إذا قمت برمي صخرة إلى الأعلى فيلاحظ أنها ستفقد سرعتها تدريجيا حتى تصل إلى الصفر. وعندها يجرها التراجع فتعود مرة أخرى إلى الأرض، وبالتالي تبدأ باستعادة سرعتها حتى تصل إلى الأرض بنفس السرعة التي صعدت بها.. إنها الجاذبية الأرضية وقد فرضت سلطتها الكونية على هذه الصخرة، مع العلم أن تسارع الجاذبية الأرضية يبلغ 9.8 م/ث2 في معظم بقاع الأرض. فمن أجل أن تهرب الصخرة من مجال الجاذبية الأرضية، لابد أن تمتلك وسائل بسرعة تبلغ (11 كم) في الثانية، وتسمى هذه السرعة بـ”سرعة الإفلات”. إن الشمس أكثر خطورة من الأرض لأن سرعة الإفلات من سطحها تبلغ (600 كلم) في الساعة، كما أن هذه السرعة أسرع بثلاثة آلاف مرة من طائرة نفاثة. وكلما انضغطت كتلة المادة في حيز ضئيل حتى وصل حجمها إلى ما يسمى “الحجم الحرج”، سيقل احتمال الهروب من هذا الجسم كلما زادت الكتلة وقل الحجم. وبالتالي إن أكبر السرعات لا يمكن أن تصبح سرعة إفلات من هذا الجسم إلى أن تصل من الخطورة، حتى الضوء لا يمكن أن يفلت منه بالرغم من أن سرعة الضوء هي أعلى سرعة اكتشفها العلم حتى اليوم، فأي شيء يمر بهذا الجسم سيحاصره الجسم إلى الأبد.
تعتبر الثقوب السوداء، الظاهرة الأعنف والأكثر غموضا في هذا الجانب. فالثقب الأسود يمثل المرحلة الأخيرة من حياة النجم، حيث ينتج الثقب الأسود من انهيار نجم هائل على نفسه فتتكدس مادة النجم في حجم صغير جدا، وبالتالي فكثافة الثقب الأسود تكون هائلة وجاذبيته مهولة، بحيث إنها لا تسمح لأي شيء يقترب منها أن ينفلت حتى الضوء، ويزداد تركيز الكتلة، أي كثافة الجسم (نتيجة تداخل جسيمات ذراته وانعدام الفراغ البيني بين الجزيئات) وتصبح قوّة جاذبيته قوّية، بل وإلى أبعد من ذلك. فحسب النظرية النسبية العامة لـ”أينشتاين” فإن الجاذبية تقوّس الفضاء الذي يسير الضوء فيه بشكل مستقيم بالنسبة للفراغ يمتص الضوء المار بجانبه بفعل الجاذبية، وهو يبدو لمن يراقبه من الخارج كأنه منطقة من العدم، إذ لا يمكن لأي إشارة أو معلومة أو موجة أو جسيم الإفلات من منطقة تأثيره، فيبدو بذلك أسود.
الأرض كثقب أسود
إن تحول الكرة الأرضية إلى ثقب أسود يستدعي تحولها إلى كرة نصف قطرها (0.9 سم)، وكتلتها نفس كتلة الأرض الحالي، أي بمعنى انضغاط مادتها لجعلها من غير فراغات بينية في ذراتها وبين جسيمات نوى ذراتها، مما يجعلها صغيرة ككرة المنضدة في الحجم، ووزنها الهائل يبقى على ما هو عليه؛ حيث إن الفراغات الهائلة بين الجسيمات الذرية -نسبة لحجمها الصغير- يحكمها قوانين فيزيائية لا يمكن تجاوزها أو تحطيمها في الظروف العادية.
ويحد الثقب الأسود سطح يعرف باسم “أفق الحدث”. وهنا يجب توضيح نقطة هامة جدا تسبب الخلط عند الكثيرين، وهي أنه يجب التفرقة بين الحجم الذي تتكدس فيه المادة وبين أفق الحدث للثقب الأسود والذي عنده لا يمكن لشيء أن يفلت من الثقب الأسود. فمثلا لو تحولت الشمس إلى ثقب أسود فإن قطره عند أفق الحدث سيصل فقط إلى (3 كلم) بينما ستتكدس كتلة الشمس كلها في نقطة في مركز الثقب الأسود، وبقية الحجم إلى أفق الحدث سيكون عبارة عن فراغ، حيث تسقط كل المادة التي تعبر أفق الحدث في مركز الثقب. ولذلك فإن النظرية النسبية العامة تعرف الثقب الأسود بأنه منطقة من الفضاء الفارغ الذي يحتوي في مركزه على نقطة التفرد، وعند حافته يوجد أفق الحدث.
