من زوايا ثلاث، يعالج كل من الكاتب الروماني “كونستانتان جيوروجيو” في رواية “الساعة الخامسة والعشرون”، ورجل القانون الفرنسي “مارسيل بوازار” في “إنسانية الإسلام”، والنورسي في “رسائل النور”، إشكالية المفارقة المحزنة بين الإنسان والتقدم. ولطالما تساءل المتسائلون: أما كان يتحتم على التقدم العلمي والمعرفي أن يكون في خدمة الإنسان كائنًا متفردًا أنيطت به مسؤولية كبرى، وأن يسير جنبًا إلى جنب مع مطالب هذا الكائن المتميز المسؤول، ويستجيب لأشواقه وحاجاته كافة… بمعنى ألاّ يقتصر على تلبية مطالب الحس، بل أن يغطي كل ما يهمّ الإنسان في هذا العالم من أجل أن يحيا حياة متوازنة، متوحدة، آمنة وسعيدة؟ ما الذي حدث لكي يمضي التقدم أبعد من هذا، فيلحق بالإنسان والحياة البشرية المزيد من المنغصات والمتاعب، ويجرّدها شيئًا فشيئًا من عمقها الحقيقي، ويضع بينها وبين أهدافها المشروعة الحواجز والأسلاك الشائكة؟
“جيوروجيو” و”بوازار” و”النورسي” يقفون طويلاً عند هذه الظاهرة غير المبرّرة، فيسلطون الأضواء عليها، ويقترحون سبلاً للخروج من الورطة. أحدهم برؤية أديب، والآخر برؤية قانوني دولي، والثالث برؤية مفكر موسوعي يملك رؤية طائر (View of Bird) يضع العالم كله تحت المنظور. ولسوف نجد كيف يلتقي هؤلاء الثلاثة في نقاط الارتكاز الأساسية للمفارقة، وفي العديد من الحلول والمرئيات. إنها أزمة تضيّق الخناق على الإنسان، بينما كان المفروض أن يحدث العكس، فلماذا؟ ومن ثم غدت قضية جل فلاسفة العالم المعاصرين وحكمائه ومفكريه وكتابه وأدبائه. ولن يتسع المجال في بحث محدد كهذا، أن يلاحق معطيات هؤلاء جميعًا، ولذا سيتم الاكتفاء بثلاثة فحسب وهذا يكفي، لأن ما قدّموه يضع يده على الجرح، ويقدم جانبًا من أسباب العلاج.
كونستانتان جيوروجيو
في رواية الكاتب الروماني “كونستانتان جيوروجيو”: “الساعة الخامسة والعشرون”، تبدو أزمة الحضارة الغربية واضحة للعيان، إن مآسيها تعرض علينا كما لو كنا نشهد مسرحية حاضرة: الإنسان الذي سلبت حريته وأدخل في دوّامة من آلية قاسية أحالته إلى “رقيق” وأفقدته حريته وإرادته الذاتية، “المواطنون” الذين ملأوا الشوارع ودور الحكومة والمؤسسات في جماعية سحقت كل ما هو فردي، وتشابهية دمرت كل إمكانية للتنوع والإبداع، وتعميمية محقت كل اتجاه شخصي، ومادية ردمت كل منابع الحب والإيمان في وجدان الإنسان. النظم الصارمة التي أوجدت جحرًا خانقًا بات لا يصلح للتنفس… الصراع من أجل تأكيد أكثر للآلية، واستعباد أشد للإنسان، وتحطيم أعنف للقيم، وتجفيف لا يرحم لمنابع الوجدان… كل منكم سيصرخ بعد مشاهدة منظرين أو ثلاثة من مسرحية الحضارة المعاصرة هذه: “الآن لست أريد متابعة النظر، لأنني تعبت ولأن المشهد طال أكثر من المعتاد، إنني -إذا استمريت على المشاهدة- فسوف لا أرى إلا الأنقاض. سأرى مدنًا متهدمة، ورجالاً متهدمين، وبلدانًا وكنائس وآمالاً كلها متهدمة محطمة”.
صحيح أن “جيوروجيو” يعالج في روايته هذه، مأساة الإنسان الغربي في النظم الشمولية، أممية كانت أم قومية شوفينية، إلا أنه -وكما سنرى- لا يغفل عن إدانة النظم الرأسمالية بما تنطوي عليه من آلية وذرائعية ساقت الإنسان هي الأخرى إلى التعاسة والعذاب.
