يتساءل المرء -للمرة العشرين- إلى أين ستمضي بكتّابنا وأدبائنا ونقادنا موجةُ الأسلوب الملتوي واللغة الثالثة -إذا صح التعبير- تلك التي لا أرضًا قطعت ولا ظهرًا أبقت.
إنهم لا يملكون “اللغة” القديرة على “التوصيل”… على أن ينقلوا أفكارهم وتجربتهم وخبراتهم ومرئياتهم وإبداعهم للمتلقي، بحجمها تمامًا، بمفرداتها تمامًا، بخلجاتها تمامًا… فيلجأون إلى الإغماض والتعتيم معتقدين أنهم بذلك -وليس بعجزهم عن الأداء السليم- قد قدموا شيئًا ذا قيمة.
وبمرور الوقت يزداد التباعد بين المطالب البيانية للغة الخطاب الفكري أو الأدبي أو النقدي، وبين قدرته على التوصيل… فإذا بالمتلقي “يصدم” بعدم قدرته على إدراك هذا الذي يقوله هؤلاء المفكرون والأدباء والنقاد، ويجد نفسه أمام حزمة من الأسلاك الشائكة تفصل بينه وبين النص المكتوب! فما يكون منه -ومن جيل القراء عمومًا- إلا أن يكفوا عن قراءة الشفرات والمعميات والألغاز التي لا تكاد تقدم لهم شيئًا “واضحًا”، بل أن يكفوا عن “القراءة” على إطلاقها. وبما أن القراءة هي عصب تكوين المثقفين في العالم، فلنا أن نتصور كيف ستكون حال أمة لا تقرأ.
لو أدرك هؤلاء؟!
ولو أدرك هؤلاء الكتّاب والأدباء هذه الحقيقة، فلربما أعادوا النظر في الجهد الكبير الذي بذلوه والذي لم يأت بطائل، ما دام أنه بعيد عن القراءة الجادة معه، عصي على قارئيه، ولعادوا لكي يبدأوا رحلتهم مع الكتابة من جديد، وأمامهم هدف أساسي واحد هو مبرر “الكتابة” للآخرين؛ أن يكتبوا ما يصل إلى هؤلاء فيمنحهم الكثير.
إنهم يضعون السدود
ومن عجب أن الأسلوب الملتوي هذا أو اللغة الثالثة، تجاوز للأسف دائرة الأدب والنقد إلى أنماط الفكر البشري في سياقاته كافة، وإذا بنا نقرأ أو نستمع للكثير من المفكرين والباحثين والكتّاب وأولئك الذين يلقون بحوثهم في الندوات والمؤتمرات، فلا نكاد نعثر على ما يريدون أن يوصلوه لنا إلا بشق الأنفس، وقد لا نعثر في أحيان كثيرة على شيء.
إن أولئك وهؤلاء يدفعون القراء دفعًا إلى زاوية القرف والاشمئزاز مما يقرأونه، ويضعون السدود بين المفكر والمبدع وبين المتلقي، بدلاً من إعانته على المقاربة والالتحام.
حتى رسائل الماجستير والدكتوراه
رحم الله “أيام زمان”؛ يوم أن كان النقد عذبًا سائغًا شرابه مهما قيل عن “ذاتيته”… ولو استيقظ “العقاد” أو “طه حسين” أو “سيد قطب”، فماذا سيقولون إزاء هذا الركام الذي يتزايد يومًا بعد يوم بصيغة متواليات هندسية، ويسوقه التقليد الأعمى والعجز إلى التكاثر السرطاني الذي لا يدري المرء إلى أين سينتهي به المطاف؟!
إننا أمام منظومة من الطلاسم ضاع مفتاحها على النقاد والباحثين والقراء معًا، وهي في نهاية الأمر لا تعكس عمقًا في الرؤية، بل هو السقم في التعبير عن الأفكار، والعجز في إيصالها للآخرين، بلغة قوية رصينة قديرة على نقل أدق الخلجات وأعمق الأفكار.
ونقرأ حتى رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه التي تناقش في باحات كليات الآداب والتربية وغيرهما في مختلف جامعاتنا العربية… فنجد أنفسنا إزاء هذا “الوباء” الذي انتقل إلى أيدي الطلبة، لا تدري كيف، فأصبحوا يكتبون دون أن يكترثوا بالتعبير السليم القدير على إيصال معطياتهم بالشفافية المطلوبة إلى الآخرين.
تحذير مبكر
ومنذ ستينيات القرن الماضي، كنت قد حذرت من هذه المأساة التي بدأت يوم ذاك تطل برأسها المشؤوم، فكتبت مقالاً عن “أزمة التعبير في العراق” نشر ضمن كتاب “في النقد الإسلامي المعاصر”، الذي صدر بطبعته الخامسة الجديدة عن دار ابن كثير في دمشق وبيروت عام (2007م)، قلت في آخره: “البيان كان هدف الأولين ويجب أن يكون هدف الآخرين… أن توضح تجربتك الشعورية، أن تبعث للنور أحداث عالمك الداخلي، أن تقوم بتنسيق دقائق انعطافاتك الوجدانية واهتزازاتك النفسية، ولمحاتك الفكرية لا يقتضي أبدًا أن تغمض وأن تلح في الغموض، أو أن تلقي ظلالاً سوداء قاتمة على معطياتك لكي يقال إنك غامض وإنك عميق… معظم الأدباء الكبار في الماضي البعيد والقريب، ومن هو معاصر منهم، لم يصلوا القمة بالغموض… على العكس من ذلك، كان البيان ركيزة أعمالهم الكبرى، البيان العميق في الوقت نفسه. وكثير من الشباب الذين لا تشكل أحداثهم الداخلية وحوارهم الوجداني سوى رصيد ضئيل، تمكنوا بالخروج على قواعد اللغة والبيان وبالرصف الغريب للعبارات، من أن يرتفعوا -أو هكذا يخيل إليهم على الأقل- إلى مستوى الأدباء الحقيقيين… وكثير من الشباب الذين لم يستكملوا بعدُ الأدوات الأساسية للعمل الأدبي والفني، برزوا فجأة في أجواء العراق الثقافية ليفرضوا أنفسهم فرضًا في مجالات الأدب فيه”.
