سيظل القرآن الكريم معجزة الله الخالدة، تحاج العقل وتتحداه إلى الأبد. فالقرآن معجزة العلم والمعرفة. ومن الإشارات القرآنية قوله تعالى: ﴿وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا﴾(نوح:17)، وفي ذلك إشارة تُلمح إلى درجة التشابه بين الإنسان والنبات وتوحد النشأة ووحدانية الخالق.
والتعبير عن نشأة الإنسان من الأرض بالإنبات، تعبير عجيب موح، وهو يكرَّر في القرآن الكريم بصور شتى كقوله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾(الأعراف:58)، وكذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾(النجم:32). والإشارة إلى نشأة الناس كنشأة النبات إشارة تستدعي التأمل، فهي توحي بالوحدة بين أصول الحياة على وجه الأرض. وإن نشأة الإنسان من الأرض، كنشأة النبات من عناصرها الأولية يتكون، ومن عناصرها الأولية يتغذى وينمو، فهو نبات من نباتها، وهبه الله هذا اللون من الحياة كما وهب النبات ذلك اللون من الحياة. فكلاهما نتاج الأرض وكلاهما يرضع من هذه الأم،(1) وبعد الموت يعود كلاهما إلى الأرض ترابًا.
أصلٌ واحد
إذا فتق الجنين البذرة وفسق عنها -عند الإنبات- مكوِّنًا جُذيرًا صغيرًا معتمدًا في غذائه على مدخر أمه البذرة، متجهًا إلى الأرض حيثُ يستطيل ويشتد عوده فيثبت فيها ويتغذى منها، شأنه في ذلك شأن الجنين في الإنسان والحيوان الذي يتغذى من أمه في بطنها ثم من لبنها حتى فصاله… وينشر الجذر شعيراته في التربة يبتغي من فضل الله من ماء وعناصر غذائية ينتقيها بعناية فائـقة فيما يعرف بـ”النفاذية الاختيارية” عافًا عما لا يحتاجه مقتصدًا فيما يرغه فيه… ثم تأخذ هذه المواد مسارها لأعلى لتصل إلى كل خلايا النبات، ضاربة أعظم الأمثلة لعظيم قدرة الله عز وجل، وضآلة قدرات الإنسان الذي يعجز عن صُنع مثل هذا مهما أُوتي من علم وتقنية.
النباتات المفترسة
لا حياة للإنسان والحيوان بدون النبات، فالمملكة الحيوانية جُبلت على التطفل على النبات، لكن هل كل النباتات -التي يقدر أعدادها بنصف مليون نوع- بهذا السمو والنبل والرفعة؟ كلا، بل إنها تضم العديد من النباتات ذات الممارسات العدائية الشرسة، مثل الإنسان! فمنها ما يهاجم شقيقة من النبات أو يعتدى على بعض الحيوانات أو الحشرات الضعيفة بأسلحتها الكيماوية؛ فالنبات أول منتِج ومستخدِم للأسلحة الكيماوية. والغريب أن تلك الأنواع المفترسة تنتج غذاءها ذاتيًّا كبني جلدتها، ولكن لديها أعضاء تحورت لتمكنها من اقتناص فرائسها التي تمدها بالنيتروجين الذي تفتقر إليه التربة التي تقطنها. ويجب ألا نترك هذا المقام دون أن نسوق أمثلةًً لنباتات مفترسة تشترك جميعها في آلية الافتراس، معتمدة في ذلك على إفرازها سائلاً حُلو المَذاق، جاذبًا للضحية برائحته الذكية، وما أن تصل الضحية إلى الشرك، يُقفل عليها الفخ وتهوى في بركة من الأحماض الكاوية والأنزيمات المحللة، فتتحلل الضحية وتُمتص وتمر في عصارة النبات، هذا برغم اختلاف الأشكال والأسماء فمنها “نبات الديونيا” (Dionaea)، و”الدروسيرا” (Drosera) و”نبات الجرة” (Nepenthes Ventrata). وإن كان الإنسان لا يخلو من الطفيلي، فعالم النبات يعُج بالمتطفلين والفُضوليين، مثل “نبات الهدَّال” (Mistletoe) أو الدبق ذي الأوراق الخضراء، التي تمكنه من صُنع غذائه بنفسه، إلا أنه يتطفل على النباتات التي يتسلق عليها، فيُولج ممصاته داخل الأنابيب حاملة الغذاء إلى أجزاء النبات، فيسلُب منه الماء والغذاء مما يُلحق به الذبول أو يقضي عليه. وهناك الهالوك المتطفل على نباتات العائلة البقولية الذي إذا تمكن منها، سبّب خسائر فادحة.
