كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول داء السرطان، وغدا محط أنظار الدارسين حول العالم، ومحورًا رئيسًا للكثير من الندوات العلمية والمؤتمرات البحثية. فأعداد المصابين بهذا الداء حول العالم في تزايد مستمر، ونسبة كبيرة من هؤلاء تخطفهم أصابع القدر، مما دعا العلماء إلى دراسة هذه الظاهرة المرَضية عن كثب، بغية كشف جانب من أسرارها التي ما زالت في عداد المجهول، وذلك في غمرة محاولتهم الحد من زحف هذا الداء بوسائل الوقاية والتشخيص الباكرين.
ما السرطان؟
السرطان (Cancer) داء معروف وهو ليس بالجديد، إذ جاء ذكره ووصفه في كتابات طبية على لسان بعض الحضارات القديمة، التي عرف عنها تطور العلوم الطبية. ويقال: إن اليونانيين هم من أطلقوا اسم “السرطان” على هذا الداء، ولعل ذلك تشبيهًا له بالحيوان البحري الذي يحمل نفس الاسم، والمعروف برسمه المتشعب وشكله المنفر والمخيف.
ولفهم حقيقة داء السرطان، يجب أن ندرك بعض الحقائق العلمية التي تخص أجسامنا التي تتكون من تجمع ملايين الخلايا الحية التي تبني أنسجة أجسامنا المختلفة… والخلية (Cell) هي الوحدة الرئيسية في بناء جسم الإنسان.
ولخلايا الجسم، عمرها الافتراضي الذي تموت بعده ليتم تعويضها بعد ذلك عبر عملية انقسامات متتالية ومحددة، وتخضع لقانون دقيق لاستبدال ما يفقده الجسم من الخلايا، إذ تنقسم كل خلية لتعطي خليتين، وينتج عن كل واحدة منهما خليتان جديدتان… وهكذا تستمر هذه العملية ضمن نظام فسيولوجي دقيق محكم: ﴿هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾(لقمان:11).
وتتوقف انقسامات الخلايا تلك في الحالات الطبيعية عند حد معين، وبالتحديد عندما يتم الفراغ من تعويض الخلايا المفقودة أو الميتة، إلا أن سبب حدوث ذلك ما برح سرًّا من أسرار الجسم… وما يزال العلماء في حيرة من أمرهم وهم يتساءلون: لماذا لا تستمر انقسامات الخلايا فوق ذلك الحد!؟
يمكننا الآن وصف السرطان بالداء الذي تنمو فيه خلايا الجسم بصورة غير منتظمة، إذ يستمر مسلسل انقسام الخلايا هنا وتكاثرها لتنشأ عنه أعداد كبيرة من الخلايا الزائدة في عددها، والشاذة في شكلها، ونتاج ذلك كلـه ظهور كتلة كبيرة من الخلايا تعرف باسم “الورم” (Tumor).
أورام حميدة وأخرى خبيثة
ثمة نوعان من الأورام؛ أولهما خبيث وهو ما يعرف بالسرطان، وآخرهما حميد. ومن الممكن أن تصيب الأورام أعضاء مختلفة في جسم الإنسان وهي أمراض غير مُـعْـدية، وقد تظهر في أية فئة عمرية، لكنها تلاحَظ أكثر لدى كبار السن.
وثمة فروقات تميز الورم الحميد عن الخبيث؛ ففي الأول يحدث نشاط زائد في نمو الخلايا الحية، إلا أن ذلك يبقى -في العادة- محدودًا، ولا يرقى فـيصل إلى ما يحدث في السرطان من نمو نشيط وانقسام غير محدود لخلايا النسيج المصاب.
كما أن خلايا الورم الحميد تبقى محصورة ضمن النسيج المصاب، أي إنها لا تنتشر لتصل إلى أنسجة أخرى، وهي في غالب الحالات محاطة بغشاء رقيق من الخلايا ليس بمقدورها أن تتجاوزه… ومن الممكن أن يصل حجم الورم الحميد إلى أحجام كبيرة، إلا أن ذلك نادر الحدوث.
أما الورم الخبيث (السرطان)، فينتج عنه خلايا كثيرة العدد وشاذة في الشكل، وبمقدوره أن ينتشر فيصيب أنسجة وأعضاء أخرى في الجسم، وليس ثمة غلاف أو غشاء يحيط به فيحد من انتشاره، وتستمر الخلايا بالنمو دون توقف أو تنظيم، وإن كان هذا الأمر نسبيًا ويختلف بين سرطان وآخر.
