يمكنكم أنْ تقولوا -وأنتم مصيبون- إنَّ “النورسي” هو رجل الغد الآتي، وفي الوقت نفسه رجل الأمس الذاهب.
فالزمن في فكره روحي خالص، يحياه بأبعاده كلِّها، ووجود حي لا يموت ولا يفنى. وكلُّ كُلِّيٍّ من أيّ حِقْبة من حِقَبه أتيْتَه فقد أتيتَ الزمنَ كلَّه، وبأيّ مِفصَلٍ من مفاصله أمسكتَ فقد أمسكتَ بكلِّ مفاصله.
ولهذا الزمن الروحي خاصيَّة متفردة بين الأزمان، وهي خاصيَّة الإحياء الذي يناهض ضروب الموت، فيحفظ الأَحداث والوقائع حيةً تنبض بالحياة وتنعم بالخلود. فإذا ما أوغل “النورسي” في ماضي هذا الزمان فإنما يوغل في الزمان كلِّه، ماضيه وحاضره ومستقبله، لأنه وحدة واحدة لا فواصل بينها ولا حدود، ومتداخلة الأبعاد، إذا أمسك ببعد واحد منها فقد أمسك بالأبعاد كلّها.
فكتابات “النورسي” إنما هي هذا المزيج الزماني، يتدفق من قلمه على صفحات “رسائل النور”. فأنت تقرأ فيها روح الزمان متلاحماً مع روحه وممتدًّا فيه، ومتغلغلاً في سويدائه، فإذا تكلَّم لا تدري أيَّ روح هو الذي يتكلم، أهو روح الزمان أم هو روح نفسه؟!
فكتاباته ماضوية حضورية، وحضورية ماضوية، والآتي الذي سيكون هو شقيق الزمن الذي كان، وقد تتداعى الأزمان كلها لرفد زمن واحد، والزمن الواحد قد يتسلَّل إلى كل الأزمان ليزيدها حضورًا وحياةً وخصْبًا. ولقد تعلّم “النورسي” من القرآن الكريم أستاذه الأول والدائم، هذا الأسلوب المزجي بين الأحقاب، وتشرَّب ذهنه ووجدانه زمان القرآن الروحي واستوحاه في أعماله الفكرية كلِّها.
فالزمن القرآني هو زمن وحدوي كلِّي الأبعاد، لا يُجَزّأُ ولا يُقسَّم. فالآية القرآنية وأينما كان موقعها من السورة تحتوي على الأبعاد الزمانية جميعًا، وهي مرآة تعكس سرمدية القرآن، وتعكس أزلية منـزل القرآن وأبديته، فكل زمان غيرها يبدو بجانبها وكأنه برهات طافية في فراغ زماني سحيق.
إنَّ حِسَّ “النورسي” الزماني التوحدي غدا مع الأيام طابع أعماله الفكرية، مِما أضفى عليها صفاءً زمانيًا تتجلَّى به آفاقها الأبدية، حتى لو كانت معالجات زمانية ومكانية محددّة ومعينة.
ولكون القرآن الكريم وضع في يده زمام الزمان كلِّه، لذلك فقد انصرفت عنايته إلى المسائل الأبدية التي تُحْسَب أعمار الأكوان إلى جانب عمرها وكأنها أعمار آحاد لا تكاد تُحْسَب.
إن فكرة “الزمان الروحي” التي عالج “النورسي” على ضوئها أكبر الحقائق وأصغرها يمكن أنْ تقلب العالم رأسا على عقب، إذا هي اعْتُمِدتْ من قبل المفكرين والمؤرخين وأصحاب الرأي وتدارسوها بمزيد من التواضع والاهتمام. فمشكلات العالم ناجمة من عجزه عن استيعاب هذه الفكرة التي تستوعب الأكوان ولا تستوعبها الأكوان. فالحياة الإنسانية تظل لغزًا غامضًا ما لم ننـزلها منـزلتها من حياة الأبد.
فكلما ازددنا دراسة للإنسان، وفحصًا لمكونات حياته الجوانية من فكر وحدس وخيال ومشاعر وأحاسيس وذاكرة، وجدنا مزيدًا من الأدلة على أن الإنسان يشعر بطريقة ما أنه صُنع للأبد، وخلِق للخلود، وأن مكانه في الأبدية في خاتمة جميع أزْمِنته، وحتى وهو بين لُجَب الحضارة والصناعة يرتدي فوق إهابة -أراد أم لم يرد- حُلَّة من القداسة تظل محفوظة من أدخنة المصانع وسحب الأجواء الملوّثة بالغبار والتراب والسخام، إلى حين العودة إلى نفسه والرجوع إلى ذاته، الحافلة بتاريخ الروح والمفعمة بالفهم والأدراك… فأيُّ زمان نسبـي لا يتلاشى أمام هذا الزمان الروحي المطلق الأبعاد والذي يموج بكبرى وقائع الروح الإنساني وعظائم أحداثه وصراعاته وكفاحاته من أجل تحقيق ذاته وإثبات وجوده.
فالنورسي يرى في تنـزلات الكتب الإلهية ولاسيما القرآن إسهامًا إلهيًّا مع الإنسان في كفاحه الدائم من أجل إحراز الانتصار على نسبيات العالم وفنائياته، وتأهيل الروح لتجد مكانها من الأبدية التي تتوق إليها. فكلما ارتفع الروح زاد نتاجه وعظمت أمجاده وعَمَّ نفعه، واجترح من المعجزات والابتكارات والإبداعات ما يُضاف إلى إرث الإنسانية، ويزيد في تاجها دُرَّةً جديدة من درر الروح الإنساني العظيم.
