كان أبو حامد قادرًا على الانطلاق وعلى التحكم في الذات، وعلى أن يعيش في الدنيا وأن يعتزل ويعيش في السنوات الطوال بين الدنيا والآخرة. يا له من عظيم خدم الإسلام والمسلمين في منعطف من منعطفات الطريق.
في سنة (505هـ) ترك لنا العملاق الكبير أبو حامد الغزالي موسوعة ضخمة أطلق عليها اسم “إحياء علوم الدين”، ومات -رحمه الله- بعد أن عاش في دنيانا مدة قصيرة من الزمن إذا قيست بأعمار بعض الناس. فقد ولد سنة (450هـ)، أي إنه عاش خمسًا وخمسين سنة؛ اعتزل فيها الدنيا سنوات ليست بالقصيرة، متفرغًا للتفكير وللتدبر في الوحي والكون والعقل والنفس. وقد تألق في دحضه لحجج الفلاسفة، وأخرج للدنيا كتاب “تهافت الفلاسفة”، وأعطانا خلاصة تفكيره ونجاحه في الخروج من مستنقع الشك إلى أعلى درجات اليقين في كتابه “المنقذ من الضلال والهادي إلى ذي العرش والجلال”.
إن القرن الذي عاش فيه الغزالي كان قرن صراعات كلامية قاتلة بين المتكلمين والمحدثين والفقهاء. وفي نفس الوقت ساد التصوف البدعي الذي مثّل مرحلة تخدير للأمة نمت تحت ظلالها الحركات الباطنية والقرمطية، وتقدم الصليبيون يزحفون بجحافلهم من كل بلاد أوروبا؛ لأنهم أدركوا مستوى القاع الذي انحدر إليه المسلمون، وعرفوا أن قبلتهم لم تعد واحدة ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾(الحشر:14). أما أصحاب الحركات الضالة الذين غلبتهم اللاعقلانية واللامنطقية، فأوّلوا الإسلام تأويلاً باطنيًّا غنوصيًّا، وشتتوا وجدان المسلم وعقله، فقد استحقوا قول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ﴾(آل عمران:7)، وقليل منهم هم الذين كانوا من الراسخين في العلم الذين يقولون: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾(آل عمران:7).
أبو حامد الغزالي وابن خلدون
وتلفت أبو حامد حوله فلم يجد معينًا له على الحق الذي يعرفه، ولا على الفقه الشمولي للإسلام الذي يريده. فقد رأى تآكل أهل الحق الداخلي، وشراسة أهل الباطل الخارجية، وامتداد الملحدين في فراغ المسلمين. وفي إطار الجمع بين الخلوة والتفاعل، والشريعة والحكمة، والحديث والفقه، كتب أبو حامد كتابه الذائع الصيت “إحياء علوم الدين”. فكان شأنه في ذلك شأن عبد الرحمن بن خلدون المتوفى سنة (808هـ)، الذي تشابه عصره بعصر أبي حامد الغزالي، فكتب كتابه “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار ملوك العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”. والجزء الأول من كتابه “العبر” هو ما يسمى باسم “مقدمة ابن خلدون”، الذي أصبح من أمهات الكتب وروائع الفكر العالمي، إذ ارتفع بها صاحبها إلى درجة سقراط وأرسطو وأفلاطون كما يقول المؤرخ البريطاني المعروف “أرنولد تويني” الذي كان من أكبر المدافعين عن قضايا العرب وحضارتهم.
الحاجة لعلوم الدين وعلوم الدنيا
إن العلوم المسماة “ظلمًا” بعلوم الدنيا قد تكون -إذا توافرت لها النيات الصالحة والأدوات الصحيحة والمقاصد النبيلة- من علوم الدين. فالطبيب الذي يعالج الأبدان لتكون قادرة على العمل والجهاد، أشرف وأزكى وأقرب إلى الله من الفقيه الذي يميت على الناس دينهم، ويمزق رؤيتهم، ويميل إلى التشدّد بدعوى الورع أو الأخذ بالأحوط حتى ولو تسبّب في تدمير العائلات وتفكيك المجتمعات، وقد يمتلئ قلبه بالتعصب المذهبي والبغض لإخوانه المتبعين للمذاهب الأخرى… وهكذا يمكن أن نقول في سائر علوم الدنيا.