وقد تنجح بعض الخلايا السرطانية في الوصول إلى وعاء دموي فتغزوه، فينقلها سائل الدم إلى أجزاء مختلفة في الجسم، وقد تصل إلى الأوعية اللمفاوية فتنقلها بدورها إلى أنسجة أخرى سليمة، وهذا مما يجعل خطة العلاج صعبة نظرًا لتوسع مساحة أنسجة الجسم المصابة شيئًا فشيئًا. ومن أمثلة ما ينتشر من داء السرطان: وصول سرطان الكلى إلى العظام، وسرطان الرئة إلى المخ، وغير ذلك.
أسباب ظاهرة السرطان
رغم التطور الملاحظ في مجالات العلوم الطبية المختلفة، إلا أن العلم الحديث لم ينجح بعدُ في كشف النقاب، وسبر كل ما يخص داء السرطان من حقائق ومعلومات، إذ إن جوانب كثيرة منه ما تزال بعدُ مجهولة. وثمة الكثير من الفرضيات والنظريات التي تشير فيها أصابع الاتهام إلى أسباب ظهور السرطان في الجسم، إلا أن جانبًا من تلك المقترحات يبقى حتى الآن من دون تأكيد أو إجماع علمي.
ويعتقد بعض العلماء أن الجينات الوراثية هي المسؤولة عن حدوث اضطراب نمو الخلايا في الجسم، وتحولها إلى مسار سرطاني. ويدعم نظرية هؤلاء، ما لاحظوه من إصابة شعوب دون أخرى بأنواع سرطان خاصة؛ ففي إيرلندا واليابان -مثلاً- تكثر حالات سرطان المعدة، وهو في الوقت نفسه داء نادر الحدوث في دول أمريكا الجنوبية، كما يكثر سرطان الثدي في أمريكا الشمالية، إلا أن حالاته في دولة كاليابان قليلة جدًّا.
ويرِد اسم التدخين في رأس قائمة مسببات السرطان، وثمة إجماع على علاقته المباشرة مع ظهور عدة أنواع من هذا الداء في الجسم؛ مثل سرطان الرئة والمثانة، كما يُـذكر تعاطي الكحول أيضًا، وما له من علاقة بظهور سرطان الفم والكبد.
وللإكثار من التعرض المباشر لأشعة الشمس دور في ظهور بعض أنواع سرطان الجلد. وقد تترافق من جانب آخر المداومة على التعرض للمواد الكيماوية، مع الإصابة بسرطان الرئة نتيجة استنشاق بعض المواد الصناعية مثل مادة “أسبستوس” (Asbestos)، ومعدن “النيكل” (Nickel)، والمبيدات الحشرية، والمواد التي تدخل في صناعات الفحم ومشتقات الكربون، والأصباغ التجارية، ونواتج البترول.
أما عن علاقة الغذاء بالسرطان، فهي مثار جدل كبير، ولم يتم حتى الآن الكشف عن رابط مباشر بينهما. ومن المعلومات التي يرِد ذكرها على لسان العلماء هنا، وجود علاقة بين الإفراط في تناول بعض الأغذية والإصابة بسرطان الجهاز الهضمي. ومن الأغذية التي يحيط بها قفص الاتهام نذكر: الدهون الحيوانية، والأغذية الغنية بالسكريات، والمأكولات المعلبة، والأغذية المملحة والمدخنة والمقلية وغيرها.
وتذهب بعض الدراسات إلى وجود علاقة بين السمنة المفرطة والإصابة بالسرطان. كما تذكر دراسات أخرى، أن لزيادة نشاط بعض غدد الجسم وما تفرزه من هرمونات، تأثيرًا مسرطنًا، ومن ذلك الإصابة بسرطان الثدي وغدة البروستات.
وفي ذيل قائمة الأسباب، يرجح تأثير بعض الفيروسات في ظهور سرطانات معينة في أجسام حيوانات المختبر، إلا أن ذلك لم يثبت بعدُ في جسم الإنسان.
