ابن الشاطر، علَمٌ من أعلام مدرسة دمشق لعلم الفلك، وواحد من كبار علماء الفلك المسلمين المجددين الذين قادوا البشرية إلى تصورات جديدة للكون، وهيأوا السبيل لحضارة عصر الفضاء والإنجازات التكنولوجية الفلكية.
وهو “علاء الدين علي بن إبراهيم بن محمد بن حسان الأنصاري المؤقت الفلكي الدمشقي”، اشتهر بـ”ابن الشاطر”، ويعرف أيضاً بـ”بالمطعّم الفلكي” نظراً لاشتغاله في صباه بحرفة تطعيم الخشب بالعاج. ولعل هذه الحرفة أكسبته المهارة اليدوية في صنع الآلات الفلكية.
عاش ابن الشاطر بين سنتي 1304-1375م، وهو من مواليد دمشق وفيها توفي. قضى معظم حياته في وظيفة التوقيت ورئاسة المؤذنين في المسجد الأموي بدمشق. وقد نال شهرة عظيمة بين علماء عصره في المشرق والمغرب كعالم فلكي.
توفي والده وهو في السادسة من عمره، فكفله جده ثم ابن عم أبيه وزوج خالته الذي علّمه فن تطعيم العاج، فكان يكنى بـ”المطعّم”. وقد أكسبته هذه المهنة ثروة كبيرة، لأن صناعة تطعيم العاج تحتاج إلى ذوق رفيع ومهارة ودقة في العمل. وقد مكنته ثروته العظيمة، من زيارة كثير من بلاد العالم، ومنها مصر التي قضى فيها ردحاً من الزمن. درس ابن الشاطر في القاهرة والإسكندرية علمَي الفلك والرياضيات. وقد برع في علمَي الهندسة والحساب، ولكنه لم يلبث أن اتجه إلى علم الفلك فأبدع فيه. وهذا يظهر من ابتكاراته للأجهزة والأدوات الفلكية من الإسطرلاب، وتصحيحه للمزاول الشمسية، وشرحه لكثير من نظريات بطليموس وانتقاده لها وتعليقه عليها.
تحديده مدارَي “عطارد” و”القمر”
بقيت رسائل ابن الشاطر المتخصصة في الأجهزة؛ مثل الإسطرلاب والمزاول الشمسية، تتداول لعدة قرون في كل من الشام ومصر والدولة العثمانية وبقية البلاد الإسلامية، كما كانت مرجعاً لضبط الوقت في العالم الإسلامي. وعلى سبيل المثال، صنع آلة لضبط وقت الصلاة سماها “البسيط”، ووضعها في إحدى مآذن المسجد الأموي بدمشق.
استفاد ابن الشاطر من إنجازات مدرسة “مراغة” لعلم الفلك التي قادها الفلكي الكبير “نصير الدين الطوسي”، وتمكّن من تحديد مدارَي “عطارد” و”القمر” اللذين حيّرا علماء الفلك طويلاً. والنموذجان اللذان وصفهما لحركتهما، يعدان أول ابتكار غير بطلمي يتحقق على الطريق المؤدي إلى العلم الحديث. ويعترف -الآن- الكثير من علماء الغرب لابن الشاطر، بأن الفلكي البولندي الشهير “كوبرنيكس” (Copernicus)، أخذ عنه هذين النموذجين -نموذج عطارد ونموذج القمر- وأدخلهما في نظامه الفلكي الذي وضعه بعد ابن الشاطر بقرن ونصف من الزمان، وهو النظام الذي يشتهر باسمه “النظام الكوبرنيكي” (Copernican System).
وهذا الاكتشاف ليس بعيداً عن جهود علماء المسلمين البارعين، الذين اعتمدوا في اكتشافاتهم على الرصد الدقيق والتحقيق البارع، بفضل المراصد التي أسسوها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وعلى رأسها مرصد مراغة الذي بناه نصير الدين الطوسي (657هـ). وقد اشتهر هذا المرصد بعظمته وكثرة أجهزته وآلاته، وتفوّقِ المشتغلين فيه، ودقةِ أرصاده التي اعتمد عليها علماء أوربا في عصر النهضة وما بعده في بحوثهم الفلكية.
