يتشكَّل “الزمن” في منظومة الأستاذ “فتح الله كولن” تشكّلاً شموليًّا، متجاوِزًا، لا يحدُّه تخصُّص واحدٌ ولا علمٌ واحد، ولا يتوقف على ثقافةٍ فريدة ولا حضارة محدودة؛ فهو يقفز من “الأزل” إلى “الأبد”، و”يتجاوز الزمن” ليرسم ملاحم “خارج الزمن”، ثم إنه مع ذلك يلامس خطَّ “الواقع”، ويصنع “الحدث” و”التغيير”؛ في سمفونية بديعة لطالما رسم حروفها بروحه وعقله ومهجته، وأسعد بها الملايين عبر العالم، لا يبغي من أحد جزاءً ولا شكورًا.
فالذي “يتجاوز الزمن” ويتصل بسبب بما “فوق الزمان”، هو الله تعالى الذي “لا يمكن حصره بزمان أو مكان”، فهو -تعالى- خالقهما والقاهر فوقهما ومُجري “نهر الزمن”، وهو الباسط -جل جلاله- لـ”سفوح المكان”، بقدرته اللامتناهية التي لا يحدُّها حدٌّ ولا يقيِّدها قيد، وهو -سبحانه- إذا أراد شيئًا أن يقول له “كن”، “فيكون”. ونتيجة لذلك يكون كلام الله تعالى، أي القرآنُ الكريم، وما سبقه من كتبٍ منزَّلة على أنبيائه البررة -قبل أن تحرَّف- تكون كلُّها متجاوزة على كل قيد، ولا يستثنى من ذلك قيد الزمان.
روح القرآن
ومن ثم فإن “روح القرآن لا يحدُّه زمان ولا يبلَى”، بل إن الزمن يبلى ويبلِي كلَّ مخلوق، لكنَّ ذات الزمن “كلما شاخ وتقدّم في العمر ونضج وتكامل وقرب من أشراط الساعة ومن “آخر الزمان” كلما لمعت حقائق القرآن كالنجوم اللامعة في كبد السماء”. ولا يملك الباحث عن الحقيقة، الصادقُ، الصدوقُ، إلا أن يقرِّر أن “القرآن معجزة كبيرة وشاملة وغنية تتجاوز كل الأزمنة والأمكنة”.
وإننا عندما نمعن النظر في “العناصر التي يستعملها القرآن، نراها غير مختصة بزمن معلوم أو مكان معلوم”، وعندما نتتبع الحوادث التي يرويها نجدها “تتكرر على مرّ الزمن”. ومن حكمة الله تعالى أن القرآن لا يعلو فوق الزمن لمفرده مثلما يفعل البشر الأنانيون، وإنما كلُّ من ارتبط به من الخلائق لحقته أبديته الغامسة جذورها في بحر الخلود: فروحُ القدس جبريلُ ، والرسول الأكرم محمدٌ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وكلُّ من فارت روحه بنور من الله، يحملُه كلام الله تعالى الدائم بين ثنايا سفينة الزمن، فيسكب اللانهاية على وجوده ليكتسب صفة الدوام والتجاوز والتعالي…
وإن “القرآن ليخترق بنا آماد الزمان والمكان حتى لنكاد نشعر بأمواج الأبدية وهي تضرب شواطئ أرواحنا” فتفيض الأرواح معانيًا لا تستوعبها السموات ولا الأرضون، وإنما فقط يستوعبها قلب المؤمن، بأمرٍ من الله تعالى الذي أودعها في فلك من أفلاك الأزلية والأبدية، بخاصية ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾(الكهف:109).
الحقيقة الأحمدية
ولا نبالغ إذ نقول: إن الحقيقة الأحمدية في فكر “فتح الله” هي السرُّ والمفتاح للفهم والعلم والعمل، ولقد أولاها “فتحُ الله” عناية فائقةً، فمَن وعاها -في عرفه ومذهبه- وعى الحقيقة كلَّها، ومن تنكَّر لها غمره الباطل برمَّته.. وإن “البشارة بالرسول” الأكرم لم تُلقَ على مسامع بني البشر ابتداءً، لكنها تمت “في مستوى الكون والزمان” قبل أن يُخلق الإنسان، والرسول عليه الصلاة والسلام ليس رسولاً للعالمين بمعنى الجنّ والأنس فقط، كما يذهب إلى ذلك البعض، وإنما هو رسول لكل الخلائق من الأزل إلى الأبد بلا استثناء.
