور”. و”ما جعل الإسلامَ يتجلى دوما وتنكشف حقائقه وتنبسط بنسبة انبساط أفكار البشر، إلا تأسُّسُه على الحقيقة وتقلدُه البرهانَ ومشاورته العقلَ واعتلاؤه عرش الحقيقة ومطابقتُه دساتيرَ الحكمة المتسلسلة من الأزل إلى الأبد ومحاكاتُه لها. أفلا يشاهَد كيف يحيل القرآن الكريم في فواتحِ أكثر الآيات وخواتمها البشرَ إلى مراجعة الوجدان واستشارةِ العقل بقوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ﴾(الغاشية:17).
استثارة الجوانب المكنونة في النص
لا يخفى أن ثمة خللا كبيرا في قضية استمداد الأحكام من الوحي، إذ نُظِر إلى الأحكام من خلال دائرة ضيقة، لا تكاد تتجاوز قضايا المكلف الفرد والجماعة. ولهذا نُظر إلى آيات الأحكام منحصرة في بضع مئات على الأكثر (حوالي 500)، أو في بضع عشرات على الأقل (حوالي 80). وما تبقى من القرآن هو للأخبار والوعظ والتذكير.. إلخ. في حين أن كل آية هي حُكمٌ ناطق وحكمة بالغة ووعظ واعتبار وهداية وإرشاد.. سواء كانت حكما تكليفيا مباشرا أو خبرا اعتباريا أو غير ذلك.
تبتدئ المسألة عند النورسي باستعداد القارئ نفسِه وقوة إرادته وعزيمته في النظر والاستمداد. أي أن ينظر كل في مجال اختصاصه وأهليته حيث بإمكانه الإبداع والعطاء. فعنده أنّّ “ترك المستعِد لما هو أهل للقيام به وتشبثَه بما ليس أهلا له، عصيانٌ كبير وخرقٌ فاضح لطاعة الشريعة الكونية (شريعة الخلقة)، إذ من شأن هذه الشريعة انتشار استعداد الإنسان ونفوذ قابليته في الصنعة واحترام مقاييس الصنعة ومحبتها وامتثال نواميسها والتمثل بها”.
توسيع دائرة الاستمداد
وفي توسيع دائرة الاستمداد والنظر في القرآن الكريم وأهلية الإنسان لاستثارة جوانبه المختلفة يقول: “إن في القرآن الحكيم حوادث جزئية، لكن وراء كل حادث يكمن دستور كلي عظيم، وإنما تذكر تلك الحوادث لأنه طرف من قانون عام شامل كلي وجزء منه. فالآية الكريمة ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(البقرة:31) تبين أن الأسماء معجزة من معجزات سيدنا آدم عليه السلام تجاه الملائكة إظهارا لاستعداده للخلافة. وهي وإن كانت حادثة جزئية إلا أنها طَرَف لدستور كلي وهو: أن تعليم الإنسان -المالكِ لاستعدادٍ جامعٍ- علوما كثيرة لا تحد، وفنونا كثيرة لا تحصى، حتى تستغرق أنواع الكائنات، فضلا عن تعليمه المعارف الكثيرة الشاملة لصفات الخالق الكريم سبحانه وشؤونه الحكيمة.. إن هذا التعليم هو الذي أهّل الإنسان لينال أفضليةً، ليس على الملائكة وحدهم، بل أيضا على السموات والأرض والجبال في حمل الأمانة الكبرى”.
فالنظر إلى القرآن إذن نظر كلي مستوعب وإن تعددت الجزئيات، يطول كلَّ الكائنات ويستوعبها، يؤسس لكل العلوم ويرشدها، يعرّف بالخالق ويُظهر جليلَ وجميلَ صنعته. يضيف في هذا الاتجاه موضّحا: “أن في كل مصنوع وجهين: وجه ينظر إلى ذاته وصفاته الذاتية، ووجه ينظر إلى صانعه وإلى ما تجلى إليه من أسماء فاطره. والوجه الثاني أوسع مجالا وأكمل مآلا، إذ إن كل حرف من كتاب يدل على نفسه بمقدار حرف وبوجه واحد، ويدل على كاتبه بوجوه كثيرة، ويعرف كاتبه ويصفه للناظر بمقدار كلمات كثيرة.. كذلك إن كل مصنوع الذي هو حرف من كتاب القدرة، يدل على وجوده ونفسه بمقدار جرمه وبوجه واحد هو وجوده الصوري. لكن يدل على نقّاشه الأزلي بوجوه متنوعة كثيرة، وينشد من أسمائه المتجلية على ذلك المصنوع بمقدار قصيدة طويلة (…) فمن هذا السر تَرى كتب الفلاسفة أحكمَ فيما يعود إلى الكائنات في أنفسها، مع أنها أوهن من بيت العنكبوت فيما يعود إليها بالنسبة إلى صانعها. وكلام المتكلمين مثلا لا ينظر إلى المسائل الفلسفية والعلوم الكونية إلا بالمعنى الحرفي التبعي والاستطرادي للاستدلال فقط”.