ما أعراض الإصابة بالسرطان؟
ثمة قائمة طويلة من أعراض إصابة الجسم بداء السرطان، وقبل أن نشرع في الحديث عنها، يجب أن نتذكر أن ظهور أعراض كتلك، لا يعني بالضرورة تأكيد الإصابة بالسرطان، ولا يستدعي -بالطبع- إصابتنا بالقلق أو الهلع؛ فقد تنتج بعض الأعراض عن أسباب أخرى غير سرطانية كالالتهابات مثلاً. ما يتوجب إذن فعله -إن ظهرتْ تلك الأعراض- هو طلب المشورة الطبية العاجلة بغية دفع الشك باليقين.
وهناك أعراض مرضية عامة يشترك في ظهورها معظم أنواع السرطان؛ ومن ذلك فقْدُ الوزن السريع، والشعور بالضعف العام والوهن، والإصابة بفقر الدم، وتظهر بالمقابل أعراض خاصة في أعضاء الجسم التي يستهدفها نمو الخلايا السرطانية.
ومن ذلك، ما يخص أعراض سرطان الجهاز الهضمي مثلاً، التي يظهر منها عُسْر البلْع والهضم، وفقْدُ الشهية، وحدوث الألم بعد الأكل، والقيء، والإسهال الذي يعقبه الإمساك، والنزيف عبر المستقيم، والمغص البطني.
وفي سرطان الجلد، قد يشكو المريض من كتلة أو قرحة مزمنة لا تستجيب للعلاج الدوائي، وقد يشكو من عدم التئام الجروح، أو تغير لون الجلد، وتساقط الشعر الشديد، والحكة المستمرة.
وقد يدل السعال المزمن الممزوج بالدم، وسماع بعض الأصوات التنفسية الشاذة (Wheezing)، وضيق النفَس، وألم الصدر، على إصابة المريض بسرطان الرئة وهو أكثر سرطان يسبب الموت في صفوف الرجال.
أما سرطانات الفم والشفة واللسان، فتظهر فيها قُرح يصعب علاجها دوائيًّا، ويتغير لون الأنسجة المصابة هنا ليميل إلى الأبيض.
ومن السرطانات التي تمس الجهاز البولي، ما يظهر في الكلى والمثانة وغدة البروستات، ومن أعراضها ظهور الدم مع البول، وصعوبة البدء بعملية التبول، وكثرة التبول أحيانًا.
ويعطي سرطان الدماغ صورة سريرية غير محددة المعالم، ويشكو المريض هنا من الصداع، والقيء، والغثيان، والدوار.
ويأتي سرطان الثدي والرحم في رأس قائمة الأورام التي تصيب النساء. وفي حال ظهور الأول، تشكو المصابة من كتلة غير مؤلمة، يصاحبها نزيف عبر حلمة الثدي، ومفرزات غير مألوفة، أما في حال إصابة الرحم، فيحدث نزيف مصحوب بمفرزات مهبلية شاذة، ويكثر ذلك في صفوف النساء بعد سن اليأس.
كيف يتم تشخيص الإصابة؟
ثمة العديد من وسائل تشخيص إصابة الجسم بداء السرطان، ومن ذلك إجراء فحص سنوي يتم خلاله الكشف على أعضاء الجسم المختلفة كالجلد، والأعضاء التناسلية، والفم، واللسان، والثدي، ويجب التشجيع على ذلك بعد سن الأربعين لدى الذكور والإناث.
وتعد الأشعة إحدى وسائل التشخيص الرخيصة والفعالة في الكشف المبكر عن بعض أنواع السرطان، ومن ذلك سرطان الثدي والرئة. كما يفيد استخدام المناظير في تشخيص سرطانات القصبات الهوائية، والجهاز الهضمي، والمثانة، والحنجرة، وهي أنابيب مرنة يتم إدخالها إلى أنسجة الجسم بغية رؤيتها مباشرة بعين الطبيب الفاحص لمعرفة حدوث أية تغيرات خلالها.
ومن وسائل التشخيص الأخرى: أخذ مسحة (Swab) مما تفرزه الأنسجة من سوائل كما هو الحال في تشخيص سرطان الرئة، والرحم، والمعدة، وتفحص تلك المفرزات مجهريًّا للكشف عن محتواها من الخلايا، وهي وسيلة هامة تكشف الورم باكرًا قبل تطوره وانتشاره.
ومن المفيد أيضًا، إجراء تحليل لسائل الدم لتشخيص بعض السرطانات، مثل سرطان الدم المعروف باللوكيميا، وبعض أورام غدة البروستات.
