الرسالة النبوية رسالة تربوية

إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وركب فيه العقل والإرادة والغريزة ورشحه لوظيفة الخلافة، ولكن لم يتركه هملاً يبحث عن طريقه لوحده، وإنما أضاف إلى شعاع العقل الذي كرمه به، سراجَ الوحي، ووضع السراج بأيدي صفوة من خلقه؛ اختارهم ورباهم على عينه، ثم ساقهم في سلسلة نورانية منذ آدم عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كي ينيروا للإنسان دروب حياته ويؤهلوه إلى أن يرتقي إلى مقام الخلافة والعبودية والعمارة. وهي وظائف ثلاث قد تتكامل وتتداخل لتضبط علاقة الإنسان بخالقه وبذاته وبالكون الذي يحيط به.

وإن جوهر وظيفة الأنبياء -زيادةً على إقامة الحجة على الخلق- يكمن في إعداد الإنسان وتطهير نفسه، ليكون صالحاً لمقام العبودية المبنية على الإرادة والمحبة، أي إخراج الإنسان من الدائرة التي يكون فيها عبداً لله بالاضطرار، إلى الدائرة التي يكون فيها عبداً لله بالاختيار، وهي التي يحقق من خلالها إنسانيته وتميزه عن بقية الموجودات.

التجارب الإنسانية البعيدة عن هداية الوحي، كثيراً ما جلبت التعاسة للإنسان حين تعاملت معه على أنه كائن بسيط مكون من بُعد واحد.

وهذا التحويل والتغيير في معنى الاتصاف بالعبودية، هو ما يمكن أن نسميه “التربية”. والتربية هي عملية ليست سهلة ولا هينة، خصوصاً إذا فسدت الفطرة الإنسانية أو تشوهت بفعل تدخل المسالك التربوية البعيدة عن هداية الوحي، وهو ما حدث بالفعل كما يخبرنا القرآن، من خلال معاناة الأنبياء -عليهم السلام- من فساد فطر أقوامهم وتوارثهم لذلك الفساد والانحراف العقدي والسلوكي.

جوهر الرسالات النبوية

والذي يجعلنا نقول بأن جوهر الرسالات النبوية، هو إعداد الإنسان وتربيته ليكون أهلاً لمقام العبودية، أننا نجد القرآن الكريم عندما يقص علينا قصص الأنبياء، يبيّن أنهم -وإن اختلفوا في معالجة الأمراض الاجتماعية البارزة في أقوامهم، كالاستبداد السياسي أو الفساد الأخلاقي أو الظلم الاجتماعي أو الانحراف الاقتصادي- يشتركون في البدء بدعوة الناس إلى عبودية الله سبحانه وتعالى، حيث نرى ذلك من خلال تكرر آية:

﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾(الأعراف:59). وحرْص القرآن على تكرار الآية حرفيًّا مع كل نبي على اختلاف زمانه ومكانه وشرعته مع بقية الأنبياء، لا يمكن أن يكون بمحض الصدفة أو دون غاية وحكمة.

إن خصائص التربية النبوية، ليست سوى انعكاس لخصائص الرسالة النبوية ذاتها.

فالرسول صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، ورسالته هي خاتمة الرسالات. فكان متكاملاً ومكملاً لمن سبقه، وفي الوقت ذاته، متميزاً عنهم بخصائص تتفق مع ختمه لسلسلة النبوة والرسالة، وهو ما يعني خطابه للإنسان في كل زمان ومكان.

وعلى ضوء هذا نفهم التكامل بين المعنى الوارد في حديث: “مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وجملها وترك منها موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون بالبناء ويعجبون منه ويقولون لو تم موضع تلك اللبنة، وأنا في النبيين بموضع تلك اللبنة” (رواه البخاري)، والمعنى الوارد في حديث: “أُعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نُصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة” (رواه مسلم). فالأول ينبه إلى خاصية التكامل والتكميل، والثاني ينبه إلى خاصية التميز التي يقتضيها ختم الرسالة.

خصائص تربية الرسول صلى الله عليه وسلم

فإذا شئنا أن نبين خصائص التربية عند الرسول صلى الله عليه وسلم، علينا أن نبحث في خصائص الإسلام ذاته من جهة، وخصائص العلاقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والناس كما يحددها القرآن من جهة ثانية. فهذه الخصائص إجمالاً يمكن تبينها من خلال نماذج من الآيات المحددة للعلاقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والناس الذين أُرسل إليهم.