فالقرآن الكريم عند النورسي “خطاب إلهي شامل لجميع طبقات الجن والإنس ولكل العصور والأحوال والظروف كافة”. و”ذكرُ القرآن لبعض الغايات الراجعة إلى الإنسان إنما هو للإخطار لا للانحصار، أي لتوجيه نظره إلى الدقة في فوائدِ نظام ذلك الشيء ذي الغاية في انتظامه الدال على أسماء صانعه، إذ الإنسان إنما يهتم بما له علاقة ما به، فيرجّح ذرة ما إليه على شمس ليست إليه؛ مثلا في قوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾(يس:39)، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾(يونس:5)، هذه غاية من ألوف غاياتِ تقدير القمر وليس المراد الانحصار. أي إنما خلق ذلك لهذا. بل إن هذا هو المشهود لكم من ثمرات ذلك”.
فالقرآن المجيد إذن معطاء عطاءً غير مجذوذ، لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه، يحيل الجزء منه على الكل، والكل على الجزء في علاقة نسقية بديعة. وإنما يتطرق القصور والإهمال من جهةِ نسبيةِ ومحدوديةِ النظر الإنسانيّ، خصوصا إذا عمد هذا الناظر إلى وضع سياجات وحدود حول النص لا تسمح بأن يفهم منه إلا ما فهمه هو. فبدلَ أن يبقى النص رسالة مفتوحة للعالمين تستوعب الزمان والمكان، تتحول بأفهام قاصرة إلى دوائر مغلقة لا تكاد تعبر عن آراء طائفة من الناس. وقد كان النورسي -رحمه الله- شديد النكير على هذا الصنف من المضيّقين واسعا والمعترضين على غيرهم بما فهموه.
كما يُرجع النورسي هذا الإهمال لشمول الأحكام في الفقه إلى الاهتمام بالقضايا الفرعية والخلافية وتركِ الأركان والكليات التي هي الأعمدة والأصول. وهو تنبيه منه -رحمه الله- إلى أن الرجوع إلى العزة والمنعة، ومقوماتِ النهضة والتوحد في الأمة، إنما يكون بالاستمساك بالأصول والأركان وجَعْلِها مدارَ حركة الإنسان والعمران، بدلَ الإيغال في الفروع والجزئيات غيرِ المنضبطة إلى ضابط أصل يستوعبها ويرشد حركتها. فالجزئية الشاردة عن مجموعتها كالجندي الشارد عن فريقه، كلاهما خارج نظام العمل الجماعي النسقي المتكامل.
يلفت النورسي كذلك النظر إلى مسألةٍ غاية في الأهمية بخصوص علاقة الإنسان بالقرآن وهي قدسية هذا الكتاب الحاملةُ على الانقياد له، فـ”الذي يسوق جمهور الناس إلى الاتباع وامتثالِ الأوامر هو ما يتحلى به المصدر من قدسية، هذه القدسية هي التي تدفع جمهور الناس إلى الانقياد أكثر من قوة البرهان ومتانة الحجة”.
خلاصة
نخلص مما تقدم إلى أن منهج الاستمداد من الوحي منهج تتكامل وتتداخل فيه عناصر متعددة، على رأسها التزود بالعلوم المساعدة، وعلى رأسها -كما قال الشاطبي مختصرا من غير تطويل- العلم باللغة العربية وبمقاصد الشريعة، لكنه يحتاج مع ذلك إلى إخلاص ونية وتجرد، وإقبال بمشكلات وهموم التماسا لحلولها، وبحث عن المكنون وامتداداته. كما لا يخفى أن من أهم الحوافز المساعدة على عمق وسعة الاستمدادِ الإيمانُ بقدسية الكتاب وكونه بلسما شافيا، والإيمان بأن النظر فيه تدبرا وتفكرا تكليف شرعي كسائر التكاليف تترتب عليه جزاءات. ففي القرآن الكريم معالمُ منهاجٍ استمدادي متكامل هو الذي درجت عليه السنة النبوية في بيانها، وكان عليه الصدر الأول. لكن ما جاء بعد من تراكم في العلوم والمعارف الدائرة حول هذا الأصل، وإن شكلت إبداعا متفردا للأمة بين سائر الأمم، فإنها -أو جانب منها على الأقل- شكّل عوائق وموانع حالت دون استمرار الاستمداد على منهاج القرآن والسنة. وهذا الذي حاولنا فيما تقدم الكشف عن بعض جوانبه، باعتبارها مشكلات تحتاج إلى مراجعة وإعادة بناء. سواء تعلق الأمر بمصادر المعرفة في تكاملها، أو تكاملِ دوائر العلوم وإمساكِ بعضها ببعض وارتباطِها بالأصل، بما يحقق أصل الوحدة والتوحد على مستوى الفكر والثقافة ويدرأ آفة الجزئية والتجزيء فيهما، التي طالت واقع الأمة الاجتماعي والسياسي كذلك.
ـــــــــــــ
المصادر
(1) كليات رسائل النور، لبديع سعيد النورسي. ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، الأجزاء: 1- الكلمات، 4- الشعاعات، 6- المثنوي العربي النوري، 8- صيقل الإسلام، 9- سيرة ذاتية.