المتأمل في هذا البناء يرى بوضوح روح الفنان المسلم الذي أبدع في نحت الصخور الصماء وحولها إلى كائن حي ناطق.. هذا وقد وفِّق المعماري السلجوقي “هرّم شاه بن مغيث الأخلاطي” لأن يشيد مسجدًا يبدو على بابه في وقت معين من كل يوم “ظل إنسان يصلي وأمامه كتاب مفتوح”.
في عام 1228م أمر “أحمد شاه” أمير إمارة “منغوجاك” السلجوقية ونجل سلطان سلاجقة الأناضول سليمان شاه، ببناء مسجد يجمع في كنفه علوم الدين والدنيا معًا.. وتم تكليف المعماري “هرّم شاه الأخلاطي” لتنفيذ هذه المهمة.. فبدأ بالعمل من حساب مواقع الشمس والنجوم في السماء.. وبعد دراسة مكثفة استغرقت معه حولين كاملين، قام “هرم شاه” بتحديد المكان الذي سيقيم عليه المسجد.. ثم شيد مسجدًا أثبت من خلاله براعته في الفن وتعمقه في العلم، حيث استطاع أن يزاوج المادة بالمعنى والعلم بالدين؛ نحَتَ الحجر وصمم النقوش وفقًا لزاوية انحراف الشمس وزاوية سقوط أشعتها قبل حلول وقت العصر بنصف ساعة تقريبًا، الأمر الذي مكّنه من إظهار “ظل إنسان يصلي” على الباب الغربي للمسجد يبلغ طوله أربعة أمتار، ويبقى قائمًا حتى انقضاء صلاة العصر ثم يغيب ويختفي.
يقول أولياء شلبي: “يسكت اللسان، ولم يعد القلم يكتب، ويقف الإنسان مشدوهًا أمام تصاميم وزخارف هذا الصرح الذي خرج إلى الوجود بعد جهود جهيدة وحسابات دقيقة من قبل معماريين بارعين وفنانين ماهرين صابرين متصبرين”.
إنه مسجد ديفريغي الكبير المتربع على أعالي بلدة ديفريغي التابعة لمدينة سيواس في تركيا… المسجد الذي أدخلته منظمة اليونسكو في قائمة التراث العالمي عام 1985… إنه خير دليل على مستوى العلم والمعرفة في ذلك الزمن، وأصدق برهان على مدى اهتمام المسلمين بالعلم الذي سخروه لخدمة الإنسانية جمعاء.