المتدبر في القرآن يجد طائفة غير قليلة من الآيات القرآنية أو بعض الآيات يمكن أن تعد مبدأ عاماً يمثل مكونا أساسياً من عقلية المسلم. وهذه المبادئ العامة إذا جمعت في نسق واحد ودرس ما بينها من علاقات بينية، لمثّل ذلك منهجاً واضحاً وأساساً متكاملا لتفكير المسلم، سواء في الجانب الفقهي والتشريع القانوني، أو في مجال الفكر والنظرة الكلية للإنسان والكون والحياة، أو كان في مجال القيم والأخلاق على كافة المستويات.. وتتبع هذه المبادئ يساعد أيضاً على بناء النموذج المعرفي الإسلامي بصورة لافتة للنظر.
المقصود بالمبدأ العام
والمقصود بالمبدأ العام هنا حقيقة تهيئ الإنسان للتكليف. فالمبدأ يختلف عن مطلق الحقيقة التي كثيرا ما ينبه عنها القرآن في مثل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(الفتح:14)، أو قوله: ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾(الحج:5)، أو غيره من الحقائق الإيمانية أو الكونية حيث لا تشتمل على تكليف ولا تهيئ الإنسان لذلك التكليف مباشرة.
والمبدأ يختلف أيضاً عن الحكم الشرعي الذي يشتمل مباشرة على التكليف مثل قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾(الإسراء:78)، فـ”أقم الصلاة” تكليف، وجملة “إن قرآن الفجر كان مشهودا” حقيقة إيمانية.
والمبدأ يختلف أيضاً عن القاعدة الفقهية أو الأصولية من حيث المنشأ. فالقاعدة الفقهية نشأت بعد تفريع الفروع في الفقه الإسلامي، وكأنها قد جردت فروعاً كثيرة وأخذت المشترك بينها وصاغته في صورة قاعدة مثل “لا ضرر ولا ضرار”، “الأمور بمقاصدها”، “الشك لا يرفع اليقين”، “العادة محكمة”.. إلى آخر ما اهتمت به كتب القواعد الفقهية والأشباه والنظائر.
وكذلك القواعد الأصولية التي نشأت من تتبع اللغة العربية أو المصادر الشرعية مثل “الاستثناء معيار العموم”، “الأمر للوجوب ما لم تصرفه قرينة تدل على غير ذلك” أو “النهي يقتضي الفساد” أو “المشترك لا يعم”… إلخ، مما نراه يرد في علم أصول الفقه.
المبدأ ووجود الإنسان
والمبدأ يشتمل على حقيقة، وعلى تكليف مباشر، ولا معنى لوجوده من غير وجود الإنسان، فالإنسان هو موضوعه. والمبادئ القرآنية التي نوردها إنما هي على سبيل المثال تنبيه لهذا الجانب العظيم من القرآن الكريم، وهي تحتاج إلى تتبع واستقصاء مستقل وبحث خاص يقوم بعد استقرائها بإيراد كلام أهل التفسير عنها، ثم يبين عناصر كل مبدأ وما يلزمه من مقدمات وما يترتب عليه من نتائج، ثم يقوم ببيان العلاقة البينية بين كل هذه المبادئ لبناء النموذج المعرفي، ثم بيان كيفية تشغيلها في المجالات المختلفة: السياسة، والقانون، والاجتماع البشري، والتربية، والفكر، والعبادة، والعقيدة، والدعوة… إلخ. فمن تلك المبادئ:
﴿لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ﴾(البقرة:256)
فهذه عبارة تبين حقيقة، لكنها حقيقة تهيئ الإنسان للتكليف فتمنعه من فرض العقائد بالقوة وترشد إلى الدعوة والحوار والتعددية الدينية، وأن الإسلام لا يريد منافقين يؤمنون بألسنتهم وتأبى قلوبهم الإيمان بل: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(الكهف:29)، و﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(النحل:125)، و﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾(الكافرون:6)، و﴿إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾(النساء:145).
وهذا المبدأ يقرر حقيقة يترتب على تنفيذها عدة تكاليف وإجراءات، وفي نفس الوقت يعد شعاراً للإسلام وأساساً يمثل النموذج المعرفي الإسلامي الذي يعتبر معياراً للقبول ورفض الأفكار والآراء في الإسلام.
﴿كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء:70)
ورد في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾(الإسراء:70).والحمل في البر والبحر، وزرق الله للناس من الطيبات حقائق مشاهدة، ولكن التكريم حقيقة تهيئ الإنسان لتكليف وتلزمه بإجراءات، ومن هنا حق لها أن توصف بالمبدأ. ومن عناصر هذا المبدأ أن الله فضل بني آدم على كثير ممن خلق، وأكد ذلك باستعمال المفعول المطلق الذي يعد استعماله هنا تأكيداً للتفضيل، وبياناً أنه تفضيل حقيقي لا يدخله المجاز، كما تقرر في علوم العربية من أن استعمال المصدر كمفعول مطلق يدل على الحقيقة، وينبه لها ويمنع دعوى المجاز.
