شهدت العاصمة الأردنية عمان في 16 يناير 2010 ندوة دولية بعنوان “رؤى معاصرة للإصلاح الإسلامي ودورها في تعزيز السلام العالمي.. تجربة فتح الله كولن التركية نموذجاً” عقدتها مجلة حراء بالتعاون مع المنتدى العالمي للوسطية بمشاركة كوكبة من الأكاديميين والمثقفين من بلدان مختلفة من العالم العربي والإسلامي مثل مصر والمغرب والجزائر والأردن والكويت والسودان ولبنان والسعودية واليمن وتركيا والسنغال. وقد تناولت الندوة في جلساتها طيلة يوم كامل التجربة الإصلاحية التركية بأبعادها الاجتماعية والتعليمية والثقافية مع التركيز على تجربة فتح الله كولن التركية وجوانبها المختلفة التي تمثل نموذجا ناجحا في العمل المدني الإصلاحي داخل تركيا وخارجها.
وقد ركز المشاركون على أهمية العمل الإصلاحي الإيجابي البناء الذي يسعى إلى بناء الإنسان والذي يهتم بالفكر الوسطي والعمل المجتمعي، ومن ثم ينبذ العنف كوسيلة للعمل ويفعّل جهاز التربية والتعليم في إحياء الأمة وتحقيق نهضتها. كما أكد المشاركون على ضرورة إنتاج خطاب إسلامي مستنير يهدف إلى تعميم الفهم السليم للإسلام وقيمه وتشريعاته، بالإضافة إلى تأكيدهم على الثقة بالهوية الإسلامية في الانفتاح على العالم واحترام الآخر كمنهج فكري عملي، وبالتالي دراسة الجانب التربوي والتعليمي والإعلامي والصحي في تجربة الأستاذ فتح الله كولن الإصلاحية.
وعليه فإن الندوة تضمنت أربع جلسات تم فيها مداولة جوانب شتى للتجربة المدنية في تركيا والتي انبثقت من أفكار المفكر العالم فتح الله كولن.
الجلسة الافتتاحية
ندوة دولية في العاصمة الأردنية حول التجربة التركية
استهل حفل الافتتاح بعرض فيلم تعريفي عن مجلة حراء قدم تصورا عاما عن فلسفة حراء وآفاقها العلمية واستشرافاتها المستقبلية، ثم ألقى المهندس مروان الفاعوري الأمين العام للمنتدى العالمي للوسطية كلمة أكد فيها أن التجربة التركية التي تمخضت عن أفكار العلامة فتح الله كولن، تجربة رائدة من تجارب العمل الإصلاحي حيث تسعى إلى إقامة صرح الروح ليكون بناءً شامخاً ترتوي منه الإنسانية وتجد فيه الجمال والأمان والظل والطهر. وأكد الفاعوري في كلمته أن الأستاذ كولن عزم على تحويل الكلمات إلى حركات حية، وقرأ واقع أمته وأمعن النظر فيه، فأيقن أن لابد من ولادة جديدة لهذه الأمة تستعيد بها نهضتها وتعود بها إلى سابق عزها، مشيراً إلى أنه “لابد من ولادة جديدة في فهم الدين وإحياء العلوم، تستنهض الهمم وتحيي العزائم لإقامة صرح حياة صحيحة تستجيب لحاجات الإنسان وأشواقه، ولادة شعارها: “الحياة في سبيل الله أسمى أمانينا”.
كما بيّن فضيلة الأستاذ مصطفى أوزجان رئيس الوفد التركي في كلمته أن إفلاس المدارس الفلسفية الوضعية في القرنين الأخيرين أدى إلى عدم المقدرة على تحقيق السعادة للبشرية التي هي بحاجة لمن يحقق لها السعادة المطلوبة، حيث قال: “البشرية كافة في حالة بحث عن مخرج، تبحث عن من يحقق لها الاستقرار الجسدي والسعادة القلبية والروحية في هذا العالم”. كما أفاد أوزجان نقلاً عن الأستاذ فتح كولن، أن الحل الأساسي لكل مشكلات البشرية هو “السيرة النبوية”، وواصل كلامه بالإشارة إلى الهمّ الذي يحمله الأستاذ كولن إذ قال: “البشرية في أمس الحاجة إلى الرسالة المحمدية، ونحن أبناء هذا القرن لا يمكن أن نفهم هذا النبي العظيم الفهمَ الصحيح، ولا يمكن أن نلبي مطالب البشرية؛ الروحية والقلبية والعقلية والفكرية والجسدية، إلا بعد أن نقتبس النور من تلك الشخصية العظيمة صلى الله عليه وسلم. فنحن إذا استطعنا أن نبعث الفضائل الخيرة الموجودة في داخل الإنسان وننمّيها، فهذا سيشكل لنا وللإنسانية جمعاء مستقبلاً مشتركاً مشرقاً.. ولا يمكن أن نبعث هذا الخير في قلوب كافة الإنسانية إلا من خلال الاهتمام بتربية الأجيال وتعليمهم”.