إن جانبًا من الأدب الغربي اليوم -وبخاصة الرواية والمسرحية- يشكل أهمية كبرى في أية دراسة جادة للحضارة الغربية المعاصرة، لأنه يعكس -بصدق فني مدهش- الأزمة التي تعانيها هذه الحضارة في جناحيها الجماعي والفردي، والضغوط القاسية التي تسلطها على الإنسان فتمزقه وتسحقه. إن ردود الفعل التي يجابه بها الإنسان الغربي المعاصر حضارته المتأزمة هذه، تبدو واضحة للعيان عبر عدد كبير من الروايات والمسرحيات التي كتبها أدباء وفنانون كبار أدركوا جوانب عميقة من الأزمة، وكلهم بلغ درجاتها الدنيا، وجاس في سراديبها وكهوفها، وما أن وصل بعدها الأخير حتى غطاه الظل وأغرقه الظلام. فهل ننتظر نحن منه أن يجد لنا مصدر الضوء، ويدلنا على طريق الخروج؟ إن ما تقدمه لنا هذه الآداب والفنون يقتصر على الخطوة الأولى: تحديد ملامح المأساة، أما الخطوة التالية التي ترسم لنا طريق الخلاص، فما ينتظر من هؤلاء أن يتقدموا إليها، لأنهم ليسوا “على شريعة من الأمر”، وهي خطوة نلقي مسؤوليتها العظمى على أعناق أولئك الذين حملوا أمانة “الكتاب”.
لماذا “الساعة الخامسة والعشرون”؟ “جيوروجيو” يجيبنا على هذا السؤال: “إن الجو بات لا يصلح للتنفس… إن الجو بات خانقًا… الجو الذي يعيش فيه المجتمع الحاضر… إن الكائن البشري لن يستطيع احتماله… إن البيروقراطية والجيش والحكومة والتنظيم الحكومي والإدارة، كل هذه الأشياء تساهم في تسميم الجو ليخنق الإنسان… إن المجتمع الحاضر يستخدم الآلات والرقيق العنصري… لقد خلق من أجلها… ولكن الإنسان محكوم عليه بالاختناق غير أن بني الإنسان لا يشعرون بذلك… لقد وضعت في روايتي الطريقة التي يموت بها رجال هذه الأرض الذين يحيون في عذاب مريع وقلق قاتل، تخنقهم الأجواء غير الصالحة للحياة”.
إن التقدم التقني الذي أحرزته الحضارة الغربية، لم توجهه قيم الدين يومًا، بل إنه انطلق أساسًا وأخذ طريقه يوم أعلن العلم انتصاره على الدين -أو هكذا يتوهمون- فلا تعجب -إذن- إذا ما تضاءل الإنسان يومًا بعد يوم إزاء هذا التضخم الآلي، لأنه فقد الإيمان بكرامته، وغض بصره عن التطلع إلى قيم علوية وسجد للآلة. ولأوّل مرة يقدم كاتب غربي تحليلاً رائعًا يتميز بالجدة والحيوية لهذه العلاقة غير المتكافئة بين الإنسان والآلة.
الحضارة الآلية
إن سيطرة الآلية على الحضارة الغربية قوّض قيمًا قديمة وأوجد أخرى، سحق مكتسبات قرون طويلة من القيم الخلقية والاجتماعية والنفسية والروحية، وأحلّ محلها قيمًا منتزعة من روح الآلة الصمّاء وعلاقاتها الرتيبة وتجريدها الميّت. وها نحن نجد هذا التقابل المحزن بين نوعين من القيم في الحضارة المعاصرة: الجماعية ضد الفردية، التشابه ضد التنوع، التعميم ضد التخصيص، المادية ضد الروحية، الرمزية ضد الشخصانية، القدر ضد الحرية، التجريد ضد الحياة، التكرار ضد التطوّر الخلاّق، الموضوعية ضد الذاتية، والظاهر ضد الباطن… “إن ظهور العصر التقني، قد حطم كل ما ربحناه وأقمناه خلال قرون من الحضارة، لقد أدخل العصر التقني من جديد احتقار الكائن الإنساني، لقد تحول الإنسان اليوم إلى مقياسه الاجتماعي فحسب”.
