إن الحق عز وجل قد منح الإنسان القدرة على العلم والمعرفة والتمييز بين الأشياء، فخلق له الأدوات التي يتمكن بها من تحصيل العلم واكتسابه. وبعد أن قدر الله للإنسان أن يكون عاقلاً مميزا عالما مختارا ومنحه أدوات العلم والتمييز، أمره أن يسلك سبيل العلم وأن ينتفع بأدوات العلم لديه، وأن لا يتبع أمراً لا علم له به، وأنه سيكون مسؤولاً عن الانحراف. إذ لا عذر لإنسان بعد ذلك إذا سلك طريق الضلال، قال تعالى: ﴿بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾(القيامة:14-15). وإذا كان الحق عز وجل هو الذي منحنا السمع والبصر والعقل، أفلا يجدر بهذا الإنسان أن يستخدم هذه الأدوات التي خلقها له ربه في معرفة خالقه سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قبل أي معرفة أخرى، فيأخذ عقيدته بعلم ويقين حتى يكون من أهل الإيمان الراسخ الذي لا يتزلزل، وليكون من أهل العقول الذين أبصروا بالعلم حقائق الإيمان بالله ورسوله، وبذلك يتذوق ويتمتع حلاوة العلم والإيمان؟!
العلم وصناعة الإنسان المؤمن.
لقد جعل الله تعالى الطريق للإيمان به وبرسوله يأتي عن طريق العلم وهو الطريق الموثوق للوصول إلى الغاية المقصودة، قال الحق عز وجل: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ﴾(محمد:19). إذن فالإيمان هو المنطلق الصحيح لتصرف الإنسان في هذه الحياة، المحقق للسعادة في الدنيا والآخرة. وكل تصرف ينطلق من غير الإيمان لا يثمر إلا الشقاء والخسران. ولهذا علق الله الفلاح والفوز به، وعلق الخسران والشقاء بفقده، كما قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(العصر:1-3).
فالعلم من أجلّ نعم الله تعالى على الإنسان، حتى أصبح جزء من حياتنا اليومية نحتاجه في أعمالنا، ولا حديث في هذه الأيام إلا على التطورات التكنولوجية. وهنا يطرح السؤال، إلى أي مدى يمكن أن نقدس العلم ونحترمه؟ هل هو مطلوب لذاته؟ وهل هو وسيلة أم غاية؟ إن الناظر إلى واقع الحال سواء في البلاد الغربية أو العربية يجد عجباً؛ الناس يكاد أن يؤلهوا العلم، فتنة بما وصل إليه من تطورات مذهلة، فإن قلت لأحدهم: “يقول الدين كذا وكذا”، يقاطعك قائلا: “دعك من هذا، إن هذا أمر غيبـي”. وتجد كلاما كثيرا.. أما إذا قلتَ: “قال العلم كذا وكذا”، فيسكت متقبلا كل الكلام الذي تقوله ويؤمن به إيمانا راسخا لا يتزعزع. فالدين أو الإيمان في نظره غيبـي وتخلّف ورجعي، والعلم عنده تطور وحضارة ورقيٌّ. إذن فما الذي حدث؟ إن هذه الفكرة وليدة سلسلة أحداث تاريخية ترجع إلى القرون الوسطى، حيث كانت الكنيسة تحارب العلم، وحدث صراع كبير بين رجال الكنيسة ورجال العلم، وانتصر رجال العلم وكفروا بكل الغيبيات، وكان موقفهم هو معاداة الإيمان، كما انطلقت النهضة العلمية المعاصرة من منطلق مادي صرف معاد لكل معاني الروح، لا يقبل غير المادي.
ونحن نعلم أن الغيبيات في الكون الذي نحن فيه، أكثر من الماديات، ولذلك انغمست هذه الحضارة في الماديات، مع العلم أن هؤلاء الغربيين استخدموا المنهج القرآني -وهو المنهج العلمي التجريبـي الذي أسسه علماء الإسلام- ولكنهم سخروه في المادة فقط، فبنوا الإنسان المادي، وغفلوا عن الجانب المهم فيه وهو الروح، ونتج عن ذلك الشقاء والفراغ الروحي وسقوط القيم وتحلل الأسر، وزيادة الأسلحة المدمرة التي تهدد الإنسانية بأكملها. وكل هذا من سمات هذا العصر الذي سمي بعصر التقدم العلمي.
