يبقى الفكر الاستيعابي لعناصر الوجود في وحدة معرفية واحدة، هي الأساس الذي يبني عليه الأستاذ “فتح اللّٰه كولن” منطلقاته الفكرية والدعوية. فنحن والعالم والكون موجودون بوجود اللّٰه تعالى، وكانت النبوات قد شكلت التاريخ الروحي لبني الإنسان عبر القرون توكيدًا لهذه الحقيقة. فالشعوب والأمم إنما هي وحدات روحية يكمل بعضها بعضًا ويرفد بعضها بعضًا.
وكل سبر لأغوار الكيان الإنساني سيأخذنا في خاتمة المطاف، إلى مناطق الفطرات والبداهات من وراء جميع الإدراكات العقلية الظاهرية، مشيرة إلى حقيقة الوجود الإلهي المهيمن على كل وجود وموجود. ومن هنا يجيء توكيد الأستاذ، على ضرورة كشف الحجب عن ذاتية الأمة، لكي تتجلى لها هذه الحقيقة بأوضح صورها. فهذا المقال يبني منارات معرفية هادية لمن يرغب بمعرفة الطريق المستقيم.
ومن التوافقات الجميلة والغريبة أن يأتي مقال الأستاذ “محمد عمارة”، وكأنه رديف متمم في المعنى والمضمون لمقال الأستاذ “فتح اللّٰه”؛ حيث يعالج قضية وحدة الخلق وإن تعددت صور المخلوقات، وأحدية الخالق المتظاهرة في وحدة الخلق والمخلوقات.. فخطه الفكري يجري موازيًا في هذا المقال، للخط الذي اختطه الأستاذ “فتح اللّٰه كولن”، وهو يؤكد -كذلك- المعنى المعرفي الروحاني الذي ينطلق منه الأستاذان الفاضلان.
ولكن هذا الاستيعاب في حاجة دائمة إلى دعاة، على مستويات عالية من اللطف واللين والذوق، تمكنهم من الدخول إلى قلوب المتلقين وأرواحهم دون استئذان. وفي تاريخنا نماذج عالية من هؤلاء الدعاة، فمقال الأستاذ “فؤاد البنا” الموسوم بـ”الفتوحات الناعمة” يتحدث عن هؤلاء الدعاة الذين لم يتمنطقوا بسيف ولم يطعنوا برمح.
ولئن كان الحوار مع الآخر هو مفتاح الدعاة لفتح القلوب والأرواح، غير أن “الحوار مع الذات” ينبغي أن يتقدم بشكل منطقي على الحوار مع الآخر، لذا يلزم الداعية أن يلتفت إلى ذاته ليحاورها قبل أن يشرع بحوار ذوات الآخرين، وعن أهمية هذا الحوار تحدثنا الدكتورة “مريم آيت أحمد” في مقالها “حوار الذات مدخل أساس لحوار الآخر”.
وهذا كله إن لم يؤطَّر بإطار من التوازن والاعتدال، وعدم الإفراط أو التفريط في الفكر والعمل، فإنه قد لا يأتي بالخير المؤمل منه. وهذا هو سبب ما نلمسه من خلل في توجهات الحضارة المعاصرة، وتعاملها مع الشعوب بموازين مختلفة تفقدها صفة العدل الذي هو الأساس في أية حضارة تريد الحفاظ على نفسها من السقوط والتدهور، وإلى هذه المعاني يشير مقال الأستاذ “إبراهيم شوقار”.
ويسرنا أن نزف إلى قرائنا بشرى صدور “حراء” كل شهرين تباعًا من هذا العدد، بعد أن كانت فصلية الصدور، ومن اللّٰه التوفيق والسداد.