والفردية والتنوع هما جزء أصيل من قدر الله وخطته المعجزة لتكوين الحياة وتحريكها وتطويرها الأبدي الخلاّق، لذا فإن ما تشهده الحقبة الحاضرة من التاريخ، يمثل انحرافًا كبيرًا عن نواميس الكون والبشرية. “إن البشر بهذا الشكل يخطئ خطيئات خطيرة ويعتبر مذنبًا حيال الله؛ إننا نعمل بكل قوانا ضد خيرنا الخاص وضد الله سبحانه على الأخص، وذلك هو آخر منحدر بلغت إليه الكتلة البشرية. وفي يوم من الأيام سوف ينقرض هذا المجتمع كما انقرضت مجتمعات كثيرة خلال حقبات التاريخ”. إن اعتماد الغرب على الأساليب الرياضية والمنطقية والإحصائية في توجيه الحياة وتطويرها، لن يحقق إلا كمالاً ظاهريًّا، ولكن هذا سيكون على حساب الحياة الباطنية، الحياة في مجاريها الحقيقية العميقة التي تصنع الحضارة وتوجّه التاريخ وتسير بالبشرية إلى الأمام. إن ردم هذه المنابع الباطنية سوف يقضي على سرّ التطور الذي وهبه الله للإنسان، ومن ثم فإن هذا الكمال الاجتماعي السطحي سوف يمتد أفقيًّا فحسب، ويفقد -بالتدريج- قدرته على الامتداد العمودي صوب البعد الثالث في الإنسان. وهذا يعني أنه تطوّر مأسور بقيود الزمن، وأن المستقبل سوف يشهد تحطمًا مريعًا لمجتمع يركن إلى القيم الجماعية الظاهرة في تماسكه… “إن حياة الإنسان لن يكون لها وجود في اللحظة التي تنقلب فيها إلى الجماعية والآلية، وإلى قوانين تتعلق بالآلة. إن هذه القوانين لا يمكن مطلقًا أن تعطي لونًا لحياة البشرية”.
الحضارة المعاصرة
والحضارة المعاصرة بعد هذا، لا تمتلك عناصر البقاء، إنها فضلاً عن ماديتها الطاغية، وآليتها الرتيبة، وقياسها التجريدي الميّت، وفضلاً عن إتاحتها المجال لظهور أبشع وأقسى طبقتين في التاريخ: الرقيق التقني والمواطنون، سيطرتا على مقدرات الإنسان وعرضتا وجوده للاختناق، وفضلاً عن اتفاق الغرب والشرق على تحطيم قيم الإنسان ومثله، وسحق وجدانه وردم منابع عاطفته ووحيه وإلهامه، فضلاً عن هذا وذاك، فهي حضارة التكاثر الذي يحيل الحياة إلى لهاث دائم وتفتيش لا نهائي عن الذهب… “سوف تنتزعون الحياة غدًا بحثًا عن الذهب تحتها، ثم تنتزعون العضلات عن العظام بحثًا عن الذهب، وبعدئذ تحطمون العظام لتنظروا ما إذا لم يكن فيها شيء من الذهب، وأخيرًا تضغطون على أدمغة الرجال، وتفتشون في أمعائهم، وتمزقونهم إربًا بحثًا عن الذهب، ستحطمون القلوب وتجزؤونها بحثًا عن الذهب… الذهب الذهب! إننا اليوم في البداية: إنكم لا زلتم تبحثون فوق الجلد، لكن الجلد سينزع والتفتيش سيستمر”.
الحضارة التي ولغ فيها الإنسان في الدماء حتى غدا شيطانًا مريدًا: “له وجه إنسان ولكنه ليس إنسانًا. إنه آلة، إنه الشيطان، إنه يشبه الإنسان بكليته باستثناء الروح. لقد ولغ الآخرون جميعًا في الدم، وهم الآن كالعفاريت… إنهم ليسوا بشرًا… لم يبق بين كل هؤلاء رجلاً واحدًا يمكن أن يكون إنسانًا”.
