قال: يطوقني الحنين، ويسربلني الشوق.
قالت: أليس الله بكاف عبده؟ يا من تكفي عن كل أحد، ولا يكفي عنك أحد، أغننا بك عن كل أحد، ولا تشغلنا عنك بأي أحد. آمين.. حسبي الله وكفى.
قال: أحبك.
قالت: شغلت عن حب الخلق بحب الخالق.
الحب البشري يقيد ويأسر، والحب الإلهي يحرر ويرفع، فكيف للعاقل أن يؤثر السجن على الحرية؟
قال: تتقنين ثقافة المحو.
قالت: وما ثقافة المحو؟
قال: أليس الطريق إلى حب الله يمر عبر حب مخلوقاته؟
قالت: زدني…
قال: حدثني بعض تلاميذ النور عن الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي، أنه جاءه رجل يسأله أن يكون مع السالكين، فقال الشيخ: أسَبق لك أن أحببت؟
ذهل السائل، فقد جاء يسأل الشيخ عن طريق النور، فإذا هو يسأله عن الحب. ولاحظ الشيخ ذهول السائل الشاب، فقال: هذا طريق لا يسير فيه غير العشاق. وازدادت حيرة الفتى. فإذا بالشيخ يقول: لابد أن تكون قد أحببت.. أحببت شيئًا ما.. أيّ شيء.. امرأة.. وردة.. لحظةَ الشروق أو الغروب.. منظرًا ما.. فكرة ما.. أيّ شيء.. ما لم تكتَوِ بنار الحب كيف ترتقي إلى درجة حب الخالق؟
كان عليه أن يسلك به الطريق شيئًا فشيئًا حتى يفقه هذه الحقيقة.
قد نتعلق بشيء ما.. نحبه.. ثم نسعى إلى أن نرتقي بهذا الحب.. وعلى قدر النفوس تكون الهمم.. وعلى قدر الهمم يكون المحبوب.. أليست الغاية هي حب الله تعالى؟ فكيف تستطيع أن تصل إلى ذلك الحب دون مجاهدة؟ كل إنسان يولد ومعه فطرة الحب، ثم هو بعد ذلك يوجهها إلى الغاية التي يريد.. قد يكون الحب في بدايته هوى.. فإذا تعلق به الإنسان أرداه.. الهوى يفضي بصاحبه إلى الهاوية.. ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾(الفرقان:43). الهوى يفنى ويتلاشى، والحب يبقى ويدوم.. وإلى هذا تنبه ولو من طرف خفي، جميل بثينة وهو يقول:
يموت الهوى مني إذا ما لقيته*** ويحيا إذا فارقتها ويزيـد
فلا أنا مردود بما جئت طالبًا***ولا حبها فيما يبيد يبــيد
فالهوى يموت.. أما الحب فلا يبيد.. ولكي يصل المرء إلى هذه الدرجة عليه أن يمارس ثقافة المحو.. كيف يمحو ما تعلقت به نفسه مما هو فان، ويلقي ببصره إلى ما هو باق؟ كيف يرقى من حب المخلوق إلى حب الخالق؟ فإذا ارتقى استطاع أن يفيض من ذلك الحب على مخلوقات الله بما لا يتناقض مع الحب العظيم، ويستشعر عندها معنى قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابّوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم” (وراه مسلم). الحب والسلام قرينان.. وما الذي تحتاجه البشرية في هذا العصر وفي كل عصر، هو أفضل وأمثل من الحب والسلام…
أنْ نمارس ثقافة المحو، معناه أن نتعالى على مشاغلنا الصغيرة وشهواتنا وملذات الحياة المحدودة، سعيًا وراء لذة لا تفنى، وحب لا يبيد.. أحيانًا نحس بوحشة الطريق فنحتاج إلى من يرافقنا أو من يأخذ بيدنا إلى طريق النور والحب.. قبل أن نصل إلى درجة الارتقاء التي تمكننا من أن نحس بحقيقة القائل: “لا وحشة مع الله”.. كيف نستشعر تلك المعية ونحن في عزلة عن الناس أو وسط الناس!
ثم قال: ها أنذا أشعر أنك أنت مرشدي إلى النور، وقد سبقتني إلى الطريق.. ما عليّ الآن، أن أتجرد من العقابيل التي كانت تثقلني، والأوزار التي كادت تقصم ظهري، وقد كانت الدنيا تزينها لي وتريني أنها الحب…
قالت: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدنيا سجن المؤمن” (رواه مسلم). ما من سبيل للحرية والتحرر إلا بقطع العلائق عن الخلائق، كما ذكر بعض من شاهد وعرف:
فليتك تحلو والحياة مريرة ***وليتك ترضى والأنام غضاب
إذا صح منك الودّ فالكل هين***وكل الذي فوق التراب تراب
عندئذ أرسلت بصري إلى الأفق البعيد مستبصرًا متأملاً، وكأنني أستشرف من وراء الغيب صوتًا يهديني، ويَدًا ترشدني. كيف أوفق بين العزلة الروحية والمخالطة الجسدية؟ أليس من يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرًا مما لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم؟ ولكن كيف يحافظ المرء على نفسه فلا تجرفه مخالطة الناس إلى ما هم فيه غارقون من أهواء؟ هنالك أدركت أن خيطًا رفيعًا تتمسك به يمكن أن يكون طوق نجاة. فالصورة العليا من حب الخلق المفضي إلى حب الحق هي حب الرسول صلى الله عليه وسلم. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين” (رواه البخاري)، وفي الصحيح أيضًا أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: “لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك”، فقال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إليَّ من كل شيء حتى من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: “الآن يا عمر”. والصورة الدنيا من حب الخلق المفضي إلى حب الحق هي حب الخلق حبًّا أساسه حب الحق. ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ” ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار” (رواه البخاري). فأحب من شئت، فإنك لن تبلغ بذلك الحب درجة الصفاء حتى يكون مرادك الله تعالى. فأحبوا الله من كل قلوبكم توفقوا إلى أن تفيضوا على الخلق من الحب ما به يتحقق الأمن والخير والسلام.