ولئن ران على عقول المسلمين نوع من الفقه الكليل بالدين وعلومه، فقد ران على عقولهم نوع من الجهل الفاضح بعلوم الدنيا، فبينما أصروا على “فرض” حفظ القرآن على أبنائهم، أصرّوا في الوقت نفسه على “رفض” تدبّر القرآن واستكشاف الآفاق والسنن والكونية المحدّدة والمحققة لأسباب النهوض، ولعوامل التقوى ولعوامل الانهيار من جانب آخر، حتى يتأتى لنا أن نعرف الطريقين فنعمل بما يوصلنا “لامتلاك أسباب النهوض”، ونعمل في الوقت نفسه على “اجتناب أسباب السقوط”. وظل القرآن يدرس في نطاق محدد، يدور بين إعجاز بياني وإعجاز فقهي (الأحكام) ولغوي وعقدي. لكن المسلمين الرافضين لعلوم الدنيا، عجزوا عن اكتشاف إعجاز القرآن التربوي مع أنه معجزة تربوية ﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(الإسراء:9) بالدرجة الأولى، ويسعى للتغيير الداخلي للنفس من أجل تغيير الواقع الخارجي، لأن تغيير ما بالخارج مشروط بتغيير ما بالداخل. وجدير بالذكر أن أول ما يجب معرفته عن شعب حديث اليقظة الذي لا تزال آثار النوم الطويل بادية عليه هو: هل بيده أسباب تقدمه الذاتي الداخلي؟ إننا نجد في القرآن الكريم النصّ المبدئي للتاريخ التكويني: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد:11). وينبغي أن لا نقرر هذا المبدأ حسب إيماننا به فقط، بل يجب أن يكون تقريره في ضوء التاريخ كما يقول مالك بن نبي في كتابه “شروط النهضة”. وعلينا -هنا- أن نتأكد من شرطين -بطريقة داخلية وإيمانية قوية- أولهما: هل المبدأ القرآني سليم في تأثيره التاريخي؟ ثانيهما: هل يمكن للشعوب الإسلامية تطبيق هذا المبدأ في حالتها الراهنة؟ وفيما يتعلق بالنقطة الأولى، يؤكد لنا “مالك بن نبي” أن الحضارة بمعناها الصحيح الخالد، لا تنبعث -كما هو ملاحظ- إلا بالعقيدة الدينية، وينبغي أن نبحث في كل حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها. فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شرعة ومنهاجًا، أو هي -على الأقل- تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام، فكأنما قدّر الله على الإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية، هذا بالنسبة لصحة المبدأ القرآني. وبالنسبة للنقطة الثانية نقول: إنه من المعلوم أن جزيرة العرب -مثلاً- لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة، يذهب وقته هباءً لا ينتفع به، لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة؛ “الإنسان” و”التراب” و”الوقت” راكدة خاملة. حتى إذا ما تجلّت الروح بغار حراء، نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدّسة حضارة جديدة، فكأنما ولدتها كلمة ﴿اقْرَأْ﴾ التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه العالم. فمن تلك اللحظة (لحظة اقرأ) وثبت القبائل العربية على مسرح التاريخ، حيث ظلت قرونًا طوالاً تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى المدنية والرقي. لقد عجز المسلمون عن أن يستنبطوا من القرآن نظرية اجتماعية أو حسب تعبير “ابن خلدون”؛ علم العمران، وهو علم يضم علمي “الاجتماع” و”فلسفة التاريخ”، وحتى عندما جاء “ابن خلدون” وقدم تأصيلاً لعدد كبير من علوم الدنيا في مستوى الأنفس والآفاق، عجز المسلمون عن الاستفادة من “ابن خلدون” كما عجزوا في عصور التخلف عن الاستفادة المرجوة من الكتاب والسنة. مع أنهما يمثلان المرجعية الأساسية لنظرية المعرفة الإسلامية التي تمنحنا مفاتيح العلوم، وتمنحنا منهج البحث العلمي القائم على الوحي والنصوص الدينية، والعقل، والتجربة، أو بديهيات العقل السليم والحس السليم، فضلاً عن اللغة من حيث دلالتها الظاهرة المتعارف عليها، أي -بإيجاز- الاكتساب بالاختبار، والنقل بالتواتر.