قال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:151)، وكقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾(الجمعة:2).

فالآيتان عرضتا بصورة مكثفة على طريقة القرآن البلاغية الراقية، الوظيفةَ التحويلية لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم التي يتم من خلالها نقل المدعوين من مستوى الأمية بكل مفاهيمها؛ أمية عدم القراءة والكتابة، أمية عدم امتلاك الكتاب، الأمية الحضارية… إلى مستوى المعرفة والتزكية وامتلاك الكتاب والحكمة. فهي عملية تحويل تنور العقل وتطهر النفس. وهل التربية في أدق معانيها إلا هذا!

أما تفصيلاً وبالنظر إلى خصائص الإسلام ذاته، فيمكن تبين خصائص التربية النبوية من خلال السمات التالية:

1-الإنسانية: فهي جاءت تستهدف الإنسان بما هو إنسان. كيف لا وهي -كما قلنا- انعكاس للإسلام الذي يمتاز بنزعته الإنسانية الواضحة الثابتة الأصيلة في معتقداته وعباداته وتشريعاته وتوجيهاته، إنه دين الإنسان.

ومن هنا رأيناها تتعامل مع الإنسان لا باعتباره ملَكاً معصوماً، ولا باعتباره شيطاناً رجيماً، ولا باعتباره بهيمة عجماء، وإنما باعتباره إنساناً رُكبت فيه نوازع الشر ونوازع الخير: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾(الشمس:7-8)، وتَجاوَر في كيانه العقل والغريزة والجسد والروح… قد يرتقي وقد يتسافل، قد يقوى وقد يضعف، ولكنه في كل حالاته يظل إنساناً، وعلينا أن نعامله على هذا الأساس.

ولعل من أبرز التنبيهات إلى هذه الخاصية، الجواب الذي حل من خلاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإشكالَ الذي وقع فيه الصحابي “حنظلة” رضي الله عنه حينما سارع إلى اتهام نفسه بالنفاق لما لاحظ ترددها بين الارتفاع الروحي إذ يكون بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والنزول إلى مستوى التعامل العادي إذ يكون بصحبة الزوجة والولد.

فعن حنظلة الكاتب التميمي الأسدي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الجنة والنار حتى كأنا رأي العين، فقمت إلى أهلي وولدي فضحكت ولعبت، فذكرت الذي كنا فيه، فلقيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: نافقت نافقت، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنا لنفعله، فذهب حنظلة فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:”يا حنظلة لو كنتم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم أو على طرقكم، يا حنظلة ساعة وساعة” (رواه مسلم).

فالتوجيه النبوي هنا، يعيد الأمور إلى نصابها، وهو أن لا ينظر الإنسان إلى نفسه ولا إلى نفوس من يربيهم خارج نطاق وصف الإنسانية. وبهذا تقف التربية النبوية موقفاً وسطاً في النظر إلى الإنسان، فلا هي ألّهته ولا هي سلبته إنسانيه، فكلا الموقفين ينتهي إلى النتيجة ذاتها وهي الحط من مكانة الإنسان كمخلوق مكرم.

فالذي يخضع لصنم أو لمظهر من مظاهر الطبيعة الظاهرة أو الخفية، يقع في أسوء أنواع العبودية فيؤول أمره إلى أن يفقد إنسانيته.

والذي ينطلق في الحياة متفلتاً من عبودية الله سبحانه وتعالى مؤلهاً نفسه، يقع في عبودية لا تقل سوءاً وشرًّا عن عبودية الصنف الأول؛ إذ ليس في الدنيا أشنع من اتخاذ الهوى إلهاً يعبد من دون الله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾(الجاثية:23). فالأمر يؤول أيضاً إلى أن يفقد الإنسان إنسانيته، ويقع فيما أسماه من رصدوا أمراض الحضارة الغربية المعاصرة “تشيؤ الإنسان وتسلعه” (أي تحوله إلى شيء وسلعة) فيصبح محكوماً بقوانين السوق، كما يحكم أي شيء مادي آخر، مما يفقده خصائصه الإنسانية التي كرمه الله سبحانه وتعالى بها.