وهكذا أصبح العلم أداة في يد الغربيين لزعزعة الإيمان عن طريق إقناع الشباب بأن العلم وحده كاف للتحضر والتقدم والمدنية ومن ثم الوصول إلى السعادة بعيدا عن قيود الدين. إذن فما مدى صحة هذه الرؤية، فهل صحيح أن العلم وحده كاف لسعادة الإنسان؟
محدودية العقل
ففي قصة موسى عليه السلام دلالة واضحة عن محدودية العقل، حيث برهن القرآن للعقليين بالتجربة الحسية، ضعف العقل. فقد طلب موسى عليه السلام الرؤية، ولما تجلى الله للجبل اهتز وكاد أن يقتلع من جذوره، وأغمي على عقل موسى لأنه لم يستوعب الرؤية. والتعليل واضح وهو أن العقل عاجز عن الوصول إلى كثير من الحقائق، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾
(الأعراف:143). وهكذا يبقى العقل دائما عاجزاً عن إدراك حقيقة الأشياء ما لم يستعن بالوحي. فالعلاقة بين العقل والوحي تأتي من خلال التعرف على كيفية تعامل العقل مع الوحي، أي كيف تتعاون مصادر العلم مع بعضها للوصول إلى الحقيقة. وفي بيان هذه العلاقة يقول الدكتور النجار: “إن العقل لكي يقوم بدوره في تفهم الوحي لابد أن يعتمد أسساً تهديه إلى الفهم، وهي أسس راجعة في أغلبها إلى خصائص الوحي ذاته أو إلى خصائص العقل. وانخرامُ أحد الأسس يؤدي إلى خلل في الفهم، وبالتالي إلى الانحراف في فهم المراد الإلهي”.(1)
والقرآن لم يجئ ليعلمنا العلـوم، بل جاء ليحث العقول على تعلم العلـوم والنظر في الكون والإنسان لتنكشف الأسرار الغامضة، على أن يتعاون الوحي مع العقل في استقراء الحقائق من الكتابين. فالقرآن كلام الله وكتابه المسطور، والكون خلق الله وكتابه المنظور، والحقيقة مبثوثة فيهما.
الإدمان على المعرفة والعلم
بقيت مسألة مهمة وهي لماذا بعض الناس دون غيرهم، لديهم هوس بالعلم والإيمان وشغف بالتعمق فيهما؟ في حين نجد الأغلب ينفرون منهما ويركنون إلى حياة الخمول والجهل. طبعاً الجواب مستمد من الملاحظة واستقراء الحال، وهو أن من تعوّد على البحث والقراءة والتعلم وحل المسائل والتفكر في مخلوقات الله تعالى المبثوثة في هذا الكون، يجد في نفسه متعة وراحة يعجز اللسان عن التعبير عنها، لأنه أمسى مدمنا على المعرفة، يحس بحلاوة الإيمان ويتمتع بالبحث العلمي. علماء الأعصاب قدموا لنا تفسيراً منطقياً وسهلاً لتأكيد أن ثمة متعة حقيقية تجتاح الدماغ، ويُحس بها الإنسان عندما يلتقط المعلومة أو يفهم شيئاً جديداً. وأيضاً قدموا لنا الآلية التي يتم بها نشوء المتعة في الدماغ، وشبهوا الأمر بالإدمان على الأفيون. ولذا فإن مدمني الأفيون لا يحتاجون هذه المادة من الدماغ، ويغدون أشخاصاً كسولين وخاملين علمياً. أما تعليل الإدمان على المعرفة فقد وصف العلماء الإدمان بلغة بسيطة، وهو الاعتماد على شيء معين كمصدر للحصول على اللذة أياً كان نوعها. ولا تنشأ الحالة إلا لدى من تكرر استخدامه لهذا المصدر، وتعودت نفسه عليه وأحس بالفرق حين حرمانه منه، وهو ما ينطبق على علاقة الدماغ بالمعرفة.
الباحثون من جامعة جنوبي كاليفورنيا يقولون: “إن الدماغ يأخذ مكافأة ذاتية عند التقاطه معلومة جديدة أو حله لمسألة ذهنية صعبة. والمكافأة هذه عبارة عن جرعة من مادة الأفيون تعمل على البدء بسلسلة من التفاعلات الكيميائية السريعة، وتنتج في نهاية الأمر دفقة من مادة طبيعية شبيهة في مفعولها على الدماغ بالأفيون”، وذلك على حد قول بروفسور العلوم العصبية بجامعة جنوبي كاليفورنيا، الدكتور “إيرفنغ بيدرمان” الذي وضع فرضيته الجديدة في نتائج البحث المنشور في العدد الأخير من مجلة: “العلماء الأمريكيون”.