ماذا يحدث عندما تسقط في ثقب أسود
عند هذه المسألة يُتوقَّع أن تكون درجة حرارة الثقوب السوداء عالية جدا، بل يمكن أن تصل إلى ملايين الدرجات. فعند الاقتراب من الحدود الخارجية للثقب الأسود، والتي تسمى بـ”أفق الحدث” تظهر الجاذبية، وكلما تم الاقتراب من المركز تزداد الجاذبية، وبالتالي تزداد قوة السحب ومن ثم يُنتج الثقب الأسود ما يسمى بـ”قوة المد والجزر” على جسمك، أي إن شدة الجاذبية التي تعمل على رأسك، ستكون أقوى بكثير من الجاذبية التي تعمل على أصابع قدمك (بافتراض أنك تدخل الرأس أولا). هذا في بادئ الأمر حتى يشمل الفرق جسمك كله وتكون قد قطعت إرباً، لأن قوة المد والجزر ستكون أقوى من الروابط الكيميائية في جسمك وتكون حفنة من ذرات منفصلة، تلك الذرات سوف تمتد إلى خط في مسير موكبـي كما وصف تايسون، فستكون مقذوف في السماء مثل معجون أسنان يجري الضغط عليها عن طريق أنبوب… ولا أحد يعرف ما يحدث لتلك الذرات بمجرد وصولها إلى المركز.
البحث عن ثقب أسود
لابد أنه سيكون ورد للقارئ سؤال مهم وهو كيف تم اكتشاف هذه الثقوب إذا كانت تتميز بهذه الشراهة التي تبتلع أي شيء، النجوم، الكواكب ،الغاز، كل شيء حتى الضوء لا يفلت منها. وإجابة هذا السؤال أنه أمكن معرفة وجود الثقوب السوداء بمراقبة بعض الإشعاعات، كالأشعة السينية التي تنطلق من المواد حين تتحطم جزيئاتها نتيجة اقترابها من مجال جاذبية الثقب الأسود وسقوطها في هاويته. وحديثا تمكن تلسكوب هابل من اكتشاف ثقوب سوداء، وقال العلماء إن الثقوب السوداء توجد في أغلب قلوب المجرات الهائلة وتمتص المواد من قلب المجرة بقوة جذب جبارة، إلا أن فريقا من علماء الفلك الأوروبيين أعلنوا في دورية نيتشر العلمية أن ثقبا أسود يبعد مسافة 5 مليارات سنة ضوئية لا يتوفر له دليل على أنه يستقر في مجرة. والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في عام. ورغم أن أينشتاين يقول “إن محاولة البحث عن ثقب أسود يشبه تقريباً البحث عن قطة سوداء في قبو فحم”، يقول العلماء إنه يوجد ثقب أسود في قلب مجرتنا درب التبانة، وكتلته تساوي كتلة الشمس 4 ملايين مرة -ولكن لا تقلق- فهو يبعد 30 ألف سنة ضوئية، وهو بعيد بالنسبة إلينا أن نقع فيه.
الثقوب السوداء هل هي سوداء فعلاً؟
أطلق هذا السؤال العالم البريطاني ستيفن هوكنج. والحقيقة أن الثقب الأسود في حد ذاته قد يكون غير مرئي، بل وإن الثقوب السوداء ليست سوداء بهذا المعنى. فيمكن الحصول فيها على مواد بدرجة حرارة عالية كافية للتوهج بل يكون مضيئا لدرجة يمكنها أن تضيء مليارات السنين الضوئية. وعند ولادة الثقب الأسود تنتج ومضة من الإشعاع المشرقة التي تظهر على نطاق واضح من الكون.. وأحسب أن هذه التسمية جاءت لأنه يبتلع بجاذبيته الجبارة الضوء المرئي. وكثير من الثقوب السوداء تختبـئ وراء التعتيم والغبار الكوني مما يصعب مراقبتها. فأقرب ثقب أسود هو على بعد 1600 سنه ضوئية، وهو بعيد كل البعد أن يؤثر علينا. وعادة يخلف الثقب الأسود أشعة سينية تظل عالقة في الكون لعقود من الزمن تمكننا من مراقبة الثقوب السوداء والتنبؤ بوجودها.
وأخيراً ورغم تطور العلم الهائل لم يستطع الإنسان احتواء هذه الظاهرة بشيء من اليقين مع العلم أن النظرية النسبية أوجدتها رياضياً وما زال العلماء يجهلون عنها الكثير، وما زالت تحتاج إلى مزيد من الدراسة، ورغم ذلك فهي الظاهرة الأعنف في السماء.