لقد جاء القرآن الكريم بمظاهر شتى من الإعجاز، لتكون أدلة في الدعوة إلى سبيل الله، وحتى يتبين للعالَم أن هذا الكتاب الذي أُنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يصدر عن غير كلام الله، فكان من جملة ما حمل القوة على استنهاض العقل، للدفع بالإنسان إلى بناء فكر علمي قويم على أسس منهاج عقلاني حكيم.
فلئن كان الفكر قديمًا قد تبنى الطرح الخرافي المبني على السرد الأسطوري في استقرائه للوقائع والأحداث، فإن القرآن بنورانيته المعجزة جاء ليخرج الناس من ظلام الفكر الوهمي إلى نور اليقين العلمي. ثم إذا كان المنهاج العلمي المعتمَد حديثًا في العلوم التجريبية، يقوم على أسس الملاحظة والفرضية والتجربة لبناء الحقيقة العلمية، فإن المنهاج القرآني قد سبق إلى ذلك بقرون، حيث استوعب بإعجازه كل هذه الخطوات، بل وتجاوزَها إلى حد التوثيق الزماني والمكاني لموضوع البحث حتى يرقى بنتائجه من نسبية الحقيقة إلى إطلاق الحق.
فإذا وقفنا على قول الله تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(يونس:101)، فإننا سنجد فيه من الدقة في التعبير ما إن قوته لتستنهض العقل لسبر أغوار الكون بمنهاج علمي حكيم. فثمة فرق كبير بين قول: “انظروا السماوات والأرض” وقول: ﴿انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾؛ فالأول يدعو إلى الملاحظة فقط وهي نظرة الظاهر، وأما الثاني فإنه تضمن عبارة: ﴿مَاذَا فِي﴾ التي تفيد بالإضافة إلى الملاحظة الافتراض ثم الاختبار، أي التجربة، وهي نظرة الباطن، لأن أداة الإشارة “ذا” التي جاءت بين “ما” و”في” تدل على سر تستبطنه السماوات والأرض هو المقصود بالإشارة والمطلوب من النظر الذي جاءت به العبارة.
وهذا السر إنما هو نور المكوِّن الذي تعكسه كل المكوَّنات في السماوات والأرض، والذي إن وجهتنا إليه الآية بهذه العبارة فلأجل تحريك عقولنا؛ حتى تتفتَّح الأفهام وتشرق على القلوب بأنوار التفكر والإمعان. فإذا تم ذلك انقلبت تلك الدلالات الكونية في حق المكوِّن مدلولات، وأشرقت أنوارها على القلب معارف وتجليات دالة لك عليه لا على أثره، لأنه ما غاب سبحانه حتى يُستدل بأثره عليه، ولكنه الدليل الحق على كل شيء نظرْتَ إليه.
العلم مَشاع بين الناس والتزود منه حق، إلا أن المسلمين منذ فجر الإسلام اعتبروه واجبًا، لأنه ضرورة في فهم حقيقة الدين: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ﴾(محمد:19)، ووسيلة للدعوة إلى الله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾(النحل:125). ولا غرابة في هذه الحقيقة، لأن العلم كان دأب كل الرسالات السماوية منذ آدم عليه السلام الذي قال في حقه ربُّه عز وجل: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ﴾(البقرة:31)، إلى إبراهيم عليه السلام الذي كانت دعوته إلى التوحيد من منطلق علمي: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾(الأنعام:75)، إلى خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي جمعت رسالته كل علوم الأنبياء السابقين.
ولعل في الآية التي جعلناها مدخل الباب السابق والتي ختمت بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(الزمر:10)، ما يسلط الضوء على تفاصيل هذه الحقيقة. فأولوا الألباب هم الذين وصفهم الحق تبارك وتعالى في قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾(آل عمران:190). إذن، هم الذين ينطلقون من هذه المراجع الكونية التي أحكمت آياتها في السماوات والأرض، يبتغون ببصيرتهم استجلاء تلك الأسرار الكامنة خلف المكونات الدالة على عظمة المكون ودقة إحكامه لعالم الأكوان. فهؤلاء إذن، هم المتفكرون الذين فتح الله بصائرهم على أسرار الكون ليسترشدوا بها على وحدانية المكون، فكانوا لا يفصلون الفكر عن الذكر كما وصفهم الله تعالى في بقية الآية بقوله: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(آل عمران:191).
فهؤلاء كان تفكرهم ذكرًا وذكرهم تفكرًا، لأنهم ما استعملوا عقولهم في استظهار الحقائق، ولا استدلوا بوهج الأنوار المشرقة في قلوبهم على بواطن الخلائق، إلا من خلال استحضارهم لمصدر النور الساري فيها وهو الله عز وجل الذي لولا نوره ما ظهر حق في ظلمة الوجود كما قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله في إحدى حكمه:(1) “الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهور الحق فيه. فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار وحُجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار”.
فكانت الدعوة إلى النظر في الكون لا من أجل الكون، ولكن من أجل المكوِّن حيث قال -رحمه الله- في حكمة أخرى: “أباح لك أن تنظر ما في المكوَّنات، وما أذن لك أن تقف مع ذوات المكوَّنات ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾، وفتح لك باب الأفهام، ولم يقل انظروا السماوات لئلا يدلك على وجود الأجرام”. وفي تفسير هذه الحكمة يقول العارف بالله الشيخ أحمد بن عجيبة الحسني رحمه الله:(2) “فتح لك باب الأفهام؛ جمع “فهم”، أي فتح لك باب العلم لتدخل بها من ظاهر القشر إلى باطن اللب، حتى تعرفه في كل شيء وتفهم عنه كل شيء، ولو قال الحق تعالى: قل انظروا السماوات، لدلّك على الأجرام وسدّ لك باب الأفهام”.