ويوضح قائلاً: “حينما يحاول أحدنا فهم نظرية أو معلومة صعبة، فالأمر غالباً شاق وليس مجرد مرح، لكن بمجرد فهمها والتقاط تلك المعلومة بشكل سليم، ينتاب الإنسانَ شعور عارم بالرضا والسعادة”. لذا فحاجة دماغ الواحد منّا إلى ما يعيد الهدوء والسكينة إليه أو ما نصفه بالعامية “فلان يحتاج أن يعدل دماغه” هي الدافع للناس كي يرفعوا إلى أقصى حد من قدرات الاستيعاب الذهني لديهم للمعلومات والمعرفة. ويعلق البروفسور بيدرمان قائلاً: “مزاجنا الذهني مفتون بتجميع المعرفة في كل ثانية كما هو حال تجار القطع الأثرية في الحرص على اقتناء القديم والقيم منها”.
الإدمان العلمي والإدراك الذكائي
وفرضية “بيدرمان” حول الإدمان المعرفي والعلمي لها قيمة تطورية قوية، ومرتبطة جداً بمستوى الإدراك الذكائي، ويحتاج الأمر إلى عناصر ضاغطة بشكل قوي، كالجوع مثلاً، كي يُؤجل الدماغ رغبته في البحث عن المعرفة. وعلى حد قوله فإن نفس الأمر ينطبق على تقدير الجمال الفني البصري والمتعة في التفاعل معه.
أساس الفرضية وفرضية البروفسور “بيدرمان” مستوحاة من نتائج بحث تم إهماله منذ ربع قرن حول مستقبِلات المواد الأفيونية الطبيعية في خلايا الدماغ، أي نقاط جدار الخلية الدماغية التي تشبك وتعلق عليها مواد اللذة هذه، لتقوم حينها ببعث الشعور باللذة في الخلايا الدماغية. وهذه المستقبلات تكثر في الخلايا الدماغية لمنطقة “حزمة أعصاب الطريق البصري الجوفي”، وهي جزء من الدماغ معني بملاحظة وتحليل الصور وترجمة معانيها للذهن وفق آليات غاية في التعقيد. والمستقبلات هذه مجمعة ومركزة بشدة في خلايا الحزمة العصبية في المناطق المعنية بفهمِ وإدراكِ معاني الصور المرسومة أو المكتوبة. ولا توجد في المناطق المعنية باستقبال الدماغ للصور المرئية في أول الأمر، أي إنها توجد في مناطق تعمل في مراحل متقدمة من عملية التحليل الذهني لمعاني الصور المشاهَدةِ وتحديد مدلولاتها، فلا يُثيرها إلا ما يستدعي التحليل والفهم وليس مجرد الاستقبال الأوّلي المبدئي. ولذا فالباحثون يقولون: “كلما كثر النشاط العصبي في أثناء الجهد للتحليل والفهم في المنطقة الغنية بمستقبلات الأفيون، كان الشعور باللذة أعظم عند نجاحها في الوصول إلى الفهم وحل الغموض”.
وفي سلسلة من صور متفرقة لمناطق متنوعة من الدماغ بالرنين المغنطيسي لمتطوعين عُرضت عليهم أنواع عدة من الصور، فوَجد فريق البروفسور “بيدرمان” أنهم فضلوا بشدة الصورَ التي أثارتهم بشكل ملفت لتحليلها وفهمها، وزادت من نشاط الإفراز في المناطق الغنية بمستقبِلات الأفيون، كما لاحظ البروفسور “بيدرمان” أن تكرار عرض الصور الجذابة للشخص في البداية يُؤدي إلى تدن تدريجي في إثارة مناطق إفراز المواد الشبيهة بالأفيون مع تكرار العرض، وبالتالي قلة إفراز المواد الكيميائية الباعثة على الشعور باللذة من فهمها.
إذن، فقراءة الكتب والإقبال على العلم والمعرفة تعني مزيدا من الإيمان، ومن ثم تتأكد متعة العقل والروح حيث يشعر الإنسان بحلاوة الإيمان، وهذا هو السر في مقولة المغني الإنجليزي الشهير الذي أسلم وسمي بـ”يوسف إسلام” حينما سئل عن شعوره بعد إسلامه فقال: “يعجز اللسان عن وصف السعادة التي تغمرني والتي طالما بحثت عنها في جميع الأديان”.