إن بين الأم والولد رابطة بيولوجية وروحية يبدأ تشكلها منذ بداية تشكل الجنين، وذلك نتيجة لتجلي الرحمة الإلهية. وهذه الرابطة تنطوي في طبيعتها على أمور تهم الطفل مثل: عاطفة الأمومة والشفقة والمحبة والعطف والتبني والتضحية… فالخالق الجليل تبارك وتعالى حينما يُعدّ الجنين ليأخذ طريقه إلى هذا العالم، يهيئ له الأم الرؤوم التي ستقوم برعايته وحمايته. ففي رحم الأم نوع من الهرمونات تُفرز جراء الحمل. وكلما اقترب موعد الولادة زادت نسبة إفراز هذه الهرمونات مما يزيد لدى الأم مشاعر الأمومة، وبالتالي تقوم الأم بانتظار موعد قدوم الجنين. وبهذا تحب الأم الطفلَ الذي تحمله، وتنتظر ولادته بفارغ الصبر، كما تدعو الله لأن يكون مولودها متمتعاً بالصلاح والصحة العافية. فالأم سعيدة بمولودها، ولن تُسئمها تغذيته وحاجاته وتلبيتها، بل -على العكس- فهي تشعر بالسعادة الغامرة.
وتوجد بين الطفل والأم رابطة رائعة جدا، حيث إن الطفل بفضل هذه الرابطة يستطيع أن يميز أمه من بين مئات النساء، ويمكن أن يهدأ على صوت أمه من بين أصوات عشرات النساء. والأمهات بدورهن تشعرن بنوع حاجة أطفالهن من شكل بكائهم وما يطلقون من أصوات. وكذلك الأصوات التي يطلقها الأطفال حينما يجوعون أو يخافون أو يتوجعون تؤدي إلى ردات أفعال مختلفة لدى أمهاتهم.
وباختصار إن الرابطة الفطرية التلقائية التي تحصل بين الأمهات وأولادهن، تقوم بدور جسر يمتد من المرحلة الجنينية إلى الحياة العادية، وعبر هذه الوسيلة يتعرف الطفل على الأسرة والبيئة والحياة، كما أن إنشاء هذا الجسر بإتقان وإحكام وفي الوقت المناسب يحظى بأهمية بالغة.
وللحصول على رابطة وعلاقة صحية لابد أن يكون هناك من يحمل بين جوانحه عواطف الأمومة ومشاعرها، ومن جانب آخر لابد لمن يقوم برعاية الطفل سواء أكان أماً أو غيرها، أن يتقبله ويحبه ويقدّره ولا يألو جهداً في القيام بأي تضحية في سبيل إسعاده. وكاستجابة لمشاعر الأمومة ينمو لدى الطفل أحاسيس مقابلة.
الأهم هو نوعية العلاقة
ولابد من التنبيه إلى أن العلاقة السليمة المثالية بين الأم والطفل لا ينبغي أن تفهم على أنها عناية الأم بالطفل على مدار الساعة وقضاؤها كل وقتها معه، بل المطلوب هو قضاء الأم وقتها معه في مستوى من النوعية والكفاية. فالطفل يحس بمن يعتني به، ويشعر بالسعادة والأمان حينما يحس بوجوده عنده، وبذلك يتذوق طعم الحياة وحلاوتها. وينعكس هذا إيجابياً على شتى جوانبه وقدراته الذهنية والجسمية والعكس صحيح؛ فالإهمال في العناية به يؤثر سلبياً على قدراته الذهنية والاجتماعية واللغوية والعضلية.
وحينما تكون عاطفة الأمومة ضعيفة لدى الأم فمن المحتمل أن تؤدي ذلك إلى خلل في تلك الرابطة. وبالتالي إذا كانت العناية غير كافية أو على مضض ولم تلبَّ حاجات الطفل ورغباته، فلن يتكوَّن هناك رابطة قوية وسليمة.
فالخالق العظيم برحمته اللانهائية يودع في قلب أم الطفل العاجز الفقير الذي يحتاج إلى المحبة والأمان مشاعر تحقق له ذلك. فلا جرم أن هناك رباً واحداً ذا قدرة متفردة لانهائية وبيده مقاليد كل شيء يهيئ الأم ويُعدّها إعداداً نفسياً وجسدياً، يربي الجنين وهو في رحم أمه ويُحقق نموه على أكمل وجه وأحسنه. ولولا ذلك لما كانت الأم مستعدة في مرحلة نمو الطفل، ولمات هذا المخلوق الضعيف في وقت قصير.
ولو كانت الحياة -كما يزعم أنصار نظرية التطور- عبارة عن مرحلة بيولوجية فقط لما استطاع الإنسان أن يواصل نسله؛ فإن ديمومة المرحلة البيولوجية إنما تمكن بتبني الأم لطفلها نفسيا أيضاً. فالتوافق بين المرحلة البيولوجية والنفسية بطريق الصدفة أمر غير قابل للاحتمال. فهذه الظواهر التي تتحقق بشكل منسق ومنظم تُظهر على أوضح وجه أنه ليس في خَلق الإنسان محل للصدفة والعشوائية.
كيف تختل الرابطة بين الأم والجنين
إن الرابطة التي تتأسس بين الأم والطفل تكون وسيلة إلى نمو الطفل متمتعاً بالصحة الجسمية والنفسية؛ وبالمقابل إذا لم تتشكل الرابطة بينهما بشكل سليم، يكون هناك اختلال في الترابط بينهما، وهذه الأعراض يكثر ظهورها في الأطفال الذين لم يتلقوا عناية جيدة وتعرضوا للإهمال، والذين تنقلوا بين أيدي حاضنات مختلفة.