تكريم بني آدم يلزم منه أنه سيد في هذا الكون، حتى وإن لم يكن سيداً له. فسيد الكون وخالقه هو الله، أما الإنسان فهو المخلوق المكلف الذي أسجد الله له الملائكة تكريماً له، وإعلاناً لهذا التكريم بين الخلائق، وجعل الامتناع عن السجود إليه علامة بدء الشر وخراب الدنيا، وعدها معصية إبليسية طرد إبليس من أجلها وجعله رجيماً.
وتكريم بني آدم يمكن أن يكون أساساً لاعتباره حامل الأمانة كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾(الأحزاب:72)، وهو أساس تكليفه بالعمارة: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾(هود:61)، وأساس الخلافة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(البقرة:30)، ويمكن اعتباره أساساً لحقوق الإنسان التي هي جزء من حقوق الأكوان عند المسلمين، حيث يرون للجماد والنبات والحيوان حقوقاً متسقة مع حقوق الإنسان في منظومة كلية هي حقوق الأكوان.
﴿أَلاَ لِلهِ الدِّينُ الخَالِصُ﴾(الزمر:3)
وهو مبدأ قررته السنة في الحديث الذي افتتح البخاري به صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..”. وهو الذي صاغه الفقهاء بعد تتبع الفروع الفقهية وتجريد المشترك بينها في صورة قاعدة “الأمور بمقاصدها”، وهي قاعدة واسعة مما يبين شدة اتصال الفقه الإسلامي بمصادره، ونتبين من هذه القاعدة الفرق بين المبدأ والقاعدة. فالمبدأ منصوص عليه في النص المقدس (القرآن الكريم) فهو أصل هذه القضية، أما القاعدة فهي من تتبع الفروع وتجريدها للبحث عن المشترك الساري فيها. وهذا المبدأ يلزم منه تكاليف وإجراءات مبثوثة في أكثر من سبعين باباً من أبواب الفقه الإسلامي.
﴿القِصَاصِ حَيَاةٌ﴾(البقرة:179)
في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة:179). وهو مبدأ يبنى عليه الفقه الجنائي والضبط المجتمعي، وله تأثير في علم النفس وعلم نفس التربية، وهو يمثل حقيقة واقعة في الحياة، وأنه يجب القضاء على الشر حيثما كان.
﴿أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(النجم:38)
وهو مبدأ يتعلق بالعقيدة حيث لا يقر الإسلام الخطيئة الموروثة، ولا يقر مبدأ الجاهلية “الجار يؤخذ بجريرة الجار”، ويؤكد المسؤولية الشخصية في كل المجالات؛ في القانون وفي الدين والعبادة، وعلى مستوى الأفراد والجماعات والدول.. فهو مبدأ كبير جداً ومهم وله أثره في كل المجالات.
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾(النجم:39)
مبدأ يمكن أن تقوم عليه قوانين العمل، وهو في نفس الوقت شعار ديني واجتماعي وسياسي.
﴿عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ﴾(المائدة:95)
وهو مبدأ يؤكد فورية القوانين، وأنها لا تكون بأثر رجعي، وأنه يجب البدء في تنفيذها فوراً حتى مع عدم المؤاخذة على ما وقع في الزمن الماضي.
﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾(المائدة:6)
وهو مبدأ رفع الحرج ويؤكده قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾(الحج:78)، ويرتبط مع مبادئ أخرى في الأخذ بالعرف، والمشقة تجلب التيسير وذلك في قوله: ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ﴾(الأعراف:199)، وفي قوله: ﴿إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾(الشرح:6). وفي البحث عن المبادئ العامة ينبغي البحث عن العلاقات البينية بين تلك المبادئ، للوصول إلى منظومة يمكن أن تمثل أساس النموذج المعرفي الإسلامي الذي به التقويم.
والمبادئ العامة كثيرة لا يمكن حصرها في هذه المقدمة، وإنما أردنا أن ننبه إليها ومن أمثلتها أيضا:
﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ﴾(البقرة:191)، و﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾(البقرة:216)، و﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾(النساء:34)، و﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾(النساء:123)، و﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾(النساء:128)، و﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾(البقرة:286)، و﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ﴾(النحل:126)، و﴿إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾(الإسراء:34)، و﴿وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى﴾(طه:47)، ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ﴾(الأعراف:157)، و﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ﴾(الأعراف:157).
هذه هي المبادئ العامة القرآنية، والتي يمكن أن نجعلها أساساً لكل التشريعات والقوانين في حياتنا الخاصة والعامة. ونلاحظ من تأملنا في كتاب الله أنه يشتمل على منظومة للقيم الأخلاقية العليا، والتي يمكن أن نجعل أسماء الله الحسنى هي محورها الأساسي. وبهذا نكون قد تعرفنا على القرآن الكريم وعلمنا عنه الكثير باعتباره كتاب هداية، وباعتباره محور حضارة المسلمين.