هل ثمة من أمل؟ الغربيون عندما يصلون إلى هذه النقطة يحلمون، وتمتد رؤاهم إلى مستقبل يخرج فيه الإنسان من المأزق. كيف يتم ذلك، وفي أي طريق؟ إنهم هم أنفسهم لا يعرفون. وهذا أمر طبيعي لأي إنسان لا يتلقى عن الله. كثيرون هم أصحاب الأحلام، وكثيرون هم أولئك الذين رسموا لنا أحلامهم في “يوتوبيات” وعوالم مثالية لم يتح لأي منها أن يجد طريقه إلى التحقّق… من عهد أوغسطين -حيث فقدت المسيحية روحها وقطع الإنسان صلته الحقيقية بالله- وإلى عهد كاتبنا الروماني هذا، عبر أحلام “سافونا رولا”، و”توماس مور” والاشتراكيين الطوبائيين، و”نيتشه” و”اشبنغلر” و”توينبي” وغيرهم كثيرون. ذلك أن المصدور لا يشفي المرضى، والأعمى لا يهب النور للمتخبطين في الظلمات… إن هنالك طريقًا واحدًا للخلاص، ذلك الذي جاء الأنبياء عليهم السلام ليمهدوه للبشرية، وجاء الرسول ليضع معالمه الأخيرة، ذلك هو طريق التلقي عن الله والإسلام المطلق لألوهيته وحاكميته. هذا إذا كنا نريد خلاصًا حقيقيًّا، وإلا فستظل الأحلام تخدرنا عن الرؤية الحقيقية، وتقعد بنا عن بذل الجهد والتشمير للكفاح. وثمة سؤال ملح يفرض نفسه هنا، وهو أن الحضارة الغربية المعاصرة تمثل قمة ما أحرزته البشرية من تقدم علمي وتقني، فهل يعني نقد هذه الحضارة رغبة سلبية في التخلّي عن هذه المكتسبات؟
المكتسبات الحضارية
إن سؤالاً كهذا لا مبرر له على الإطلاق. أولاً لأن هذه المكتسبات هي حصيلة تاريخ طويل من الكد والجهد المضني أسهمت فيه كل الأمم والحضارات وهو ليس حكرًا على المجتمع الغربي. ثانيًا أن هذه المكتسبات العلمية والتقنية هي في حد ذاتها حيادية الطابع، إذ لا عقل لها ولا إرادة ولا روح لكي تتحكم في مصير البشرية، وإنما الذي يعطيها التوجه صوب هذا الطريق أو ذاك، هو عقل الإنسان وإرادته ورؤيته للكون والحياة والإنسان، بمعنى آخر؛ إن الفلسفة التي تصدر عنها الحضارة المعاصرة، هي السبب في هذه الوجهة المدمرة التي تتجه إليها القوة الصناعية في العالم. ثالثًا لأن الإسلام يجعل الحرص على التقدم، واستغلال قوى الطبيعة، واحتضان المكتسبات العلمية، واجبًا محتمًا على المسلمين دولاً وجماعات ومؤسسات وأفرادًا، ولكنه لا يسمح أبدًا بأن يستعلي (شيء) في الأرض -غير الله سبحانه- على الإنسان الذي كرمه خالقه وحمله في البر والبحر، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً. ومن ثم تبدو مأساة الحضارة المعاصرة في أنها أخضعت الإنسان للأشياء فأشعرته بالدونية، واستعبدته، وكان لابد من العقاب.
مارسيل بوازار
إن ما يعانيه الإنسان في البيئات التي رفضت الإيمان، أو عزلته عن مجرى الحياة الواقعة من تعاسة وازدواج وتمزق وشقاء نفسي وروحي وعاطفي واجتماعي رغم ارتفاع منحنيات الإنجاز المادي، أمرٌ ملحوظ ينطق به واقع الحال هناك، وتؤكده شهادات المفكرين وإعلامهم الذي يمكن للمرء أن يلتقي به صباح مساء في عصر المعلوماتية والتواصل السريع.