وأمَّا في سلَّم البشرية، وتاريخ النبوات، ومنطق التشريع “فقد أرسل كلُّ نبي لفترة من الزمن ولمكان معيَّن، بينما أرسل للناس كافة حتى قيام الساعة”. ورسولنا العزيز “هو الذي أعطى الزهو والفخر للزمان والمكان”، وهو “سيد الزمان والمكان، وشارح معنى الوجود، ومعنى الكون والكائنات بصوته الجهوري”، ولذا فإن “صدى أقواله المباركة التي نطق بها قبل عصور، يتجاوز المكان والزمان ويصل إلينا”، وإنا لنسمعه اللحظةَ غضًّا طريًّا، واضحًا ناصعًا، لا تشوِّش عليه ذبذبات ولا دمدمات، ولذا قال تعالى: ﴿لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ حقيقةً لا مجازًا.
ومثل هذا الرسول فقط، هو مَن يستطيع أن يحسَّ “استدارة الزمان كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض”، وهو فقط من يمكنه أن يقوم “برحلة وراء الزمان والمكان، ويرى من معجزات ربه وآياته الباهرة”، وهو فقط من يستقدم المستقبل، ويصفُ ما فيه مثل “وصفه لراحةِ يديه”، فيقول عن امرأة أبي طلحة، وعن بلال بن رباح رضي الله عنهم أجمعين: “أريتُ الجنة فرأيت امرأة أبي طلحة، ثم سمعت خشخشة أمامي، فإذا بلال”، وهو عليه شآبيب الرحمة إنما رأى وسمع ذلك لا خيالاً ولا افتراضًا، ولكنها الحقيقة حين تتجاوز الزمان ويستوي عندها الماضي والحاضر والمستقبل، فيصير “شريط الزمن”؛ “نقطةَ زمن واحدة” “ليس لها قبلُ ولا بعدُ”، ولا سابق ولا لاحق. ولا يدرك هذا المقامَ -يقينًا وعيانًا- إلا من اصطفاه ربُّ الزمان والمكان، واجتباه ربُّ اليقين والعيان.
ولقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن “تقارب الزمان والمكان، وعن تسارعهما”، “وهكذا فبوساطة كلمتين سحريتين وهما تقارب الزمان”، يشير رسول الله إلى ما سيحدُث من “تغيُّر في مفهوم الزمن عندنا”، ونحن اليوم نرى أماراتِ ذلك، ونستنتج فيزيائيًّا المظاهرَ العلمية لذلك. وقد يعترض معترض بآية: ﴿قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(الأعراف:188)؛ فنقول إن الآية حجَّة على المعترض لا له، ذلك أن حقيقة
﴿إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ﴾ تمتد إلى علم الغيب، ولا تقتصر على امتلاك النفع والضر. فرسول الله لا يعلم الغيب ابتداءً، ولا يستطيع ذلك بذاته، ولكنَّ الله تعالى يريه الغيبَ متى شاء، ويخفيه عنه إذا أراد، فهو عليه الصلاة والسلام نذيرٌ عن الله للناس، ترجمانٌ عن المطلق للنسبي، سلام من الباقي إلى الفاني.
ومِن آثار هذا التجاوز لسلطان الزمان والمكان في حق القرآن وفي حق المرسَل بالقرآن، تكون “أحكام الله تعالى الشرعية” متجاوزةً، وكذا أصولُ العقائد والأخلاق، فهي لا تبلى ولا يطالها التغيُّر والتبدُّل، ولا تتناقض ولا تخضع للأفكار والبدوات، ولا للفلسفات والسياسات… ومَن سَجَنها بين قضبان الاجتهاد البشري قتلَها، وشوَّه محيَّاها، وحُقَّ لنا أن نصنفه في قائمة الفراعنة والمجرمين الذين بسطوا الكون ظلمًا وإبادةً وتقتيلاً… والحال أنه لا يجمُل بنا أن نحاكم قاتلَ روح واحدة، ونصفِّق لجاحد المعنى، والخلود، والتجاوز، والأبدية… ألا ما أشدَّ قذارة “ظالم الزمن والمعنى”. ولذا قال عليه الصلاة والسلام: “لا تسبوا الدهر، فإن الله قال: أنا الدهرُ، الأيام والليالي لي، أجدِّدها وأبليها” (رواه الإمام أحمد).