وهذا منطقي، لأنه إذا قلت لك: انظر هذه العلبة، فإن نظرك سينحصر في ملاحظتها بنظرة سطحية تقع على شكلها ولونها وما إلى ذلك مما هو متعلق بنظرة الظاهر.. أما إذا قلت: انظر ما في هذه العلبة، فإن نظرك سينفذ إلى داخلها مفترضًا أن يكون فيها شيء وقد لا يكون. وهذا القول يدفع بالعقل تلقائيًّا لوضع الفرضيات.. أما إذا قلت لك: انظر ماذا في هذه العلبة، فهنا ستُركز نظرَك على شيء موجود بداخلها، لأن حرف الإشارة “ذا” يدل على أن شيئًا ما بداخل العلبة أطلبك لمعرفته، فهذا القول سيستدعيك لأن تلاحظ العلبة أولاً، ثم تضع الفرضيات حول ما يمكن أن يكون هذا الشيء الذي بداخلها ثانيًا، فإذا وصلتَ إليه انكببتَ عليه تختبره من كل الزوايا محاولاً معرفة حقيقته، وتلك هي المرحلة الأخيرة في البحث بعد الملاحظة والفرضية وهي التجربة المفضية إلى الحقيقة. وبذلك فالقول الثالث يجمع في عبارته عناصر الملاحظة والفرضية والتجربة وعليه يقوم منهاج البحث في العلوم التجريبية.
فإذا كانت الدعوة الموجهة إلينا في موضوع السماوات والأرض جاءت بمثل هذا القول الأخير فلسر تستبطنه نحن مطالبون بالكشف عنه، وهو ما يعطي للقرآن الكريم قوته الخارقة على استنهاض العقل، ويجعله مفتاح باب الفهم لمن أراد الدخول من ظاهر القشر إلى باطن اللب، وإلا ما جاء استفهامه عن مستويات أهل العلم مختومًا بقول الله تعالى:
﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(الزمر:10)، من اللب الذي هو أصل الشيء وخالصه وقلب الشيء لا قالبه.
ودعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام خير شاهد لنا على صحة هذا النهج؛ فلما جاء عليه السلام لدعوة قومه وكان أول المسلمين، ما أرسله الله تعالى وكلفه بالرسالة إلا من بعد أن كشف له سبحانه عن أسرار الكون، فكانت دعوته عليه السلام أول إعلان جاء بموجب تلك الوقائع، مقرًّا بأن العلم هو أساس اليقين، وعلى نهجها جاءت رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم متممة لكل التفاصيل، حيث كانت أول سورة نزلت في القرآن الكريم: ﴿اقْرَأْ﴾(العلق:1)، للتأكيد على مكانة العلم ودوره في ترسيخ اليقين. فكان التوجيه الرباني دعوة صريحة إلى الناس للتفكّر في ملكوت الله والتدبّر في آياته قصد الاستدلال على قدرته وبلوغ اليقين، وهي دعوة تُلزم كل مسلم بالنظر في ملكوت الله وتحثّه على البحث في مجالات الخلق وتحمّله عبء العمل به، يقول تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾(الأعراف:185)؛ والملكوت هو سلطان الله وقدرته التي لا يدركها من وقف مع ظاهر الملك، وإنما من نفذت بصيرته إلى شهود النور الباطني لعالم السماوات والأرض. فمن لم يحمّل نفسه عناء الإحاطة بحقائق هذه الأشياء والعمل بمضامينها، أورد موارد الجهل فأدخل مداخل الباطل. قال الله تبارك وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لاَ يَنْطِقُونَ﴾(النمل:84-85). وفي تفسير هذه الآية قال القرطبي رحمه الله: “أي كذبتم جاهلين غير مستدلين. وأضاف أن هذا تقريع وتوبيخ من الله، أي: ماذا كنتم تعملون حيث لم تبحثوا عن الآيات ولم تتفكروا ما فيها”.
وهنا يجب التنبيه إلى شيء مهم تبرزه صيغة الآية التي جعلت عدم العلم بالآيات معطوفًا على التكذيب بها، وذلك بواسطة واو الحال: ﴿أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا﴾، فهذا يفيد أن التكذيب بالآيات، إنما نتج عن عدم الإحاطة بها علمًا “كذبتم والحال أنكم لم تحيطوا بها علمًا”. ولهذا جاء التقريع منه سبحانه في قوله: ﴿أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ للتأكيد على أن هذا الكون بكل مكوناته الظاهرة والباطنة التي كان الإنسان يعيشها بحواسه ومداركه، إنما هو آيات ناطقة بعظمة مبدعها، وبصائر تعصم الناس من الجهل حتى لا يقعوا في التكذيب. يقول ربنا جل وعلا: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾(الأنعام:104). وقد فسر القرطبي رحمه الله البصائر بجمع بصيرة؛ وهي الحجة والبينة الظاهرة، وذكر أن “الحق سبحانه وصف الدلالة بالمجيء لتفخيم شأنها، إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره”. ثم أضاف رحمه الله أن “من لم يستدل صار بمنزلة الأعمى وعلى نفسه يعود عماه”.
ــــــــــــ
الهوامش:
(1) الحكم العطائية، لابن عطاء الله السكندري المالكي (ت709هـ)، شرح وتحليل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر المعاصر، بيروت، 2001.
(2) إبعاد الغمم عن إيقاظ الهمم في شرح الحكم، لأحمد بن عجيبة الحسني (ت1266هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، 2009.