ثم إن هذا النشاط العلمي المنشق عن مطالب الإيمان، اندفع باتجاه إغراءات القوة والتسلّط، ونداء الأنانيات العرقية والدولية والمذهبية، ومضى أبعد من هذا باتجاه كل ما هو لا أخلاقي في السلوك البشري، لكي يحول المنجزات والكشوف العلمية إلى سلاح يشهر بوجه الإنسان وليس لصالح الإنسان. إن إنتاج القنابل الذرية والهيدروجينية والنيوترونية، والأسلحة الكيمياوية والجرثومية… إلخ، واستعمالها في اللحظات الصعبة، ليؤشر بشكل واضح على الكارثة التي يمكن أن يساق إليها الإنسان والبشرية إذا أتيح للعلم أن يظل على جموحه، على خروجه عن مطالب الإيمان العليا، على عدم انضباطه بالقيم والموازين الإلهية العادلة التي تجعل القوة والحكمة -دومًا- في كفتي ميزان.
المعرفة المؤقتة
هذا إلى أن المعرفة المؤمنة -على خلاف المعرفة اللادينية أو الملحدة- تسعى لأن تمنح أكلها للناس كافة، لا تحكمها أنانية الحفاظ على السرّ، وحجب الاكتشاف -بدافع براغماتي- عن الآخرين. إن الإنسان، مطلق إنسان، هو المستفيد في نهاية الأمر من المعرفة المؤمنة، وبالمقابل فإن عشرات من الأمم والشعوب لم تحرم بالمعرفة اللادينية من حقها المشروع في الإفادة من ثمار هذه المعرفة فحسب، وإنما وجهت نتائجها وكشوفها إلى أسلحة فتاكة لتدمير هذه المجتمعات واستعبادها والهيمنة على مقدراتها. والباحثون الغربيون أنفسهم انتبهوا إلى هذا، وقدموا شهاداتهم بهذا الخصوص، والتي تجيء كاعتراف حرّ مدعم بالقناعات العقلية، وموثق بالرؤية المقارنة لما يتضمنه الإسلام من قيم وخصائص متميزة وفعالة، يمكن أن تمارس دورها في صياغة حاضر الإنسان ومستقبله، وأن تردم الفجوة في مفارقة العلم والتقدم.
إن هذا الدين كما يقول “مارسيل بوازار” رجل القانون الفرنسي المعاصر: “يعود إلى الظهور في العالم المعاصر بوصفه أحد الحلول للمشكلات التي يطرحها مصير الإنسان والمجتمع”، ولطالما أعرب عن اقتناعه “بأن في وسع العالم الإسلامي -من بين عوالم أخرى- أن يقدم مشاركة أساسية في تكوين المجتمع الدولي المرتقب”، وأنه “يبدو أحد العوامل الممكنة الهامة في الإنسانية العالمية الحديثة… وهو مستمر في البحث عن الأشكال الكفيلة بالتعبير بصورة ملائمة عن تطلعاته”، والمسلمون -كما يؤكد الرجل- “لا يشكون على الإطلاق في أن التعاليم المنزلة والقيم المتراكمة عبر العصور، كفيلة بتقديم حل لمعضلات العالم المعاصر”.
ولم يفت “بوازار” أن يشير إلى أن التقدم العلمي المادي لا يكفي وحده ما لم تضبطه القيم الخلقية فتوجهه بالتالي لصالح الإنسان. ومن خلال هذه الرؤية الأخلاقية للنشاط المعرفي المادي، يمكن للإسلام “أن يؤدي دورًا حقيقيًّا في تنظيم العالم المعاصر عندما يتقدم إليه بمفهومه السامي للقيم الخلقية”. وأهمية المشاركة الإسلامية تبدو أيضًا في نظر “بوازار” في التوازن الذي يمنحه الإسلام، بما أنه تعبير عن روح ديني لمسيرة المجتمع البشري، بين التقدم المادي (التقني) وبين المطامح الروحية والإنسانية عامة… لا سيما وأن “الانخراط في المجتمع التكنولوجي، والمواجهة بين الإسلام والثورة التقنية، لا تدفع المسلم إلى إنكار موقفه الديني، بل إلى تعميقه أمام العالم وأمام الله، متوجبًا عليه محاولة إدراك الإمكانيات بشكل أفضل في إطار إسلامي شامل”.
