﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾(البقرة:233)
إن القرآن الكريم يؤكد بهذا النص أهمية الرضاعة الطبيعية من الأم الوالدة لمدة أقصاها حولان كاملان (أربعة وعشرون شهرا قمريا) ولذلك قال تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾(البقرة:233). وهذا النص فيه من الدلالات الطبية والتشريعية ما يمكن إيجازه فيما يلي:
الدلالات الطبية
إن لبن الوالدة مناسب في تركيبه الكيميائي وصفاته الطبيعية وكمياته لحاجة الرضيع طوال فترة الرضاعة. ومن معجزات الخالق سبحانه وتعالى أن هذا التركيب الكيميائي وتلك الصفات والكميات للبن الوالدة يتغير تلقائيا مع تغير أحوال الرضيع ووزنه، وهل هو مكتمل العمر الرحمي أو مبتسر، ومع احتياجاته الغذائية وحالته الصحية، بل مع مراحل الرضعة الواحدة من أولها إلى آخرها. ففي الأسبوع الأول من عمر الرضيع يحتوي لبن الوالدة على كميات أعلى من البروتينات، ومن كريات الدم البيضاء والفيتامينات، خاصة فيتامين (أ)، ومادة اللاكتوفرين المثبتة لعنصر الحديد حتى يستفيد منه الرضيع، وعلى كميات أقل من الدهون والمواد الكربوهيدراتية عن اللبن في الأسابيع التالية.
إن الدهون في لبن الأم هي دهون ثلاثية بسيطة، يسهل هضمها وامتصاصها مع كميات متدرجة من الأحماض الدهنية المشبعة والزيوت الدهنية الطيارة، وكذلك الكربوهيدرات وأغلبها سكر ثنائي بسيط يعرف باسم سكر اللبن أو اللاكتوز (Lactose) يسهل على معدة الرضيع هضمه وامتصاصه، ويحول بعضه إلى حمض اللبن (Lacticacid) في أمعاء الرضيع مما يساعد على امتصاص عنصر الكالسيوم اللازم لبناء عظامه. والأملاح في لبن الوالدة محددة بنسب يسهل امتصاصها وتمثيلها في جسد الرضيع، والفيتامينات في هذا اللبن الفطري كافية لتلبية كل احتياجات الرضيع طوال الشهور الستة الأولي من عمره، وفيه من الخمائر الهاضمة ما يعين معدته على امتصاص ما في الرضعة من مركبات كيميائية.
إن لبن الوالدة معقم تعقيما ربانياً، ولذلك فهو خال تماماً من الميكروبات والفيروسات ومن غيرها من مسببات الأمراض، خاصة إذا كانت الوالدة من صاحبات الأيدي المتوضئة والمحافظات على طهارة البدن والثياب والمكان، والحريصات على سلامة فلذات أكبادهن.
هذا بالإضافة إلى أن هذا اللبن الفطري جاهز للرضيع في كل زمان ومكان، ودائم الطزاجة، والوجود في درجة حرارة توائم المناخ المحيط به صيفا وشتاء.
في لبن الوالدة من المضادات الحيوية النوعية ومن مقويات جهاز المناعة ما يحمي الرضيع من كثير من الأمراض، خاصة أمراض الحساسية (التحسس)، والإسهال، والنزيف المعوي، والمغص وغيرها.. وعلى ذلك فهو أفضل غذاء للوليد حتى تمام السنتين من عمره وإن كان بإمكان الأم إضافة قدر ملائم من الطعام المناسب، ابتداء من الشهر السادس من عمر الوليد.
فوائد الرضاع للمرضعة
إن الرضاعة الطبيعية ليست فقط مفيدة للرضيع، بل للوالدة المرضعة أيضاً، لأن الرضاعة تساعد في تنشيط إفرازات الغدد المختلفة في جسدها مما يعين على استقرارها النفسي والجسدي، وعلى وقف نزيف ما بعد الولادة برجوع الرحم إلى حجمه الطبيعي وانطماره. هذا بالإضافة إلى أن الهرمونات المسؤولة عن إدرار اللبن، هي المسؤولة عن عملية تثبيط عملية التبويض (إنتاج البيوضات) حتى لا تحمل الأم وهي لا تزال ترضع لما في ذلك من أخطار صحية عليها وعلى رضيعها، كما يريحها ذلك من آلام الطمث وهي في مرحلة الإرضاع. وفوق ذلك كله لوحظ أن الوالدات المرضعات هن أقل إصابة بالأورام السرطانية -خاصة في الصدر وفي المبيضين- عن كل من غير المرضعات، وغير الوالدات، وغير المتزوجات.
