مع نسمات الصباح وجلال الغروب يحلو للمسلم أن يرطب فؤاده بأذكار الصباح والمساء. يستفتح يومه بميلاد فجر جديد فينطلق لسانه بالذكر، وجوارحه بالصلاة والتسبيح رجاءَ أنْ يكون يومه خيرًا من أمسه، وشاهداً له لا عليه.
إن المسلم حين يلهج لسانه بذكر الله صباحاً ومساءً، فإنه بذلك يقرّ لله بالربوبية ويشهد له بالعبودية، وينضم لقافلة المسبِّحين في أرجاء الكون الفسيح.. من الشجر والحجر والطير والدوّاب: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(الإسراء:44).
ثم حين يذهب إلى السوق أو عمله، فهو صورة صادقة لما يحمل من منهج، وما يعتنق من مبادئ.. فلا غشّ ولا كذب، بل صدق ووفاء وحسن خلق وأمانة.. يتوكل على الله.. يأكل من رزق الله، وينفق فيما أحل الله.. وبين الحين والحين يدلف للمسجد.. يجدد إيمانه ويضاعف نشاطه ويلتمس في جنباته زاد الحياة ورحيقها.
إن ذكر الله -عند طلوع الشمس وغروبها- يُشعر المرءَ دائماً بلحظات الميلاد والموت، البدء والانتهاء، للكون واليوم والإنسان والحياة.. وضرورة أن يكون البدء والانتهاء وما بينهما لله، وبالله، ومن الله.. فهو سبحانه خالق الحياة، ومبتدئ الأشياء، وإليه المرجع والمآب ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام:162-163).
مَنْ حافظ على أذكار الصبح والمساء كانت له نوراً وبرهاناً في الدنيا والآخرة، وفرّج الله همّه وأذهب عنه حزنه وسدَّ دينه ورزقه من حيث لا يحتسب.. وفوق ذلك، جعله من الذاكرين والذاكرات الذين أعدَّ الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً.
وما يزال المؤمن بأذكاره يتقلب في روضة من رياض الجنة، يشم رائحتها الزاكية، ويقطف من ثمارها اليانعة، ويركن إلى ظلها الوارف، وينعم بمعيّة الله؛ فهو لا ينفك في أحواله -وإنْ اختلفت أو تقلبت- ذاكراً شاكراً صابراً محتسباً.. فهو مع الله، والله معه، وهذا ما يومئ إليه الحديث القدسي: “أنا جليس من ذكرني”.
فإذا أحب الله عبدًا، ألهمه شكره وشغله بذكره آناء الليل وأطراف النهار.. ولعمري، إن هذا التوفيق من الله نعمة تستحق الشكر، وجزاءٌ -على الذكر- كفى به جزاءً.. ينبهنا ابنُ عطاءِ الله السكندري بحسٍّ مرهف إلى هذا المعنى اللطيف فيقول: “كفى مِن جزائه إياك على الطاعة، أنْ رضيك لها أهلاً؛ كفى العاملين جزاءً، ما هو فاتحُه على قلوبهم في طاعته، وما هو موردُه عليهم مِن وجودِ مؤانسته”.
ولذلك، كان ذكر الله نوراً تستضيء به القلوب ويغمر الجوارح، فيسكب عليها سكينة وطمأنينة وخشوعاً.. ولئن غابت الشمس فأظلم الكون بغيابها، وافتقر الناس إلى وجودها.. فإن ذكر الله “شمس القلوب” لا يغيب بحال عن المؤمن، وهو ينير قلبه ما تحركت به شفتاه، وسكنت جوارحه لأمر ربها:
إنَّ شمسَ النـَّهارِ تَغـْرُبُ بالَّليْـ ـلِ، وشمسُ القلوبِ ليستْ تَغِيبُ.