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، شارحاً مفهوم “تجريد الإنسان من خصائصه الإنسانية” لدى نقاد الحضارة الغربية: “ترجمة للكلمة الإنجليزية (Dehumanization) وهي تعني إنكار وقمع تلك الصفات والأفكار والنشاطات التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، ومنع تحقيق الإمكانات الإنسانية للإنسان مقابل خصائصه الطبيعية المادية التي يشترك فيها مع غيره من الكائنات، ومن ثم يمكن القول بأن العبارة مترادفة مع كلمة “اغتراب”.

وتستخدم العبارة للإشارة إلى تلك الاتجاهات في الحضارة الحديثة التي تجرد الإنسان من إنسانيته، وتحوله إلى شيء ضمن الأشياء، أي تستوعبه وتسلعه وتنكر عليه حرية الاختيار والمقدرة على التجاوز، وتحقيق كليته الإنسانية المركبة المتجاوزة للحتميات الطبيعية المادية وللأنماط الطبيعية المتكررة”.(1)

2-الشمولية: وهذه خاصية أخرى نجدها للتربية النبوية وهي تتعامل مع الإنسان، إذ تنظر إليه كما ينظر إليه الإسلام؛ نظرة شاملة تستوعب مكوناته من عقل وروح وعاطفة وجسد وغريزة، كما تستوعب جميع أطوار حياته من طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة، كما تستوعب أوضاعه رجلاً وامرأة، فرداً ومجتمعاً.

فالإنسان في نظر التربية النبوية متعدد الأبعاد، ولكل بعد حقه في العناية والتهذيب وتلبية الحاجات، وإلا تشوه كيان الإنسان، وفَقَدَ التقويم الأحسن الذي خلقه الله سبحانه وتعالى عليه، وهو لا يكون كذلك إلا إذا كان “أحسن بحسب الظاهر والباطن”.

ولعل في حرص النبي صلى الله عليه وسلم على محاربة الإخلال بهذه الخاصية من بعض الصحابة، ما يؤيد هذا المعنى ويؤكده. فقد كان صلى الله عليه وسلم يعالج ظاهرة ميل من يربيهم إلى بعد من أبعاد مكوناتهم -والذي يكون في الغالب البعد الروحي- على حساب الأبعاد الأخرى، فينبههم إلى فساد مسلكهم وخروجهم عن التقويم الأحسن الذي تمثله شخصيته صلى الله عليه وسلم فتراه يربط التوجيه بسنته، ولنضرب على هذا مثالاً واحداً: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون رضي الله عنه فجاءه، فقال: “يا عثمان أرغبت عن سنتي؟” قال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب، قال: “فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لضيفك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، فصم وأفطر وصل ونم” (رواه أبو داود).

فالتوجيه النبوي هنا -وفي غيره من الأحاديث المماثلة- ينبه على خطورة الخروج عن السنة في التعامل مع النفس الإنسانية. فالإنسان كما خلقه الله سبحانه وتعالى مركب من أبعاد وجب احترامها والوفاء بحقوقها… وإن من أخطر ما يوقع الإنسان في الشقاء والاغتراب الذي ألمحنا إليه من قبل، هو تجاهل أبعاده المختلفة واختزاله في بُعد واحد، سواء كان روحيًّا أم ماديًّا.

والتجارب الإنسانية البعيدة عن هداية الوحي، كثيراً ما جلبت التعاسة للإنسان حين تعاملت معه على أنه كائن بسيط مكون من بُعد واحد.

نجد ذلك في ممارسة بعض “الصوفية” المتجاوزة لضوابط الشرع، والمتأثرة بالفلسفات التي ترى في إنهاك الجسد وقمع متطلباته خلاصاً للروح وتحقيقاً للكمال.

إن خصائص التربية النبوية، ليست سوى انعكاس لخصائص الرسالة النبوية ذاتها. فالرسول صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، ورسالته هي خاتمة الرسالات. فكان متكاملاً ومكملاً لمن سبقه،