إن نشاط مخ المرضعة أثناء الرضاعة هو من الأمور المتعلقة بنشاط وظائف الأعضاء في جسدها كله، حيث تنبعث إشارات عصبية من الهالة الداكنة المحيطة بحلمة الثدي إلى الغدة النخامية بالمخ عن طريق العصب الحائر، فتفرز هرمون البرولاكتين (Prolactin) اللازم لإنتاج اللبن في الثديين عن طريق الخلايا المختصة بذلك في كل منهما، كما أن عملية الرضاعة ذاتها، تنبه الغدة النخامية أيضاً لإفراز هرمون الأكسيتوسين (Oxytocin) المنشط لعضلات الثدي، فتبدأ في الانقباض والانبساط من أجل إفراز اللبن وتوجيهه إلى الحلمة. وعدم استخدام هذه الأجهزة التي وهبها الله تعالى لجسد المرأة، قد يكون فيه من الأضرار الصحية لها ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
إن الانعكاسات الإيجابية التي تحققها عملية الرضاعة الطبيعية على نفسية كل من الرضيع والمرضعة، والتي تتجلى في تقوية الصلة الروحية بينهما على أساس من التعاطف والحب والحنان والارتباط الوثيق، هي من الأمور الفطرية التي أودعها الخالق سبحانه وتعالى في قلب كل من الوالدة والمولود، وبفقدانها يفقد كل منهما مرحلة من مراحل حياته تهبه من أسباب التوازن النفسي والعاطفي ما يجعله مخلوقا سوياً.
ولما كان للرضاعة في الحولين الأولين من عمر الوليد تأثير على صفاته الوراثية، أعطى القرآن الكريم الأولوية في إرضاع المولود للأم التي ولدته. فقال ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾.
والأمر الإلهي بالإرضاع جاء بصيغة المضارع، إقراراً لاستمرارية هذا الأمر لكل والدة أن ترضع مولودها تحقيقا لدور الأمومة ولحق مولودها عليها. ولكن في بعض الظروف الخاصة التي لا تستطيع الوالدة أن ترضع فيها وليدها، صرح القرآن الكريم بأن ترضع له أخرى، مع بقاء الأولوية في الرضاعة للأم الوالدة فقال تعالى: ﴿إِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾(الطلاق:6).
ويفهم من النص الكريم أن تمام مدة الرضاعة هو حولان كاملان (أربعة وعشرون شهراً قمرياً)، لكن ترك الأمر لتقدير الوالدين فقال تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾(البقرة:233) على أن تمام الرضاعة هو عامان، وذلك في مقام آخر بقوله تعالى: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾(لقمان:14). وذلك لتباين مدة الحمل بين ستة وتسعة أشهر قمرية (بين 117-266 يوما) لقوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾(الأحقاف:15). فإذا ولد الحميل لستة أشهر قمرية كان واجباً إتمام مدة الحمل والفصال ثلاثين شهراً قمرياً، ولكن إذا اكتملت فترة الحمل إلى تسعة أشهر قمرية، كان كافياً لفترة الرضاعة التامة واحد وعشرون شهراً، لتكمل فترتا الحمل والرضاعة إلى ثلاثين شهراً.
أثبتت الأبحاث في مجال طب الأطفال -كما أشار الأستاذ الدكتور مجاهد أبو المجد- أن هناك ارتباطا وثيقا بين الرضاعة من منتجات الألبان الحيوانية المصنعة وغير المصنعة -خاصة لبن الأبقار- وبين انتشار مرض الداء السكري بين الأطفال الرضع، وانعدام ذلك في حالات الرضاعة الطبيعية من الوالدة. وكان تعليل ذلك أن البروتين الموجود في لبن الأبقار، يؤدي إلى تكوين أجسام مناعية مضادة في دم الرضع دون العامين، لأن إنزيمات الهضم عندهم لا تستطيع تكسير البروتينات المعقدة في ألبان الأبقار، وأن هذه الأجسام المناعية تقوم بتدمير أعداد من الخلايا المهمة في بنكرياس الرضيع، من مثل الخلايا التي تقوم بإفراز مادة الأنسولين.
