عزيزي عبد الله.. من أجل أن تستوعبنا، عليك أولاً أن تعي هذا المبدأ الذي يتعلق بالكائنات الحية كلها. فلابد لجميع المخلوقات أن تعيش بتناغم وانسجام وتستخدم طاقاتها لتقوم بدورها الذي كُلّفت به. وإذا خلا نظام الأحياء من الطاقة فيستحيل حينئذ أن يكون النشاط الأيضي والحيوي موجوداً في العالم أجمع. وهذه الحالة تشبه السيارة التي تخلو من البنـزين، حيث لا تعمل بدون بنـزين ولو كانت جميع قطعها سليمة لا خلل فيها.
لا شك أن جميع الكائنات الحية ومن ضمنها الإنسان، تحتاج إلى وقود أو طاقة تغذي بها أجزاءها وتجعلها تعمل بحيوية، وقد تُنتَج هذه الطاقة المغذّية من أجلنا -نحن المخلوقات- من قبَل النبات والحيوان.
ولكن هذه الطاقة التي تحتوي على مواد غذائية أساسية وفيتامينات ضرورية، لا يُنتفَع بها عن طريق الفم بتناول الطعام فحسب، بل يجب أن تتخطى كل مراحل الهضم حتى نستخرج -نحن الأمعاء- من الطعام الموادَ الغذائية ونطرح الأخرى غير المفيدة، كما نقوم بتخزين بقايا الطعام لوقتِ تمريرها إلى خارج الجسم. وهذه تشبه عملية النفط تماماً، حيث لا يعمل النفط دون تكريره ودون تحويله إلى بنـزين. هذا وقد كلِّفنا بأن نقوم بتكرير المكونات الأساسية من بين المواد التي يحتاجها جسمك؛ كالماء، والأملاح المعدنية، والفيتامينات، والدهون، والبروتينات، والكربوهيدرات، وذلك لنتمكّن من القيام بخدمتك على أكمل وجه… ونريدك أن تعلم يا عبد الله، أننا لو قصّرنا في عملنا هذا، لما استطاعتْ أعضاؤك الأخرى إصلاح نفسها أبداً ولما استطعتَ أنت حتى تحريك إصبعك! وبعبارة أخرى سيؤدي ذلك إلى نقص الطاقة والمكونات الأساسية لديك وإلى إفلاس جسمك ومن ثم إلى الموت. نعتقد أنك أدركتَ الآن قدرنا وشأننا؟..
فنبدو لك في الوهلة الأولى أننا عبارة عن أنابيب فارغة ومرنة وزلقة، هذا ما يجعلك تحكم علينا بمثل هذه البساطة. صحيحٌ أننا لا نملك التفاصيل الكثيرة كالقلب والرئة والكبد والكلى، ولكن خلقنا ربنا لأن يظهر قدرته وعظمته فينا، وأن يبهر البشر كلهم بإبداعه الفني المعجز، وأن يبيّن لهم أنه قادر على أن يخلق من اللاشيء كل شيء ومن البسيط المعقّدَ بلمح بصر. ولعل الأنابيب التي تستخدمونها -أنتم البشر- إبان سقي حدائقكم وبساتينكم تتعطل في وقت قصير أو تقطَع أو تنثقب، ولكن جدراننا المرنة والمتألفة من أربع أنسجة رئيسية لا تتعطّل ولا تتلف طوال حياتك ما لم تُصَب بمرض ما. أما الأغشية المخاطية لجدراننا هذه فتتكوّن من النسيج الضام، والنسيج العضلي، والنسيج العصبي، والنسيج الطلائي الذي يقوم بعملية الامتصاص.
النظام الكيميائي العجيب
عزيزي عبد الله.. ما رأيك الآن أن نستهل جولتنا في شرحِ كيفية الهضم التي نقوم بها؟.. ولكن قبل ذلك نذكّرك أننا لسنا قادرين على أن نقوم بكل هذه الأعمال من تلقاء أنفسنا، بل كلها تلبية لأوامر ربنا وخالقنا الذي كلّفنا بهذه المهمة وسخرنا لخدمتك أنتَ…
وإنك لَتصاب بالذهول والدهش الشديد حالَ معرفتك بالنظام الكيميائي المعقد في جدراننا التي تبدو كأنبوب بسيط جداً. ولابد أن تدرك هنا أن كل خلية من خلايانا بمثابة مصنع تقوم بإنتاج الأنزيمات الخاصة التي تنظِّم عملية الإفراز لفضائنا الداخلي، وتقوم بتحطيم كل المواد التي تصل إلينا. أما بعض هذه المصانع فتقوم بإنتاج الأنزيمات التي تساعد على تكسير البروتينات إلى عديدات الببتيد، وبعضها الآخر تنتج الأنزيمات التي تساعد على تكسير الببتيدات إلى أحماض أمينية، وبعضها تنتج الأنزيمات التي تقوم بتكسير الكربوهيدرات إلى جلوكوز، وبعضها الآخر تنتج الأنزيمات التي تساعد على تكسير الدهون وتحويلها إلى الأحماض الدهنية والغليسرين.