ومشت عملية إحياء علوم الدين في تاريخنا عوراء أو عرجاء على هذا النحو… فلا هي اكتشفت في القرآن ما يتصل بعلوم الدنيا على النحو الذي يسمونه الآن “الإعجاز العلمي في القرآن” وبالتالي انطلقت بالمفاتيح القرآنية تكتشف الكون وعلومه وقوانينه، ولا هي بذلت جهدًا محترمًا في اكتشاف علوم الكون وقوانينه، ثم ذهبت بعد ذلك تتعامل مع القرآن ومفاتيحه من خلال علوم الكون التي اكتشفتها، بحيث تكتشف النسبة بين علوم الكون المنظور وعلوم القرآن المسطور. وقد تكتشف ما هو أهم وهو التطابق والتكامل بينهما، ومساعدة الوحي للعقل، وتفصيل العقل لمجمل الوحي وتطبيق دلالاته وتوجيهاته. كلا.. إن كل ذلك لم يقع إلا بنسبة ضئيلة تألّقت في عدد من الرموز الكبيرة في عصر تألقنا وازدهارنا الفكري، بينما بهتت واختفت في عصور ضعفنا العقلي والحضاري.
وانظر إلى حالنا في يوم الناس هذا… أين الفقيه والمفسر وعالم “العقيدة” الذي يلم بقدر مقبول من علوم الكون مثل الفيزياء والكيمياء والفلك وغيرها؟ إن هذا الفقيه الموسوعي الثقافة يكاد يكون نادرًا ندرة الكبريت الأحمر، وقد تجد بعض جوانبه موجودة بدرجة ما في عدد محدود، من أمثال الشيخ محمد الغزالي والشيخ الشعراوي وبديع الزمان سعيد النورسي وفتح الله كولن والطاهر بن عاشور “في التحرير والتنوير” وسيد قطب في “الظلال”.
ابن حزم الأندلسي، الملمّ بعلوم الدين والدنيا
تأمل معي في الموضوعات التي عالجها الفقيه الظاهري أبو محمد علي بن سعيد بن حزم (ت 456هـ) صاحب كتاب “المحلى” بأجزائه الكثيرة في الفقه المقارن، وكتاب “الإحكام في أصول الأحكام” في أصول الفقه بأجزائه الخمسة. هذا الفقيه الظاهري، عالج -مع ذلك- قضايا “مقارنة الأديان”، واعتبر من مؤسسي هذا العلم من خلال كتابه “الفصل في الملل والأهواء والنحل”، وعالمًا في المنطق في كتابه “التقريب لحد المنطق”، وعالمًا في التاريخ في كتبه “جوامع السيرة” و”حجة الوداع”، ورسالته في “أمهات الخلفاء” و”المفاضلة بين الصحابة”، وكتابه “فضائل الأندلس وأهلها” و”نقط العروس”، وعالمًا في علم الأنساب في كتابه “جمهرة أنساب العرب” وهو من أصعب العلوم. وقد قدم مع كل ذلك وغيره نظريات أثّرت في تاريخ الحضارة الإسلامية والإنسانية، فقدم نظرية في الحب العذري الذي يسمونه “الأفلاطوني” زورًا وبهتانًا، وذلك من خلال كتابه “طوق الحمامة” وهو الكتاب الذي يقول عنه المؤرخ في الأدب الأندلسي أستاذنا الكبير الطاهر مكي: “إنه أروع كتاب درس الحب في العصر الوسيط في الشرق والغرب في العالمين الإسلامي والمسيحي”، وقدم من خلال كتابيه “التقريب” و”الفصل” نظرية في المعرفة مازجًا فيها بين ما يعرفه الإنسان ببديهة الفطرة وأوليات العقل، وما يعرفه الإنسان بالحواس السليمة عن طريق الاكتساب.