ومن الجدير بالذكر أن هذا المرصد لا تزال بقاياه قائمة حتى الآن. وكانت هناك -عدا هذا المرصد- مراصد أخرى في مختلف الأنحاء؛ كمرصد ابن الشاطر، ومرصد البتاني في بلاد الشام، ومرصد الدينوري بأصبهان، ومرصد البيروني، ومرصد أولغ بك بسمرقند، ومراصد أخرى عامة وخاصة في مصر وفاس والأندلس وغيرها.
نماذجه الفلكية في الزيج الجديد
وقد طلب الخليفة العثماني “مراد الأول” الذي حكم الشام في الفترة بين سنتي 761-791هـ أن يصنف له زيجاً يحتوي على نظريات فلكية ومعلومات جديدة، فألف ابن الشاطر له “الزيج الجديد” الذي قال في مقدمته: “إن كلاً من ابن الهيثم ونصير الدين الطوسي وغيرهما من علماء العرب والمسلمين، قد أبدو شكوكهم في نظريات بطليموس الفلكية، ولكنهم لم يقدموا تعديلاً لها..”. ولكنه قدم نماذج فلكية في الزيج الجديد، قائمة على التجارب والمشاهد والاستنتاج الصحيح. على أن كوبرنيك لم يتورع عن ادعاء هذه النماذج لنفسه، وسايره مَن جاء بعده في أوربا في هذا الادعاء حتى القرن العشرين.
وذكر المستشرق الإنجليزي الذي اهتم بإنتاج علماء العرب والمسلمين في الفلك، الدكتور “ديفيد كنج” في مقالة نشرت في “قاموس الشخصيات العلمية”، أنه ثبت في عام 1950م، أن كثيراً من النظريات الفلكية المنسوبة لـ”كوبرنيك”، قد أخذها هذا الأخير من العالم المسلم ابن الشاطر. وفي عام 1973م عثر على مخطوطة عربية في بولندا مسقط رأس كوبرنيك، اتضح فيها أنه كان ينقل تلك المخطوطات العربية وينتحلها لنفسه. وقد صنف ابن الشاطر أزياجاً كثيرة، وقام بأعمال جليلة تدل على عبقريته الفذة وذكائه الحاد ومهارته وطول باعه في علم الفلك.
ابتكاراته من أدوات الفلك والقياس
ابتكر ابن الشاطر الكثير من الأدوات المستخدمة في الرصد الفلكي، والأدوات المستخدمة في القياس الحسابي، ومنها الساعتان الشمسية والنحاسية، والربع العلائي والربع التام المستخدمان في حل مسائل علم الفلك، بكيفية يسهل معها الحصول على النتائج، والإسطرلاب الذي ابتكره.
لقد ابتكر ابن الشاطر كثيراً من الآلات التي وصفها أتم وصف في مؤلفاته الفلكية، إضافة إلى نظرياته الفلكية ذات القيمة العلمية الرفيعة. وقد اعترف للمسلمين بإتقان صناعة هذه الآلات الفلكية؛ فقد صنعوا من الإسطرلاب نماذج بديعة ومتقنة، حتى لقد أصبح بفضلهم أداة عملية وتحفة فنية في آن واحد. فالإسطرلاب: أداة فذة للمراقبة، قابلة للحمل، تحاكي في تصميمها ما يبدو من مسار النجوم حول القطب السماوي، كما يمكن بواسطتها تقدير أبعاد النجوم والشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة، ويمكنها أيضاً أن تبين الوقت، وأن تقيس مدى ارتفاع جبل من الجبال أو مدى انخفاض الآبار، وهي -فضلاً عن ذلك- ذات قيمة عظيمة حتى للملاحين.
وقد استُعملت هذه الإسطرلابات في البلدان الإسلامية منذ القرن التاسع الميلادي، إلى أن حلت محلها مخترعات حديثة. ويوجد من الإسطرلاب الإسلامي نماذج جميلة في مختلف متاحف أوربا، ويعتبر صندوق اليواقيت آلة فلكية من صنع ابن الشاطر، وتحتفظ به مكتبة الأوقاف بحلب، وأهم أجزائها، إبرة مغناطيس لامتدادها في الجهات الأربع، ثم رسوم لمعرفة القبلة في بعض البلدان، ثم ساعة شمسية كلية تُمال إلى الأفق بقدر عرض البلد، ثم دائرة استوائية كلية يقاس بها الوقت ليلاً ونهاراً، ثم أقواس لعروض مختلفة لقياس المطالع الفلكية.