وألقى دولة الإمام الصادق المهدي رئيس المنتدى العالمي للوسطية كلمة بيّن فيها أن تجربة المصلح الكبير فتح الله كولن تجربة ثرية تحاشت النـزاع على السلطة وركزت على كسب العقول والقلوب وبسط الخدمات الاجتماعية وتشبيك المصالح الحياتية للناس.
ومنه فقد تحدث رئيس جامعة صنعاء الدكتور خالد طميم عن التجربة التركية مؤكدا أن الأستاذ “كولن” نهل منهجاً علمياً مميزاً، ودرس الرؤية الإسلامية التي تصلح لكل زمان ومكان، واستطاع أن يتجرد من الانغلاق والانكفاء الفكري. كما وصف “طميم” أن فتح الله كولن لم يختلق عداء مع السلطة، بل أنشأ وئاما معها، وذلك لإدراكه بأن دخول الصراع لن يحقق نجاحاً لهذه التجربة. وقال طميم “إن المنهج العملي في التعليم جعل من هذه التجربة ذات جودة عالية”، مبرزا أن المجتمعات الإسلامية قادرة على الإبداع وإنتاج المعرفة العلمية في كل نواحي الحياة إذا سارت على المنهج الصحيح.
هذا وقد نوه الدكتور محمد راتب النابلسي في كلمته بدور تركيا في الدعوة حيث وصفها بـ”الدعوة الصامتة” لاستطاعتها إقناع الآخر بقيم ومبادئ الدين الإسلامي بالحكمة والموعظة الحسنة، إذ أشار النابلسي إلى أن “الإسلام اليوم في عصره الدعوي الذهبي”، مؤكداً “أن العالم كله سيركع أمام المسلمين، لا لأنهم أقوياء، ولكن لأن خلاص العالم في الإسلام”.
الجلسة االأولى
ناقشت الجلسة الأولى التي ترأسها معالي الدكتور عبد السلام العبادي وزير أوقاف الأردن العديد من القضايا الجوهرية في عملية الإصلاح حيث بيّن الدكتور عبد السلام العبادي في كلمته الافتتاحية أن “تجربة فتح الله كولن استمدت طاقتها من صميم المصادر الإسلامية الأساسية”، مؤكداً على أصالتها، مشيراً إلى أن التجربة إنما هي “عملية متكاملة للتبليغ والدعوة والتعامل مع هذا الدين في ضرورة تعريف المسلمين -أولاً- به فهماً وتطبيقاً وسلوكاً ثم الإنسانية جميعاً”.
وقد قدم نوزاد صواش المشرف العام على مجلة حراء ورقة عمل بعنوان “فتح الله كولن، الشخصية والرؤية” موضحاً أن “الأستاذ كولن شخصية قد تحولت إلى مدرسة وتجاوزت موضوع الشخصنة”. كما لفت صواش نقلاً عن الأستاذ “كولن”، أن الهزيمة التي عاشتها الأمة الإسلامية كانت هزيمة إنسان، والحل الأساسي يكمن في بناء الإنسان من جديد، كما أن هذا البناء لا يتحقق إلا بقراءة القرآن والسنة النبوية والزمان بشكل صحيح، مضيفاً أن الأستاذ فتح الله دعا إلى إنشاء ما سماه بـ”ورثة الأرض” مشخصاً القضية بقوله: “إن العالم في أمس الحاجة إلى الإسلام، والإسلام في أمس الحاجة إلى من يمثله بحق.. الآذان شبعت، العيون جائعة”. وفي نهاية كلمته نبه نوزاد صواش إلى أن تجربة فتح الله كولن “ليست بديلاً عن أحد، وليست بديلاً لأحد، إنما تستفيد من الخبرة أينما كانت وتحاول أن تفيد الجميع وتتقاسم خبرتها مع الجميع”.
وتحدث الدكتور سليمان عشراتي من الجزائر في ورقته عن “معرفة التاريخ وإحداث النهضة من منظور فتح الله كولن” مؤكداً أن صناعة التاريخ بطولة، والتاريخ في كل أطوار الإنسانية صنعه الأماجد الشجعان الفرسان، وأن فتح الله كولن بطل هذا العصر. كما أكد أن نظرة الأستاذ فتح الله للتاريخ نظرة موضوعية، وهو يعتبر التاريخ أحد المحركات الأساسية للنهوض، ويعتبر قراءة التاريخ، فقهاً مدنياً يعبّئ الأمة بالوعي الذي يجعلها تختار الطريق الأنسب لها.