كما نجد ذلك في المسلك المقابل لدى الحضارة الغربية المعاصرة، التي ضخمت من مادية الإنسان على حساب روحه، إلى الدرجة التي اختفت -أو كادت تختفي- فيه بقية الأبعاد، مما جعل الباحثين يتحدثون في معرض نقدهم لمآلات الحضارة الغربية عن ظاهرة “الإنسان ذي البُعد الواحد”. وعن هذه الظاهرة يقول الدكتور المسيري: “هي عبارة ترد في كتابات “هربرت ماركوز” (أحد مفكري مدرسة فرنكفورت) وتعني “الإنسان البسيط غير المركب”. والإنسان ذو البعد الواحد هو نتاج المجتمع الحديث، وهو نفسه مجتمع ذو بعد واحد، يسيطر عليه العقل الأداتي والعقلانية التكنولوجية والواحدية المادية، وشعاره بسيط هو التقدم العلمي والصناعي، وتعظيم الإنتاجية المادية، وتحقيق معدلات متزايدة من الوفرة والرفاهية والاستهلاك، وتهيمن على هذا المجتمع الفلسفة الوضعية التي تطبق معايير العلوم الطبيعية على الإنسان، وتدرك الواقع من خلال نماذج كمية ورياضية، وتظهر فيه مؤسسات إدارية ضخمة تغزو الفرد وتحتويه وترشده وتنمطه وتشيئه وتوظفه لتحقيق الأهداف التي حددتها”.

3-التكامل والتوازن: لا تكتفي التربية النبوية بأن تنظر إلى الإنسان في إطار إنسانيته ومن خلال أبعاده المتعددة، وإنما تحرص -كحرص الإسلام- على إحداث التناغم بين هذه الأبعاد المختلفة، وذلك بإضافة مفهوم التكامل والتوازن إلى مفهوم الشمولية.

والتكامل والتوازن يعرضان في التوجيهات النبوية بطريقة تجعل منهما صفة واحدة، بحيث يكون في الإنسان تكامل متوازن وتوازن متكامل.

ومعنى هذه الخاصية، أن يعطى لكل بعد من الأبعاد التي أقررنا بها من خلال خاصية “الشمولية” دوره وحقه، على أن يكون هذا الدور متناسقاً ومتناغماً مع بقية الأجزاء، فتنتفي بذلك مقولة: “هذا أولى من هذا”، لتحل محلها مقولة: “أعط لكل ذي حق حقه”.

فالمنهج التربوي الذي تقدمه السنة النبوية، يستهدف إنساناً تتكامل أبعاده وتتوازن. فهو منهج “يوازن بين الروح والجسم، وبين العقل والقلب، وبين الدنيا والآخرة، وبين المثال والواقع، وبين النظر والعمل، وبين الغيب والشهادة، بين الحرية والمسؤولية، وبين الفرد والجماعة، وبين الاتباع والإبداع”.(2)

وصفة التكامل والتوازن، يمكن أن نستدل عليها بالحديث السابق وبأمثاله من الأحاديث التي جاءت بنفس المعنى، كما يمكن أن نستنتجها من الأحاديث التي يحرص من خلالها الرسول صلى الله عليه وسلم على بيان مراتب الأحكام وتكامل فوائدها وإن لم تكن لها نفس الدرجة، كحديث: “ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه” (رواه البخاري). فهنا التكامل والتوازن بين الفرض والنفل وذكر الفائدة لكل منهما.

كما يمكننا أن نلمح التوازن والتكامل في حديثه صلى الله عليه وسلم عن الدنيا والآخرة، وعن الموت والحياة، كقوله: “اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي” (رواه أبو داود).

هذا دون أن نغفل عن ربط هذه الخصائص البارزة بالغاية من التربية النبوية، أعني بذلك جوهر الرسالة -كما ألمحنا إليه من قبل- وهي تعبيد الإنسان لله سبحانه وتعالى. يقول الشاطبي

(ت 795 هـ): “الشرع إنما جاء بالتعبد، وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾(النساء:1)، ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ﴾(هود:1-2)…” .(3)

كما أن هذه الصفة بجملتها، تضمنت صفات أخرى تكون كاللازم عنها، مثل “الواقعية” وهي من مقتضيات الإنسانية، و”الوسطية” وهي من مقتضيات التكامل والتوازن، و”الاجتماعية” وهي من مقتضيات الشمولية..

ـــــــــــــــ

الهوامش

(1) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، للدكتور عبد الوهاب المسيري، المجلد الأول، جـ:4، الباب:5، “تجريد الإنسان من خصائصه الإنسانية”.

(2) كيف نتعامل مع السنة النبوية، معالم وضوابط، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، للدكتور يوسف القرضاوي، ص:24.

(3) الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق عبد الله دراز، دار المعرفة (بيروت)، جـ:1، ص:61.