ثم إن هذه الخلايا تمتاز كل واحدة منها بخاصية تختلف عن الأخرى؛ فمثلاً الأنزيمات التي تقوم بتكسير سكر الفاكهة تختلف عن أنزيمات سكّر الحليب وعن أنزيمات النشاء. ومن أجل أن تقوم كل هذه الأنزيمات بمهامها المطلوبة يجب أن يتمتع داخلنا بدرجة الحموضة المطلوبة، لأن أنزيماتنا تعمل بحساسية كبيرة. فيمكن -على سبيل المثال- لأنزيمات المحطة الثانية للأغذية -وهي معدتُك- أن تعمل في بيئة حموضية بكل سهولة، بينما أنزيماتنا نحن لا تعمل إلا في بيئة يتم فيها الإفراج عن السوائل الأساسية حتى تُجعل الأحماض القوية محايدة.
الأمعاء وأجزاؤها
عزيزي عبد الله.. إن طولنا يبلغ 8.5 م، ونمتد من الفتحة البوابية للمعدة حتى الفتحة الشرجية كأنبوب مرن الجدارن متغير الحجم، كما أننا ننقسم إلى أمعاء دقيقة وأمعاء غليظة؛ إذ يبلغ طول أمعائنا الدقيقة 7 أمتار، وطول أمعائنا الغليظة 1.5 م. هذا وقد تتفرع أمعاؤنا الدقيقة إلى ثلاثة أجزاء؛ أولها قناة “الاثني عشر” التي يتراوح طولها من 25 إلى 30 سم. وهي ملتوية على شكل هلال تبدأ من الفتحة البوابية للمعدة وتنتهي بالصائم أو الصمام الأعور، كما تصب في هذه القناة أنزيمات هاضمة يفرزها كل من الكبد والبنكرياس، حيث يعمل كل أنزيم منها على هضم نوع من المواد الغذائية. وأما الجزء الذي يلي “الاثني عشر” من أمعائنا الدقيقة فيسمى بـ”الصائم”، كما يسمى الجزء الأخير من هذه الأمعاء بـ”اللفائفي” الذي يتصل بأمعائنا الغليظة في منطقة الأعور.
هذا وقد يصعب عليك التمييز بين هذين الجزأين “الصائم” و”اللفائفي”؛ أما الصائم فيتميز باللون الضارب إلى الاحمرار بسبب كثافة دورته الدموية، وقد تكون هذه المنطقة أسرع وأكثر حركة وقوة في التقلص والانكماش، بينما قسم اللفائفي ضيّق ورقيق الجدران، كما أن الدورة الدموية فيه بطيئةٌ ومحدودةُ الحركة، إلا أن نسبة الدهون في أمعائنا المساريقية مرتفعة جداً. وإن لم تكن تسمع بـ”المساريقا” فيمكن أن نعرّفها لك بأنها هي “منديل البطن” أو هي الأنسجة التي تربط الأحشاء الداخلية ببعضها البعض داخل التجويف البطني، والتي تنتشر فيها أوعية دموية دقيقة. أما الأوعية الدموية الرئيسية في المساريقا فتتفرع إلى أجزاء ثم تمر هذه الأوعية من جدراننا وتتوزع داخل الزُّغابات كشبكة أوعية شعيرية.