إن “بوازار” يضع يده ها هنا على واحدة من أهم خصائص المنظور الإسلامي للنشاط الحضاري، إنها معادلة التوازن الملحّ والمطلوب بين الديني والدنيوي، بين السماء والأرض، وبين الروح والجسد. فليس ثمة إيمان متحقق في واقع الحياة إن لم يعبّر عن نفسه في إطار نشاط تتداخل فيه وتتوحد وتتناغم سائر الثنائيات. فالمواجهة بين الإسلام والثورة التقنية بالتالي، ليست مواجهة أضداد متقابلة، بل هي مقاربة واحتواء وتوظيف للقدرات والإمكانات التقنية من أجل تكوين حياة إسلامية أكثر أصالة وتقدمًا. إن القناعة الدينية كما يستنتج “بوازار”: “تفرض نفسها حكمًا مطلقًا على كل المستويات، ولا يمكن بدونها، أو بالحري على النقيض منها، مواجهة أي تغيير اجتماعي ولا أي تجديد مادي”.
وهذا الارتباط المحتوم بين الدين والتكنولوجيا في المنظور الإسلامي، لا يعني البتة أن الحضارة الإسلامية ستقود “تطورها داخل إنبيق” وبمعزل عن العالم، بل على العكس تمامًا، فإن هذه الحضارة “المتسامحة والمنفتحة بشكل طبيعي، تتطلع إلى العمل بصفة شريك فعال في الحياة الدولية”. ويكفي أن نتذكر الجنوح المادي الذي تعانيه حضارة الغرب، يكفي أن نفكر في احتمالاته المنذرة بالخطر، المتوعدة لأماني الإنسانية وللإنسان ذاته، لكي نعرف أن دخول الإسلام إلى الساحة وإعادته الأمر إلى نصابه بتحقيق التوازن المطلوب، ليس مجرد مشاركة فعالة، وإنما هو عملية إنقاذ للوضع البشري المنحرف عن الصراط.
وإذ يؤكد “بوازار” ما يقدمه القرآن الكريم في هذا السياق من “ثقة مطمئنة، وحافز قوي في وقت معًا”، فإنه يحذّر من “أن إسلام المستقبل ودوره في العلاقات الدولية” لا تجيء به الأماني والأحلام، وإنما هو “رهن بما يصنعه المسلمون أنفسهم”. و”بوازار” يشير إلى احتمال قيام نهضة مستقبلية في عالم الإسلام تستمد مقوماتها “من طابع الرسالة الإسلامية الإجمالي وأثره الحاسم في وجدان المسلمين”، ولكنه مرة أخرى لا ينسى أن يشير إلى أن نهضة كهذه، قد تتضمن اليسر والعسر “في آن معًا”، ويعتبر هذه المسألة “بديهية” يتحتم أن “يدركها المسلمون تمام الإدراك”.
و”بوازار” محق في هذا، لأنه ينظر إلى المسألة من جانبيها، فلا يسدّ الطريق أمام احتمالات المستقبل، ولا يمنّي المسلمين بحلم سهل تصير فيه المعجزة أمرًا مشهودًا وهم قاعدون. إنما لا ينسى “بوازار” أن يعيد تأكيده المرة تلو المرة، على أن نهضة كهذه تظل مشروطة ببعدها الديني، ذلك “أن الإسلام الراشد يرفض فصل الروحي عن الزمني”. وبالتالي فإن أية محاولة لبناء نهضة على أساس لاديني سيؤول إلى الفشل، لأنه لا يعدو أن يكون تزييفًا على السطح، عملاً مصطنعًا لا يحاول أن يمدّ جذوره في الأرض فيسهل اقتلاعه… بينما يظل الإسلام وحده “بدايناميته كفيل بإقامة مجتمعات جديدة”. وما يزيد إسلامية الصياغة المستقبلية للنهضة المنشودة تأكيدًا، أن المسلمين -كما يلحظ “بوازار”- “يعون الاضطراب النفساني الذي تعانيه الحضارة الصناعية والمادية، ويثقون في الإمكانات الاقتصادية المستقبلية للدول الإسلامية”، ولذا يجدون أنفسهم في الطريق “للحصول على ضمانة ذاتية تسهل لهم اكتشاف أشكال سياسية واقتصادية أصيلة متوافقة مع روح التنزيل بشأن الجماعة، ويكون تطبيقها بالتالي أيسر على صعيد الممارسة العملية”.