ولكن بعد تجاوز العام الثاني من عمر الوليد، فإن تناوله للبن الأبقار لا يسبب تكون مثل هذه الأجسام المناعية المضادة. ويفسر ذلك باكتمال نمو الغشاء المخاطي المبطن للجهاز الهضمي عند الوليد، والذي لا يتم اكتماله إلا بعد عامين كاملين من عمره، فتستطيع إنزيمات الهضم عنده تكسير البروتينات المعقدة في ألبان الحيوانات فلا تتكون أجسام مناعية مضادة لها. وهنا تتضح ومضة الإعجاز العلمي والطبي في قول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾.
كذلك أثبتت الدراسات العلمية أخيراً، أن ألبان الأنعام -خاصة ألبان الأبقار- تحتوي على عدد من الأحماض الأمينية تزيد بثلاثة إلى أربعة الأمثال على ما في لبن الأم، مما قد يؤدي إلى ارتفاع نسبة تلك الأحماض في دم الرضيع فيعرضه للإصابة ببعض الإعاقات الذهنية، ويؤدي إلى رفع نسب وفيات الرضع الذين يتغذون أساساً على الألبان الحيوانية غير المصنعة والمصنعة.
الدلالات التشريعية
في قول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، دليل على أن الأولوية في رضاعة المولود هي لأمه التي ولدته. وذلك لأن الدراسات المختبرية أكدت أن تفاصيل التركيب الكيميائي لألبان النساء يختلف من امرأة إلى أخري. وهذا له تأثيره على نمو الوليد واتزانه العاطفي والنفسي، وإن الجهاز الهضمي للرضيع مهيأ أفضل تهيئة لهضم وامتصاص لبن أمه التي ولدته. ويفهم من النص الكريم أن الوالدات لسن فقط اللائي ولدن، ولكن تنزل المرضعة منزلة الوالدة فتصبح كل مرضعة والدة، مع بقاء الأولوية في الرضاعة للأم التي ولدت. ولما كانت المرضعة والدة كانت الحرمة من الرضاعة في الحولين الأولين من عمر الرضيع، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب” (رواه مسلم).
ولقوله صلى الله عليه وسلم: “الرضاعة ما كان في الحولين” (رواه الترمذي)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء من الثدي وكان قبل الفطام” (رواه الترمذي). وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشأ العظم” (رواه أبو داود).
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن تأثير الرضاعة على المولود طوال العامين الأولين من عمره في بناء جسده، وتكوين جهازه المناعي، وتشكيل شيء من صفاته الشخصية والوراثية ما يبقى معه إلى آخر عمره، ويبلغ من خطورته أنه يحلل له ويحرم من أمر الزواج، وذلك بسبب انتقال بعض العوامل الوراثية والمناعية من حليب المرضعة إلى جسد الرضيع واندماجها مع سلاسل الموروثات في داخل خلاياه.
وهذه الحقيقة التي أثبتتها الدراسات المختبرية أخيراً قد سبق بها كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من قبل ألف وأربعمائة من السنين، وذلك بتحريم الزواج بين الذين اشتركوا في الرضاعة من امرأة واحدة خلال العامين الأولين من العمر، واعتبرهم الشرع إخوة من الرضاعة، كما اعتبر مرضعتهم أماً لهم بالرضاعة تنسحب عليها كل حقوق الأمومة ما عدا الإرث. ويحرم من هذه الصلة ما تحرم من الأمومة بالنسب، لأن التقارب في الصفات الموروثة بين الزوجين يؤدي إلى شيء من الاضطراب الذي ينحي بعض الصفات الإيجابية في المورثات أو يسود بعض الصفات السلبية مما يضر بالنسل ضرراً بليغاً.