وقد قارن “جانان” (Louis Janin) و”دافيد كنغ” (David King) في مجلة “تاريخ العلوم العربية” هذه الآلة، بالإسطرلاب الذي صنعه العالم الفلكي السوري “ابن السراج” قبل عصر ابن الشاطر، والذي كان أيضاً آلة كلية من نواح عدة، وبحث في أثر هذه الآلة في ابتداع آلة كلية أخرى سميت بـ”دائرة المعدل” لمخترعها الفلكي المصري عز الدين الوفائي من بعده.
جداوله للمواقيت الفلكية
وقد بقيت رسائل ابن الشاطر المتخصصة في الأجهزة؛ مثل الإسطرلاب والمزاول الشمسية، تتداول لعدة قرون في كل من الشام ومصر والدولة العثمانية وبقية البلاد الإسلامية، كما كانت مرجعاً لضبط الوقت في العالم الإسلامي. وعلى سبيل المثال، صنع آلة لضبط وقت الصلاة سماها “البسيط”، ووضعها في إحدى مآذن المسجد الأموي بدمشق.
ويقول “دونالد هيل” في كتابه “العلوم الهندسية في الحضارة الإسلامية”: “وإبان القرن الرابع عشر الميلادي، أنجز في سوريا أهم عمل في علم المواقيت الفلكية، فقد عاد “الميزي” بعد دراسته في مصر إلى سوريا، ووضع مجموعة جداول للزاوية الساعية، وجداول لمواقيت الصلاة في مدينة دمشق على غرار جداول مدينة القاهرة، ووضع ابن الشاطر جداول لمواقيت الصلاة في مكان غير محدد عند خط عرض 34 درجة، على الرغم من أن أهم إنجازاته كانت في مجال علم الفلك النظري. وعلى طريق الميزي، وابن الشاطر، أحرز شمس الدين الخليلي أهم الإسهامات في “علم الميقات”، فأعاد حساب جداول الميزي للمعاملين الجديدين: “الارتفاع المحلي، وميل فلك البروج” اللذين استنتجهما ابن الشاطر. وظلت جداوله للمواقيت، بالنسبة إلى الشمس وإلى تحديد أوقات الصلاة في دمشق، مستخدمة هناك حتى القرن التاسع عشر الميلادي”.
رؤية فلكية مختلفة
وجّه ابن الشاطر اهتمامه الشديد إلى قياس زاوية انحراف دائرة البروج، فانتهى إلى نتيجة مفرطة الدقة وهي 23 درجة و31 دقيقة. وصدق المؤلف المعروف “جورج سارتون” إذ يقول في كتابه “المدخل إلى تاريخ العلم”: “إن ابن الشاطر عالمُ فلكٍ فائق الذكاء، فقد درس حركة الأجرام السماوية بكل دقة، وأثبت أن زاوية انحراف دائرة البروج تساوي 23 درجة و31 دقيقة في عام 1365 م، علماً بأن القيمة المضبوطة التي توصل إليها علماء القرن العشرين بواسطة الآلات الحاسبة هي: 23 درجة و31 دقيقة و8 و19 ثانية”.
وقد كانت نظرية بطليموس ترى خطأ أن الأرض هي مركز الكون، وأن الأجرام السماوية تدور حول الأرض دورة كل 24 ساعة. ووضع بطليموس لهذه النظرية حساباً فلكياً لا تحتمل جداولاً، ولكن الأرصاد الفلكية التي قام بها العالم المسلم ابن الشاطر، برهنت على عدم صحة نظرية بطليموس، ويعلل ابن الشاطر ذلك بقوله: “إن الأجرام السماوية لا يسري عليها هذا النظام الذي وضعه بطليموس، فعلى سبيل المثال ذكر أنه إذا كانت الأجرام السماوية تسير من الشرق إلى الغرب، فالشمس إحدى هذه الكواكب تسير، ولكن لماذا يتغير طلوعها وغروبها؟ وأشد من ذلك، إن هناك كواكب تختفي وتظهر سمّوها الكواكب المتحيزة، لذا الأرض والكواكب المتحيزة تدور حول الشمس بانتظام، والقمر يدور حول الأرض”.