معضلات المجتمع المعاصر
والمسلمون -كما يؤكد “بوازار”- “لا يشكون على الإطلاق في أن التعاليم المنزلة والقيم المتراكمة عبر العصور كفيلة بتقديم حل لمعضلات المجتمع المعاصر بإعادة بناء مؤسسات الإسلام السياسية وإنعاش أصالته الخلاقة. ويبدو أن “الإسلام” يشكل أفضل الوسائل الممكنة لإعادة بناء مجتمع ما بعد الاستعمار، وتلك هي دعوته الروحية والسياسية والدولية الحقيقية”. يواصل “بوازار” تحليله فيشير إلى “أن الإسلام دين حي وداينامي يحاول إيجاد مجلى لقوته الداخلية للاشتراك في الحياة الدولية المعاصرة، وفي مساهمته أن تكون جوهرية، لا لأنه يملك فقط تجربة عمرها أربعة عشر قرنًا في العلاقات بين الشعوب، بل لأنه ينقل -كذلك- رؤية أخلاقية للغاية من القانون الدولي، معتبرًا أن الإنسان في التحليل الأخير، رعية من رعايا النظام وهدف أخير من أهدافه”. ويؤكد “بوازار” أن ليس ثمة أمام الدول الإسلامية “أي خيار بديل لبناء مستقبلها” وأن ليس على المفكرين المسلمين أن يعدّوا بناءً “أيديولوجيًّا”، فهذا أمرٌ حاصل، إنما عليهم “أن يخلصوا الإسلام من ثقل التقاليد المتراكمة فيعود كما كان في البدء: تحرير العقل وثورة الفكر الحرّ وتوطيد الإنسان”.
العودة إلى النبع ذلك هو المطلوب، دون إنكار -بطبيعة الحال- للخبرات “التاريخية” العقدية والفقهية الأصيلة التي تشرح وتوضّح وتلاحق المتغيرات، وهذه -بالتأكيد- ليست “التقاليد المتراكمة” التي يعنيها “بوازار”. والمهم أن العودة إلى النبع هي القاعدة والمنطلق، فهناك في كتاب الله وسنة رسوله يمكن أن نجد الإجابة على كل سؤال، والتخطيط لكل ما هو كائن وما يمكن أن يكون على مستوى الروح أو المادة، السماء والأرض، الدين والسياسة معًا. “إن الإسلام المعاصر، بطموحه ودايناميته، في حالة استعادة كاملة لدعوته، دينًا منفتحًا يفرض قيمًا جوهرية دائمة. وها هو ذا الإسلام الديني يمتد ويشع، والإسلام السياسي يترسّخ ويتوطد”.
يمضي “بوازار” لكي يؤكد النزوع التجاوزي للإسلام الذي لا يقف أو يسكن عندما هو كائن، بل يمضي نحو الأحسن والأعلى صوب ما يجب أن يكون. إن الإسلام -كما يلحظ الرجل- يخلق “مثالية حقيقية لأنه خضوع لنظام استعلائي”. وعندما يورد “بوازار” كلمة “حقيقية” مضافة إلى المثالية الإسلامية فإنه يعني ما يقول على وجه التحديد، فإن مثاليات شتى حلم بها مئات الوضعيين وأتباع الأديان المحرّفين فلم تتحقق ولم تصنع شيئًا، لأنها في الواقع لم تكن “حقيقية”. ها هنا حيث “الداينامية” التي “يولدها” المناخ الديني في الإسلام، وحيث النزوع الدائم إلى فوق، وحيث “التعبير عن المجتمع ليس تبعًا لما هو عليه، وإنما لما يريد أن يكون”، كفيلة بأن تقرّب المثال أو تقترب منه، فتجعل من معطياته متحققة في العالم، متجذرة في الأرض.
ويلجأ “بوازار” إلى الخبرة التاريخية لكي يؤكد، بل يشدّد “على صلاحية الإسلام للزمن الراهن ولكل زمن آتٍ بطبيعة الحال… فإن وراء هذه الخبرة وتلك الصلاحية قناعة دينية تحمل “ديمومتها” التي تتجاوز نسبيات الزمن والمكان”. وما يلبث “بوازار” أن يلخص الأمر كله بهذه الكلمات: “لسوف يستعيد الإسلام مصيره دون ريب إذا حكمنا عليه من خلال القدرة الخارقة التي أثبتها تاريخيًّا على التكيّف والانبعاث”.
(*) كلية الآداب، جامعة الموصل / العراق.