وقد قدم الدكتور سمير بودينار مدير مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية في المغرب ورقة تحت عنوان “الرؤية التربوية عند فتح الله كولن”، مركزاً فيها على أمرين أساسيين في مشروع التربية أولهما نظرة المشروع إلى الإنسان، وثانيهما رؤية هذا المشروع لعملية بناء ذلك الإنسان، أي المنهج الذي يمكّن من إعادة صياغته بشكل يؤهله للقيام بمسؤولياته تجاه الحياة، مؤكداً على مركزية التعليم في مشروع الأستاذ فتح الله كولن.
أما الدكتور الأحمدي أبو النور وزير الأوقاف السابق في جمهورية مصر العربية فقد تناول في ورقته التي حملت عنوان “الوسطية في فكر فتح الله كولن”، التجربة التربوية ودعوته إلى اتباع المنهج الوسطي المعتدل والحوار مع الآخر وضرورة التعايش والتفاهم والتسامح مع الغير من أجل بناء مجتمع قادر على مواكبة متطلبات العصر ومواجهة تحدياته.
الجلسة الثانية
ذكر معالي الأستاذ فهد أبو العثم وزير العدل السابق في المملكة الأردنية الهاشمية في الجلسة التي ترأسها، أن جهود محمد فتح الله كولن لم تقتصر على النظريات والأقوال وإنما مارسها تطبيقاً لا قولاً، وممارسة لا شعاراً. وقد أكد الدكتور مأمون جرار في ورقته التي قدمها بعنوان “منهج فتح الله كولن في قراءة السيرة النبوية” على ما ذكره فتح الله كولن في كتابه “النور الخالد” من أن الرسول صلى الله عليه وسلم فخر للبشرية جمعاء ومنقذ لها، فمنذ أربعة عشر قرناً يقف وراءه أكبر الفلاسفة وأعظم المفكرين وأشهر العباقرة وأذكى رجال العلم الذين زينوا سماء الفكر، يقفون وراءه خاشعين، قد عقدوا أيديهم أمامهم وهم يخاطبونه ويقولون: “أنت الإنسان الذي نفخر بانتسابنا إليه”، كما بيّن الدكتور جرار أن منهج فتح الله كولن في تناوله للسيرة النبوية ليس استعراضاً تاريخياً لشخصية النبي، بل تقديم هذه الشخصية بكل جوانبها كقدوة ونموذج يحتذى به، مؤكداً على وجوب تناول شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كمنقذ للبشرية، وأن خلاص الأمة يكمن في سيرته العطرة.
وعليه فقد ذكر الدكتور محمد بن موسى بابا عمي في ورقته المعنونة بـ”المراحل السبع في تحويل المعرفة إلى سلوك عند كولن” أن الملفت للنظر في تجربة كولن، هو قدرته على تحويل المعرفة إلى سلوك، والفكر إلى فعل، والبحث إلى حضارة، مشيراً إلى أن تحويل المعرفة إلى حضارة عند كولن تمر بعدة مراحل أهمها معرفة “الحق” سبحانه وتعالى حق المعرفة، كما لفت بابا عمي -في ضوء ما قاله فتح الله كولن- إلى أن المعرفة الصحيحة تؤدي حتماً إلى السلوك الصافي الصحيح، وأكد على وجوب بناء الذات قبل بناء الحضارة، ومن ثم على ضرورة الربط بين لغة العقل ولغة اللسان والجوارح تحت الكلمة الطيبة والعمل الصالح.
أما الدكتور موفق دعبول من سوريا في ورقته التي عنونها بـ”أولويات الإصلاح بين مدرسة كولن والتيارات الإسلامية المعاصرة” بيّن أن أهم جانب يميز فتح الله كولن في تجربته، هو صب جل اهتمامه على التربية وحثه على إنشاء المدارس والجامعات في شتى بقاع الأرض لنشر الفكر السليم والقيم الإنسانية الفاضلة، ووصف هذا العمل بـ”الإسلام الشعبوي” لا السياسي، مؤكداً أن هذه الحركة ليست حركة سياسية، بل مدنية شعبية.
الجلسة الختامية
<خُصِّصت الجلسة الختامية التي ترأسها الأستاذ الدكتور محمود السرطاوي لبيان انطباعات المشاركين الذين زاروا تركيا وشاهدوا التجربة التركية عن قرب، واعتبروها نموذجاً فريدا في البلاد العربية والإسلامية. ولابد من التنويه إلى أن الندوة لاقت تغطية واسعة من قبل وسائل الإعلام المختلفة، حيث قامت المحطات الفضائية بتسجيل الندوة، فضلا عن محطات التلفزة التركية التي قامت بالبث المباشر لها.