وقدم ابن حزم أيضًا نظرية في كتابه “الفصل” تحت عنوان “مطلب بيان كروية الأرض” وفيه يقول: إن أحدًا من أئمة المسلمين لم ينكروا تكوير الأرض، وقد جاء القرآن بتكويرها في قوله تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾(الزمر:5)، وهذا إثبات لكروية الأرض بالدليل النقلي، أما بالدليل العقلي فيبني ابن حزم ذلك على ما أثر من ربط الصلاة بزوال الشمس، أي انتقالها من جهة إلى جهة. ومن ثم يبسط نظريته من خلال دراسة في أكثر من عشر صفحات. ومما يضاف إلى هذه المجالات الإبداعية التي قدمها ابن حزم للحضارة الإنسانية، رفضه النظرية التقليدية السائدة لدى المتكلمين والفلاسفة في العصور الوسطى، وهي نظرية “الجزء الذي لا يتجزأ”. فإن ابن حزم قد جاهر بأنه: “ليس في العالم جزء لا يتجزأ، وأن كل جزء انقسم الجزء إليه فهو جسم أيضًا وإن دق أبدًا”. وهي النظرية النسبية التي أظهرها “ألبرت آينشتاين” مخترع الذرة في عصرنا الحديث.
ابن خلدون آثاره العلمية الشاملة
ونكتفي من هذا النموذج الذي قدمه فكر ابن حزم “الظاهري” بهذا القدر، ونقدم نموذجًا آخر يتمثل في الفقيه المالكي “عبد الرحمن بن خلدون” صاحب “المقدمة”. لقد عالج هذا الفقيه من خلال المقدمة موضوعات مثل: فن التاريخ، علم العمران وما يعرض فيه، علم الجغرافيا وتفاصيل الأقاليم في أقاليمها، وأثر الهواء في أخلاق البشر، وطبيعة أهل البدو وأهل الحضر، ونظرية العصبيّة، وتأثّر المغلوب بالغالب، وطبيعة العرب وحاجتهم دائمًا للدعوة الدينية، وأحكام الخلافة والإمامة، والدواوين كديوان الرسائل والكتابة والشرطة، وغيرها… والسكة “العملة” والحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها، ومبادئ الخراب -أو الدمار- في الأمصار، والمعاش ووجوهه من الكسب والصنائع، وأمهات الصنائع مثل صناعة البناء والنجارة والحياكة والوراقة، وعلوم تعبير الرؤيا وعلم العدد والحساب والجبر والمقابلة والعلوم الهندسية، وعلم الطبيعيات والفلاحة والطلسمات وصناعة النجوم، وعلوم اللسان العربي، وغيرها.
وهكذا أحيا علماؤنا “وفقهاؤنا” علوم الدين والدنيا معًا، ومزجوا بينهما مزجًا كاملاً، ولم يروا أي تناقض، بل رأوا ضرورة إحياء الدنيا بعلوم الدين، وإحياء الدين وتفعيله من خلال علوم الدنيا. وما عرفوا أسلوب الكنيسة في إهمال علوم الدنيا ومحاربة أهلها بدعوى الاكتفاء برؤية الكنيسة للحياة والعالم من خلال الكتاب المقدس. وفي مساجدنا كانت علوم الدين والدنيا تدّرس جنبًا إلى جنب، وينظر إليها على أنها متكاملة، وأنها كلها عبادة، بل كان الطالب ينتقل -في المسجد الواحد- من مجلس أو “عمود” أستاذ الفقه إلى أستاذ اللغة، وإلى أستاذ الكيمياء والعلوم الطبيعية.
إن تكوين الفقيه والداعية من خلال “علوم الدين” بطريقة كمية انعزالية لم يعد كافيًا في عصر التحديات العلمية الهائلة، ولا طريق أمامنا إلا بناء داعية جديد يجمع بين فقه علوم الدين وفقه علوم الدنيا مع قدرته على قيادة الواقع بالوحي والفكر معًا. إننا لا نملك سلاحًا ولا قوة سياسية أو اقتصادية نواجه بها تحديات العولمة، وليس أمامنا إلا قوة الفكر والقيم حين نحسن فقه ديننا ونحسن عرضه، فهذه القوة هي التي نستطيع بها أن نقدم الإسلام وحضارته للعالم، لا سيما وهو في حالة ضعف مشين في مجال القوة العقدية والقيمية والفكرية والروحية. إنه وصل إلى القاع وهو يعيش عالم “الأشياء” -لا غير- أي المادة، أما نحن فلدينا -مع جهودنا في عالم الأشياء- منظومة فكرية وقيمية وروحية.