جمالية الكون
والزمن في فكر “فتح الله كولن” يتناغم مع جمالية الكون، فيكون أحيانًا “شلاَّلاً” هادرًا، وأحيانًا أخرى “فانوسًا”، وأحيانًا “كائنًا يهرم ويشيخ” ويموت، وقبل ذلك يولد ويقوى… وقد يتحول إلى نسيج “ينسج الجهلُ عليه خيوطه” وأوهامه وأحزانه… ثم يتحول إلى “سفينة أو طائرة أو آلة نقل من أيِّ شكل كانت” ينطلق، ويتسارع، ويتوقف، ويقر في محطته…
أمَّا عن علاقة الناس بالزمن، فهي من الجمال والجلال بمكان، فمنهم من “ينحت الزمن لحسابه”، ومنهم من “ينحته الزمن طوال عمره”، وإذا ارتقى هذا الإنسان إلى مقام الصحابة “نظَّم الأزمنة التي يجب التضحية فيها بالمال والنفس تنظيمًا جيدًا”، وقد يُبتلى المرء فيحتاج إلى “الصبر” فيما “يحتاج إلى زمان ووقت”، ولا يستعجل ولا يقلق، لكنه مع ذلك لا يسوِّف ولا ييأس، فمثل هذا “الصبر” هو من “نوع صبر الدجاجة الحاضنة”… وقد يكون “الزمن” قيدًا وسببًا للمعضلات، فهنا يصف “فتح الله” دواءً وترياقًا عنوانه: “التحرر من قيود الزمان لحلِّ تلكم المعضلات”.
ومن الناس “من يقطع شريحة الزمن دون أن يقع في قبضة القبض”، فيسمو سموًّا لامتناهيًا، إذ إن الذي يحيا بحياة القلب لا بالمادة الفانية فقط، ولا بالحسابات القصيرة اليومية لا غير… مثل هذا الإنسان يصير “كيانًا فوق الزمان”، ومثل هؤلاء يتخذون “الرضا مصعدًا، يستقلونه نحو هدفهم بسرعة تفوق الزمان نفسه”، فيحققون هذا الهدف بلا حاجز مادي ولا فاصل زمني ولا سبب مباشر… فسببهم ممتد بسبب إلى ربِّ الأسباب، مباشرة بلا واسطة.
وليس لنا من فضل -في هذا المقال- إلا أننا نصفُ سبائك الذهب التي أفرغها الأستاذ “فتح الله كولن” من فكره النير، وقد استقاها من النبع الصافي؛ “القرآن الكريم”، وأخذ أبجديتها من المعلم الأكبر؛ “محمد” عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقبل ذلك وبعده أودعها راضيًا مرضيًّا “قدرَ الله تعالى”، وتمثلها من أسمائه العليا، ثم حمل الهمَّ، وتحمَّل المسؤولية، واحترق، وتألم، وبكى… حتى أنزل تلكم المعاني على خطّ الزمان والمكان، وزين بها جيد العصر والمصر، وسوَّاها عروسًا لكل صاحب قلب حي، فانتشت الدنيا، وامتد أريجها، وأورقت الأفلاك، وعم الربيع كلَّ قفر… ولم ننل بعدُ بغيتنا، ولكننا نملك بفضل الله تعالى شفاعة من سيد الزمان والمكان، فنغتنم الفرصة ولا نضيع الوقت لنقولها صريحة: “السياحة يا رسول الله”. ثم إننا نملك بحول الله عينَ الله التي لا تنام، ونعلنها مدوية “لي مع الله وقت”.