وأما الزُّغابة فهي نتوء مجهري في بطانتنا، مخملية الشكل تشبه أصابع اليد، كما يتم من خلالها امتصاص المغذيات، وهي من هذا الجانب أكثر الأجزاء حيوية، وعن طريق هذه النتؤات الصغيرة تتوسع مساحتنا الداخلية. وقد وضع خالقنا القادرُ العليمُ في هذه الزغابات شبكة شعيرية وأنابيب ليمفاوية، وبالإضافة إلى خلايا الغدد التي تفرز أنزيمات لكسر الأغذية، فهناك إفراز غدد تحمينا من حمض المعدة المحطِّمة، كما توجد هناك خلايا تفرز مادة مخاطية واقية ملساء تمرّر الأغذية بسهولة. وعلاوة إلى خلايا زغاباتنا التي تفرز الأنزيمات الهضمية، فهناك خلايا يتم عن طريقها امتصاص المغذيات وتمريرها إلى الدم.
المسار الدموي والمسار الليمفاوي
عزيزي عبد الله… لا نكاد نفهم حتى هذه اللحظة، كيف يرضى البعض بإسناد كل هذه الأمور الخارقة والمعجزة إلى الطبيعة المخلوقة؟! فكل هذه العجائب التي حدثناك عنها لا تدل إلا على قدرةِ وعظمةِ الخالق في هذا الكون العظيم، وتدل في الوقت نفسه على علمه اللانهائي الذي يعجز العقل عن الإحاطة به واستيعابه كلياً… فأيُّ نظام هذا، يعرفُ ميزات المواد الغذائية ومحتوياتها ثم يوزعها حسب حاجات الأعضاء عن طريق أنزيمات تنقي الضار من النافع، وتستخدم ما تفرزه بطريقة فريدة من دون إسراف أو تبذير! بالله عليك يا عبد الله، أيعقل أن توجد كل هذه الأمور من تلقاء نفسها؟! ثم إننا لو قمنا بشرحِ آلية الامتصاص فلعلك تسند الألوهية إلى تلك الخلايا الصغيرة التي تقوم بتنفيذ هذه الأعمال. ولكن خالقنا الذي أبدعنا والذي أوجد فينا نظاماً فريداً جعل كل جُزيئة فيه تخدم الأخرى، ووضع فيه ملايين الزغابات التي تحتوي كل واحدة منها على آليّتَي نقلٍ في المسار الدموي والليمفاوي، كما جعل امتصاص السكر والأحماض الأمينية والماء والأملاح يتم بشكل مباشر عن طريق الدم، وامتصاص الدهون يتم بشكل غير مباشر عن طريق الليمفاوية وتختلط بالدم. وبعد هذا الامتصاص تصبح كل هذه الأغذية ملكاً لجسمك، ومن ثم تُنقل عبر الدم إلى كل الخلايا حيث تأخذ كل منها نصيبها من هذه المغذيات.
مصير فضلات الغذاء
إذن، ما مصير فضلات الغذاء؟ فليس من الضروري أن يكون كل ما تأكله مفيداً ومغذياً، وإنما هناك مواد سامة تؤدي إلى أمراض خطيرة مزمنة، لذا يجب أن تُطرح هذه الفضلات التي لا يحتاجها الجسم إلى الخارج بسرعة، وذلك بعد قيام أمعائنا الغليظة بامتصاص الماء منها.
وتتفرع أمعاؤنا الغليظة فيما بينها إلى ثلاثة أجزاء: ويسمى أول هذه الأجزاء بـ”الأعور” (Caecum) وهو كيس قصير وسميك تتصل به زائدة رفيعة تسمى بـ”الزائدة الدودية” (Appendix)؛ إذ عندما تصاب هذه الزائدة بالالتهاب لا يتم إزالته إلا بالعملية الجراحية. وقد كان الباحثون الأطباء يجهلون مهام “الزائدة الدودية” هذه، بينما أثبتت الدراسات الطبية مؤخراً ضرورتها وفائدتها في الكثير من الأمور؛ منها إنتاج الأجسام المضادة -كجهاز ليمفاوي- لمكافحة الجراثيم التي تدخل جوفنا بوسيلة من الوسائل، ومن أجل هذا الغرض جهّز ربنا هذا الجهاز بشبكة أوعية دموية كبيرة… وإذا اعتبرنا هذا القسم خالياً من الفائدة، فلماذا إذن تم إعداد هذه الشبكة الدموية؟!
أوَليس كل هذه الأجهزة التي تقوم بمهمّتها على أحسن وجه ودون أي نقصان، تدل على قدرة ربنا سبحانه وتعالى وحكمته، وعلى أنه لم يخلق شيئاً عبثاً.