أهم الملابسات والنتائج
وأشرت في المقال المذكور إلى أهم الملابسات والنتائج التي رافقت وقادت إلى هذه المأساة:
1- إن التعقيد اللغوي والذهني يُفقد العمل الأدبي مؤثراته الوجدانية.
2- يضع العوائق والقيود في طريق الأعمال الأدبية والفنية، لأنه يصرف الكثيرين عن الرغبة في قراءة وتتبع تلك الأعمال حتى النهاية.
3- يؤدي إلى اضطرابٍ في “التكنيك” الفني للعمل الأدبي.
4- يضيع وحدة المعنى وهدفية العطاء.
5- يؤدي إلى تشابه آلي في الأساليب وعدم تميزها وتفردها.
وينتج هذا التعقيد والاضطراب عن:
أ- فوضى في الأداء اللغوي والتعبيري.
بـ- عدم التمرس على البيان.
جـ- التأثر السلبي بترجمات الأعمال الغربية، وبخاصة تلك التي نقلت إلى العربية على أيدي مترجمين لم يتمكنوا بعدُ من فن الترجمة.
د- الرغبة في ملاحقة الاتجاهات الجديدة في الغرب وبخاصة “اللامعقول” دون تفهمها.
هـ- حشر الرموز الأسطورية والتاريخية، وخلق مصطلحات فنية مستعجلة لم يصطلح عليها اللغويون.
و- إثارة الاختلال والصخب في الموسيقى الداخلية والخارجية للشعر.
بعدها، بما يزيد عن الأربعين عامًا، عدت لمعالجة الظاهرة نفسها في مقال يحمل عنوان “أبجديات حول أدب الغموض” نشر في مجلة “حراء”، وكأن لم يتغير من الأمر شيء.
دور الترجمة
وبالتأكيد، فإن صيغ الترجمة إلى العربية من اللغات الأخرى على أيدي مترجمين غير أكفاء، لها دورٌ كبير في هذه الظاهرة. فكلما ازدادت حركة الترجمة وأصبحت الكتب والمقالات والبحوث المنقولة إلى العربية بأسلوب حرفي متيبس أو انحراف -بدرجة أو أخرى- عن نبض الكتاب أو البحث المترجم تملأ المكتبات والأسواق، ازداد تأثير أسلوبها الملتوي هذا على عقول ووجدان القراء والباحثين، فراحوا يطلعون علينا بما لا يكاد يصل إلينا بسبب من عتمته والتواءاته.
أكثر من هذا، فإن الكثيرين من طلبتنا في مجال الدراسات الأدبية والنقدية، أخذوا يمارسون ما يمكن تسميته بنقل القوالب الغربية الجاهزة وتنزيلها على الأعمال الإبداعية روائية أو مسرحية أو شعرية أو قصصية، دونما أي قدر من الإضافة أو المقارنة أو التمحيص أو الرفض… فيما يذكرني برسالة ماجستير طلب مني يومًا أن أشارك في مناقشتها، وقبل أن أعطي رأيي في الموافقة أو الرفض، رحت أقلب صفحاتها التي تتناول دراسة عن الروائي المصري المعروف “عبد الحميد جودة السحار”، وكنت قد قرأت له الكثير، فإذا بي لا أكاد أعثر على أثر لهذا الروائي، وإنما وجدتني أمام تنزيل آلي رتيب للقوالب النقدية “الغربية” على معطيات هذا الرجل كادت أن تمسخه، فاعتذرت عن مناقشة رسالة يغيب فيها الباحث ويتحول إلى مجرد إنسان آلي يستنسخ ما يقوله الآخر.
وقفة جريئة وإلا فهو الضياع
إننا اليوم، حيث يزداد سرطان الغموض التعبيري وتأثيرات الأعمال المترجمة والنسخ الآلي انتشارًا، علينا التحقق بوقفة جريئة لمجابهة الحالة التي تؤذن بفيضان رهيب قد يأتي على مفاهيم التعامل مع لغتنا العربية من القواعد فيحيلها ركامًا… وما لم نتداع جميعًا لوقفة كهذه، فقد يأتي اليوم الذي ندخل فيه جميعًا دائرة الاغتراب اللغوي الذي يجعلنا نعيش في جزر متباعدة ومنعزلة، والذي إذا ما قدر له أن ينضاف إلى حلقة اغترابنا الحضاري، فإنه سيؤكد هذه الحلقة ويزيدها تجذرًا في ديارنا… وحينذاك نكون قد خسرنا كل شيء.