ذكر المستشرق الإنجليزي الذي اهتم بإنتاج علماء العرب والمسلمين في الفلك، الدكتور “ديفيد كنج” في مقالة نشرت في “قاموس الشخصيات العلمية”، أنه ثبت في عام 1950م، أن كثيراً من النظريات الفلكية المنسوبة لـ”كوبرنيك”، قد أخذها هذا الأخير من العالم المسلم ابن الشاطر. وفي عام 1973م عثر على مخطوطة عربية في بولندا مسقط رأس كوبرنيك، اتضح فيها أنه كان ينقل تلك المخطوطات العربية وينتحلها لنفسه.
وهذا -بنصه- هو الاكتشاف الذي نسب إلى كوبرنيك بعد ابن الشاطر بعدة قرون، ثم جاء غاليليو الذي تشبع بفكرة ابن الشاطر، فابتكر أول تلسكوب، وأخذ يراقب حركة النجوم باستخدام هذا الجهاز، وأقام أكثر من دليل علمي على أن نظرية ابن الشاطر صائبة.
آثاره ومؤلفاته
اهتم ابن الشاطر بالتأليف مع عمله كمؤذن في الجامع الأموي بدمشق، فألف أكثر من ثلاثين مؤلفاً ما زال عدد منها مفقوداً، ومن مؤلفاته: زيج نهايات الغايات في الأعمال الفلكيات، رسالة في تعليق الأرصاد، رسالة في نهاية السؤال في تصحيح الأصول، الزيج الجديد، كتاب الأشعة اللامعة في العمل بالآلة الجامعة، رسالة عن إيضاح المصيب في العمل بالربع المجيب، كتاب المختصر في الثمار البالغة في قطوف الآلة الجامعة، أرجوزة في الكواكب، رسالة عن صنع الإسطرلاب، كتاب المختصر في عمل الإسطرلاب، مقالة عن النفع العام في العمل بالربع التام، رسالة نزهة السامع في العمل بالربع الجامع، رسالة كفاية القنوع في العمل بالربع الجامع، رسالة العمل بالربع الهلالي، رسالة في الربع العلائي، رسالة في أصول علم الإسطرلاب.
يقول الدكتور علي عبد الله الدفاع في كتابه “العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية”: “إن ابن الشاطر ركز كل جهوده على علم الفلك، فترجم كثيراً من إنتاج علماء اليونان وغيرهم، ودرس بعناية ما ورثه عن علماء العرب والمسلمين في هذا المجال، فأبدع وأحسن النقل وصحح الأخطاء، وابتكر كثيراً من النظريات الفلكية التي صححت ما كان مشهوراً على خطئه قبلها… ولم يخف ابن الشاطر أهمية علم الفلك الذي يعد من العلوم الضرورية في البحرية والأرصاد الجوية. وجدير بالذكر أن أعمال ابن الشاطر العلمية والفنية، تنحصر في أمرين رئيسيين هما: تطوير الآلات الفلكية، ونظرية حركة الكواكب”.
ومن هنا فليس غريباً أن نجد المؤرخ العلمي “أ. س. كندي” يؤكد على أن ابن الشاطر: “عمل أكثر من تنقية نظام بطليموس؛ إذ برهن على خطئه، وفسر النظام الحقيقي للجهاز الشمسي. ولم تعرف حقيقة ابن الشاطر إلا في وسط القرن العشرين، لأن نظرياته الفلكية القيمة سيطر عليها كوبرنيك وادعاها لنفسه، وأيّده في ذلك علماء الغرب في الفلك مدة تضاهي خمسة قرون، أما اليوم فإن المنصفين من المتخصصين في علم الفلك في العالم أجمع، يسهرون ليل نهار على دراسة أعمال ابن الشاطر، محاولين بكل إخلاص رد الحق إلى أهله، ونتوقع أن يحمل لنا المستقبل مفاجآت مذهلة عن أعمال ابن الشاطر وإنتاجه العلمي”.