في معاني الكلمات الربانية تغرق الروح في بحار من نور، تسافر إلى علويتها متجردة من كل ما يشدها إلى هوى الدنيا وأهوائها.
لحظة صفاء واحدة تغرق فيها العيون الخاشعة بالدموع التي بكاها القلب حبًّا وخشية وإجلالاً لقدرة الله وعظمته، ولذلك استحقت أن تكون واحدة من العينين اللتين لا تمسهما النار، واستحق صاحبها أن يكرمه الله تعالى ويجعله واحدًا من السبعة الذين “يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله” في قول حبيب الله عليه الصلاة والسلام: “ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه” (رواه البخاري).
ليست العيون وحدها هي التي تفيض بالدموع… تفيض القلوب من خشية الله حتى تعانق عنان السماء حبًّا لله وشوقًا إليه وخشية منه وخجلاً من كل ما مضى من الدنيا وإن لم يكن من الكبائر. فالمؤمن يرى أصغر ذنوبه كجبل يوشك أن يسقط عليه.
حين تتوجع الروح طالبة مغفرة الله ورحمته الواسعة، تفيض الدموع بحارًا لا يحدها إلا رحمة من الله تنزل لتستقر في القلب وتشعره بالأمان.
لماذا يغفل الإنسان عن هذا الدواء الروحي والجسدي الكبير الذي يشفي كل العلل ويجعله في اتصال مباشر مع رب السماوات والأرض وخالق الداء والدواء؟ لماذا تأخذه قسوة نفسه ليصنع حصارًا لدموعه؟ وكيف لا تسيل الدموع وهي تقرأ بخشوع كبير: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾(يوسف:90) وكأن الحياة كلها تدور بين تقوى وصبر… وكيف لا ينفطر القلب لكل الحنان وكل الرحمة التي تحملها كلمات الرحمن التي نزلت في أشد لحظات الكرب باعثة الأمان وهي تقول:
﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا﴾(مريم:25-26).
حين تبكي العيون، تتشافى القلوب وتطهر الأرواح وتتحرر النفوس من قيود الحسد والرياء والكره والنفاق والغرور… ولا يبقى فيها غير الحب الكبير للخالق العظيم الذي منه ينشق كل حب لكل ما سواه، ويصير كل ما سواه طريقًا للوصول إلى رضاه.
حين تبكي العيون، تتشافى الأبدان من أسقامها… فكم حدثت من غرائب في شفاء للأمراض بالدموع الصادقة الخالصة، لأن صفاء الروح عند البكاء يمنح الجسد قوة عظمى لشفاء المرض، ولأن كلمات الله النورانية وعظمتها أكبر من الداء وإن استفحل.
حين تبكي عيون المؤمن بكاءً صادقًا خاشعًا لله محبًّا معترفًا بذنوبه؛ يحبه الله، وحين يحبه الله يصير هو سمعه الذي يسمع به فلا تخون الأذن أبدًا، وعينه التي يرى بها فلا تخون العين أبدًا، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها… وحين ذاك يصير المؤمن خيرًا يمشي على الأرض… وعندها يهديه الله نعمتين لا يهديهما إلا لمن أحب، لئن سأله ليعطينه ولئن استعاذ به ليعيذنه.
اللهم إنا نسألك قلبًا خاشعًا وعينًا لك باكية خالصة لوجهك الكريم صفاءً ونقاءً وشفاءً… واقبلها منا برحمتك وجودك يا أكرم الأكرمين.