أما وسيلة التشخيص ذات الأهمية القصوى، فهي استخدام الخزعة (Biopsy). ويتم هنا أخذ جزء صغير من نسيج الورم وفحصه في المختبر تحت عدسة المجهر، وهي أفضل وسيلة للتفريق بين الأورام الحميدة والخبيثة، ولمعرفة درجة الورم وتطور نموه ضمن الأنسجة.
الخطة العلاجية للسرطان
يعتقد بعضهم، أنه لا علاج لداء السرطان، وهي قناعة خاطئة غيّر العلم الحديث جانبًا كبيرًا من مفرداتها. فقد تطورتْ وسائل المعالجة، وأصبح علاج الكثير من حالات السرطان متوافرًا وبخاصة إن تم تشخيصها باكرًا، وثمة عديد من تلك الطرق والوسائل.
تُعد الجراحة الخطَّ العلاجيَّ الأول في العديد من أنواع السرطان، ويتم عبرها استئصال العضو المصاب أو جزء صغير منه، وهي أكثر وسيلة علاجية فاعلة، ولا سيما إن كان التشخيص باكرًا.
ومن وسائل معالجة السرطان الأخرى استخدامُ الأدوية الكيماوية، وهي مواد تعمل في وقف نمو الخلايا السرطانية، وتحد من انتشارها في الجسم، وتـُعطى وفق جرعات خاصة في أوقات محددة بحسب نوع السرطان ومكانه وانتشاره، ومن الأورام التي تستجيب لهذا العلاج سرطان الدم، والمبيض، والرئة، والغدة الدرقية.
وللأشعة دور في إتلاف الخلايا الورمية عبر إيقاف نموها وتكاثرها… ويتم هنا تسليط أنواع خاصة منها -مثل أشعة إكس ونظائر جاما (Gamma)- مباشرة عبر الجلد، أو بزراعة مصادر تبث إشعاعاتها وفقًا لنظام خاص بجرعات محددة… ويتم تحديد مدة العلاج ونوع الأشعة المستخدمة بحسب نوع الورم.
وتستجيب بعض السرطانات للعلاج الهرموني، وتُعطى الهرمونات هنا لعلاج حالات منتقاة من أورام الثدي وغدة البروستات.
وثمة وسائل علاجية أخرى تعمل في مساعدة المصاب على تعزيز مناعة جسمه، وتخفيف الآثار الجانبية التي تخلفها الأشعة والأدوية المختلفة، كما يجب الحرص على الدعم النفْسي للمريض، ومَـده بما يلزمه من الشحنات الإيمانية، وحثه على الصبر والتسليم بقضاء الله وقدره.
وماذا عن وسائل الوقاية؟
تضع المراجع العلمية خطة وقائية عامة، تسهم إلى حد ما في الحد من إصابة الجسم بداء السرطان. ومما تحث عليه تلك التوصيات؛ الاهتمام بتناول غذاء صحي، والتخفيف من استخدام وسيلة القلي لإعداد الطعام واعتماد وسيلتَي السلق والشواء عوضًا عن ذلك، والتقليل من تناول الأغذية الدهنية والمياه الغازية، والإكثار من الأطعمة الطازجة كالخضروات والفاكهة والزيوت النباتية.
ومن النصائح الهامة أيضًا؛ التخفيف من تعريض الجسم لأشعة الشمس فترات طويلة، والامتناع التام عن التدخين وتعاطي الكحول، وعدم تعريض الجسم للمواد الكيماوية الآنفة الذكر، والمداومة على الرياضة، والابتعاد عن مصادر القلق والضغط النفسي.
أخيرًا، فإنه على الرغم من بلوغ العلوم الطبية المعاصرة شأوًا عاليًا في كشف الغموض عن جوانب كثيرة من أسرار جسم الإنسان وعلاج أمراضه، فما يزال لدى المختبرات الحديثة أشواط هائلة للوقوف على ألِف باءِ داءِ السرطان… وهذا يؤكد لنا أن ما أعطاه الله سبحانه لهذا الإنسان من أسرار العلوم، ما هو إلا نزر يسير وأنـنا ما أوتينا من العلم إلا قليلاً. وتذكَّر أيها الإنسان، أنه إذا علّمك الله ما لم تكن تعلمه، فلا يستبدن بك الغرور والتعالي، لأنك أنت نفسك دليل على الخالق الأعظم: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾(الذاريات:21).