فالتعريف المبتكر الذي يقدمه “النورسي” للقرآن الكريم يكشف لنا عن عمق “الزمان الروحي” في نفسه، وانعكاسات ذلك في أفكاره وكتاباته، فيقول: “فالقرآن الحكيم الذي يعرِّف لنا ربَّنا:
• هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات،
• والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية،
• ومفسّر كتاب العالم،
• وكذا هو كشّافٌ لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السموات والأرض،
• وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المـُضْمَرة في سطور الحادثات،
• وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة،
• وكذا هو خزينة المخاطبات الأزلية السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية،
• وكذا هو أساسٌ وهندسةٌ وشمسٌ لهذا العالم المعنوي الإسلامي،
• وكذا هو خريطة للعالم الأخروي. (الكلمات، الرشحة الرابعة عشرة)
وأود أنْ أنبه إلى أن هذه النقاط التسع ليست هي كل تعريفاته للقرآن. فقد اكتفيت بها لأنها تفي بالغرض الذي أتوخاه في هذا المقام. فهو في هذه التعريفات يعطي للكائنات بُعدًا أزليًّا وبعدًا أبديًّا، ويشعرنا بأنَّ هذين البعدين يمسكان بالخليقة ويصبَّان فيها زمانًا إلهيًّا وحدوي الأبعاد لترى نفسها على حقيقتها من خلالهما، ولتختار مكانها منها على علم ودراية، ولتقوم بعد ذلك بتفسير العالم والزمن والتاريخ على ضوء هذه الاختيارات.
فالتاريخ البشري هو خيال الزمن الروحي، وظلٌّ من ظلاله، وطيف شاحب من أطيافه، ويستمد من روح الزمان ووحدته الوجودية عناصر صيرورته وامتداداته، غير أن الإنسان يأبى إلا أن يحدَّ من نفسه، ويُصاغِرَ من وجوده، فيضغط التاريخ، ويقارب بين مطلق أزمانه، ثم بجزئه ويقسمه إلى حِقَبٍ وأزمان، على الرغم من أنّ الإنسان الذي هو مادة التاريخ الأولى مرتبط بحقيقة كُلِّ الوجود متفاعل ومتناغم معه، فما لم يُفْهَمْ الكلُّ لا يُفهَمُ الجزء.
فالتاريخ إنما هو انفعال زماني حافز لتحريك قوى التحدي لدى الإنسان عندما تداهمه نذر الفناء والزوال، حرصًا منه على الامتداد الخالد في الروح الزماني الحفيظ على نضالات الروح وعلى ارتقاءاتها في سلّم الانعتاق الأبدي من آسار الزمان والمكان.
وأعود فأقول إنَّ الزمان الروحي عند “النورسي” ليس هو بأسلوب كتابة وتفكير فحسب، بل هو أسلوب حياة، وطريقة عيش وسلوك، لأنه يسرى في عروقه وأعصابه ويخالط دمه، فصاحب هذا الزمان لا يمكن أنْ يضلِّلَ العقول، أو يستهين بالأفهام، كما قال مخاطبًا تلامذته: “اعْلموا أنني لا أخدعكم، ولا أقول لكم إلاّ ما لامسته وأبصرته عن تجربة ودراية”. “أقول تحدثاً بالنعمة وأداء للأمانة بأني لا أخدعكم، إنما أكتب ما أشاهد أو أتيقن عين اليقين أو علم اليقين”. “فما كتبتُ إلاّ ما شاهدتُ.. بحيث لم يبق لنقيضه عندي إمكانٌ وهمي”. “إذ سلكتُ طريقاً غير مسلوك، في برزخٍ بين العقل والقلب”.
فهو يريد أن يحفز تلامذته إلى أعظم أعمالهم وأخلدها على الزمان، ويجعلهم يتلمحون الحقيقة المجرَّدة التي تضل عنها حواس الأزمنة القصيمة وعقل الزمن ذي الوحدات المجزأة والمقسَّمة.
فالتقاؤنا بالروح الإلهي عبرَ هذا الزمان لا يفوق طاقة الإنسان وقدراته الروحية، إذا هو أرهف حسَّه الزماني، وشحذ بصيرته الإدراكية، وتجاوز مسائل الساعات العابرات، وكثّف جهده من أجل الكشف والرؤية.
ولا يمكن إدراك هذه الرؤية إلاَّ من خلال جرأة روحية تواجه الامتداد الزماني بوعي امتدادي مثله، وبهذه الرؤية يمكننا الحكم على أحداث التاريخ ليس من خلال سياقاتها الزمانية فحسب، بل ومن خلال وشائجها الكونية والقدرية كذلك، فلا نخطيء الحكم ولا نشتطُّ فيه، وسنرى إذا ما أرهفنا بصيرتنا الروحية أن ما من حدث إلا ويكمن فيه الماضي كما يكمن فيه المستقبل، وما من حدث إلا وهو تركيبة عجيبة تختلط فيه جميع الأزمنة؛ حاضرها وماضيها وآتيها، فكما تفنى جميع ألوان الطيف في البياض الذي هو ملتقى الألوان هكذا تفنى الأزمنة كلها في الحدث التاريخي المرصود مترجما عن زمانية واحدة هي زمانية “الأبد الموعود”.
فالتاريخ البشري لا يمكن أن يكون مصدرا من مصادر التنوير الفكري والمعرفي كما يريد القرآن، مالم يواكب حِسُّنا التاريخي امتدادات الزمان في كل أبعاده وحتى نهائياته الكونية، وهذا هو الحسُّ الجامع الذي اعتمده “النورسي” في رؤاه للزمن وللتاريخ.