وعلى الأخص إذا كانت الأم تلبي الحاجات الضرورية للطفل ولكنها تهمل تبادل المشاعر معه جراء إرهاقها أو توترها، فإنه سيكون هناك نقص في التواصل، وبالتالي فالطفل الذي يرى أمامه من لا يقابل بسمته بالبسمة، ولا يدخل معه في جو غامر بالمشاعر الطيبة، بل يرى أمامه شخصاً مرهَقاً وعصبياً ومتوتراً، فإنه يبدأ بالصراخ والتوتر ويبدي حركات عصبية بدلا من إطلاق الضحكات لمن حوله.
والأطفال الذين يتربون في مثل هذه الأجواء يعانون في المستقبل من حالة من الفصام تَحُول دون تلقي الرسائل الاجتماعية، مما يجعلهم غير واثقين من أنفسهم وقلقين وغير قادرين على اتخاذ القرارات.
ومن هذا المنطلق ينصح الخبراء الأمهاتِ العاملات بأن تأخذن الإجازة عن عملهن وبالأخص في السن الأول للطفل حتى يتفرغن لأطفالهن في جو خال من الإرهاق وبحالة نفسية جيدة. وإن أي اختلال في الرابطة التي بين الأم وولدها من شأنها أن تتسبب في نهاية الأمر إلى العديد من المشاكل النفسية؛ فالطفل الذي يفتح عينيه على الحياة محروما ممن يرعاه بعطف وحنان قد يكون في نهاية المطاف عدائيا، وهذا العداء يؤدي به إلى القيام بالعنف تجاه الناس والحياة.
والطفل الذي لم ير من الآخرين المحبة والرحمة قد لا يستطيع أن يمنحهما للآخرين. والذين يتربون على هذا الطراز من المحتمل أن يتعرضوا أكثر من غيرهم للمشاكل النفسية والاجتماعية، مثل الاكتئاب والقلق والخلل في الشخصية والقيام بأعمال العنف.
وبالمقابل فالأم التي تبالغ في الحفاظ على أولادها أو تكثر من التدخل في كل صغيرة وكبيرة منه أو تبدي نوعا من الارتباك في تصرفاتها، من المحتمل أن تعاني من إنشاء علاقة صحية مع أولادها؛ حيث إن الولد يحتاج لتطور شخصيته إلى فترات الفراق من أمه؛ وإلا فإنه لن ينفصل عنها بصورة صحية، وبالتالي سيتربى خجولا ضعيف الثقة بنفسه ومتوقعا -على الدوام- الدعمَ من الآخرين. والارتباك الذي يبدو على تصرفات الأم يؤدي إلى زيادة الارتباك في الطفل، وخللٍ في ردات فعله، ويعوق التطور في تصرفاته الصحية.
ومن الحالات الحرجة التي قد تؤدي إلى نتائج سلبية على الطفل، الزيادة من تغيير الحاضنات وإكثار الأم من مشاهدة التلفاز، وعدم قدرة الأم على الاهتمام المركّز بولدها جراء خلل في حالاتها ومشاعرها.
الولادة القيصرية
ومن سلبيات الولادة القيصرية أن الطفل أول ما يفتح عينيه على الحياة يكون ارتباطه مع أمه منقطعاً، في حين أن أهم شيء بالنسبة له في هذه الحالة هو التماسّ مع أمه، لأن الأم قد تصحو متأخرا بتأخير المواد المخدرة، وقد تجد صعوبة في احتضان طفلها وإرضاعه ورعايته بسبب العملية الجراحية التي خضعت لها.
والحاصل أن تكوّن رابطة من هذا النوع بين الأم وطفلها من أهم مراحل حياة الإنسان وأخطرها. وبالتالي فقيام الأمهات والذين يضطلعون بمهمة رعاية الأطفال بدورهم ومهمتهم بشكل صحي وصحيح، له أهمية بالغة في تنشئة أجيال صحيحة.
ومن هذا المنطلق يمكننا أن نفهم بشكل أفضل مغزى الآية القرآنية الكريمة التي تحث على إرضاع الوالدات لأولادهن حولين كاملين، لأن الأولاد الذين يرضعون من أثداء أمهاتهم يكون التواصل بينهم وبين أمهاتهم أقرب، وتكون الرابطة بينهما بصورة أقوى. ففي أثناء الرضاع يكون التماس الجسدي بينهما والتقابل بالعين والتبسم في الوجه وإبداء المحبة والمودة في حالة ذروتها. والطفل أثناء الرضاعة يلبي حاجاته الجسمية والروحية والنفسية في آن واحد.
فعلى الآباء والأمهات أن يكونوا على وعي كامل بمدى أهمية إنشاء هذه الرابطة وتقويتها بشكل صحيح وصحي، ويبرمجوا حياتهم العائلية في هذا الإطار، حتى يهيئوا المناخ لقضاء الأطفال مرحلة طفولتهم بشكل مثالي. فكلما كان هذا الجسر الذي يمدونه نحو الحياة مبنياً على أسس وقوائم راسخة وقوية، يستشرف الولدُ المستقبلَ بثقة وأمان.
ـــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: أجير أشيوك.