الأمعاء الغليظة والجهاز العضمي
أما الجزء الثاني من أمعائنا الغليظة فيطلق عليه اسم “القولون” (Colon) وهو يمتد في التجويف البطني، ويتألف من ثلاثة أجزاء هي؛ القولون الصاعد، والقولون المستعرض، والقولون النازل، وينتهي بالجزء الذي يسمى “القولون الحوضي” (Sigmoid Colon). وأما في الجزء الأخير من أمعائنا الغليظة فيوجد “المستقيم” الذي تتجمع فيه الفضلات لطرحها خارج الجسم، وقد تفرز مادة مخاطية لتسهيل الطرح هذا. وقد وُضِع العديد من البكتيريات المفيدة في أمعائنا الغليظة لتلبية حاجاتك، حيث تفرز هذه البكتريات الفيتامينات؛ “ب 12″ و”ب” و”ك”.
ما رأيكَ في هذا الإعداد الإلهي العجيب يا عبد الله!.. يتم إفراز الفيتامينات الحيوية في أَخبَث بقعة من جسمك!؟ إذ لولا الفيتامين “ك” -مثلاً- لَما تخثّر دمك، ولَمُتَّ حالَ إصابة أوعيتك الدموية بالنـزيف!..
عزيزي عبد الله… لعلك تتسائل بعد كل هذه التفاصيل، عن طبيعة عملنا في تمرير هذه المغذيات وطرحها إلى خارج الجسم؟ نقول لك بصراحة.. إن جانب دماغكَ الذي يقوم بتسيير الأعمال الإرادية، يجهل كل هذه الأمور التي نقوم بها، لأنه إن علم ذلك لانشغل بنا دائماً ولَأهمل مهماته الأخرى. ولعل الجهاز الهضمي لدينا يبدو ذا تركيبة بسيطة، إلا أن وظيفته وتفاعله مع الأجهزة الأخرى معقّدة جداً، لكنها ضرورية لإدامة الحياة…
وقد تعمل جدران أعضائنا المجوفة التي تتألف من العضلات المضغوطة على شكل طبقات، عن طريق التمعج أو التحوي أو ما يعرَف بـ”الحركة الدودية” للأمعاء؛ وهي مجموعة من التقلصات اللاإرادية التي تحدث على شكل موجات متعاقبة تقوم بدفع محتويات الجهاز الهضمي إلى الأمام حتى تنتهي إلى القولون ثم إلى خارج الجسم، كما يقع هذا النوع من الحركات مرتين أو ثلاث مرات في اليوم الواحد. ولكن إذا أهملتَ -يا عبد الله- هذه العملية أو أمسكتَ الفضلات داخل قولوناتنا وما سمحتَ لها بالخروج في الوقت اللازم، فستتعرض عندها لحالات حرجة وخطيرة ومن ضمنها السرطان.
الأعراض الخطيرة
هذا وقد اعتبرت المشكلات والأعراض المتعلقة بالجهاز الهضمي، واحدة من أكثر الأسباب شيوعاً؛ كأعراض “متلازمة القولون العصبي”؛ إذ تعد هذه واحدة من الاضطرابات الشائعة التي تصيب القولون مسببةً تقلصات وتشنجات مؤلمة، فضلاً عن الغازات والانتفاخات التي تؤدي إلى تغيرات في طبيعة القولون، وكأعراضِ “التهابات الكبد الوبائية” التي تنتج عن الإصابة بفيروسات متعددة أو عن التهابات كبدية، وقد يوجد هناك الملايين من البشر مصاب بالتهاب الكبد الوبائي الذي غالباً ما يؤدي إلى إصابة التهاب كبدي مزمن وتليف أو سرطان في الكبد.
عزيزي عبد الله… اعلم أننا لم نبيّن لك إلا عُشْر ما نعلم، ولو أننا هممنا بشرح كل هذه الحكم وكل تجليات أسماء الله الحسنى علينا، لَما عاد عقلك يستوعبُ ولَما كفى علمنا على ذلك. فننصحك يا عبد الله في نهاية كل ما شرحناه، أن تقي نفسك من الاضطرابات النفسية التي تؤدي إلى حالات صعبة وحرجة في جسمك وحياتك… ونشكرك على حسن استماعك وعلى أتاحتك لنا فرصة التحدث عن مُبدِعنا وخالقنا سبحانه وتعالى.
ــــــ
(*) الترجمة عن التركية: نور الدين صواش.