نبات يَدمع
النبات كالإنسان يُولد ويموت ويفرح ويحزن، بل قد يُصاب بصدمات عصبية! هذا ما أكدته النتائج المسجَّلة بأدق الأجهزة على نباتاتٍ وُضعت في مَركبات الفضاء، حيث عانت من الاضطراب والخوف، وما لبثت أن هبطت على الأرض حتى عاد إليها الهدوء والاطمئنان والسكينه، وانقشع عنها التوتر والقلق.(2) وعلى النقيض من ذلك فهي تتمايل راقصة منتشية فرحًا بالماء بعد العطش. وكما يُلطف العرق درجة حرارة الإنسان، فالنباتات تملك أنظمة تكييف تُلطف من حرارتها بتبخير الماء عن طريق الورقة فيما يُعرف بـ”النتح” بتقنية معجزة، حيث يُحاط الثغر بخليتين حارستين تتحكمان في فتح الثغر وإغلاقه حسب حالة الجو وحاجة النبات للماء. وقد يزيد النتح في بعض النباتات فيتجمع بخار الماء في قطرات يُخيل للناظر أنها تبكي، ويبدو هذا جليًّا واضحًا في نبات القلقاس الهندي الذي يَدمع في الليلة الواحدة حوالي (100سم مكعب)، من الماء المُحمّل بالأملاح والأحماض الأمينية وغيرها… ويتم هذا في قنوات تشبه القنوات الدمعية في الإنسان. والنبات يتنفس كالإنسان؛ فيتنفس الأكسجين، ويَنفث ثاني أكسيد الكربون على مدار حياته، ولم تُعرف هذه الحقيقة إلا في العام (1779م).
النبات معمل متحرك
للنبات ساعته البيولوجية التي تضبط إيقاع حياته من نوم ويقظة، فتنبهه بموعد شروق الشمس ليُهيئ نفسه ويشمر عن ساعده، ليقوم بتشغيل أكبر المصانع الحيوية على وجه الأرض، ليُنتج بلايين الأطنان من الغذاء فيما يعرف بـ”البناء الضوئي” حيث تُحور بروتين يسمى “D1” مهم جدًّا في عملية البناء الضوئي. وإذا اشتدت الحرارة، تُنبه النبات لإنتاج فلافونويدات التي تعمل كسرابيل تقي النبات شر هذا الحر. وقد يَخلد النبات للنوم، وأهم أجزاء النبات التي يظهر عليها النوم، هي الأزهار التي تستسلم للنوم ليلاً أو نهارًا.
وإن كان الصوت عند الإنسان وسيلة اتصال وتبادل أفكار، فالصوت عند النبات ما خُلق إلا لمُناجاة الواحد الأحد وتسبيحه ليل نهار… ففي تجربة باهرة عالية التقنية تمت في جامعة “باريس 7” بمختبر كهروفيزيولوجيا الأغشية، ثبت أن وجود بعض المذابات مثل النترات، مكّن الباحثين من ملاحظة استقطاب زائد عند الخلايا، وخاصةً عندما تمتص الخلايا النباتية أيون النترات أو الكلورور. وهذا الاستقطاب الزائد والمُتغير بتغير المذابات، يمثّل الاستقطاب العام للخلايا النباتية، ويمثل الحالة الفسيولوجية التي تكون عليها الخلايا. هذا الاستقطاب يُؤكد فرق الجهد بين داخل الخلايا والوسط الخارجي. هذه العمليات مكّنت من قياس كمي وكيفي للوسط الكهربي عند الخلايا والبروتوبلازما، وكان من الضروري ربط كشّاف الذبذبات الناتجة بمُضخم جِدُّ دقيق، لتحويل إشارات الذبذبات إلى أصوات مُتزامنة مع الجهد الكهربي المُقاس بكشاف الذبذبات.
خلاصة القول، وُجد أنه كلما زاد أيون النترات عند الخلية سُجل استقطاب زائد، وكلما انتشرت كمية زائدة لأيون النترات داخِل الخلية كلما كان الاستقطاب الزائد قويًّا، مما يُؤدي إلى ارتفاع همسات الصوت عند الخلية، مما سجَّل صوتًا يُشبه ذلك الصوت الذي يُطلقه الحوت في وسطه المائي. وكما هو معلوم أن النترات بقدر نفعها للنبات يكون جِدُّ مضر عندما تزيد الكمية المنتشرة منها بداخل الخلايا، مما يجعل الخلايا في حالة مغايرة، ويترتب عنه همسات أكبر من سابقتها،(3) وصدق الحق عندما قال: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(الإسراء:44). وكما يسجد الإنسان والنجم وسائر المخلوقات لله، يسجد النبات: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾(الرحمن:6)، وهذا ما أكدته القياسات المأخوذة على أوراق النباتات والأشجار؛ فلقد ثبت أنها تأخذ اتجاهًا مُعينًا على مدار اليوم وكأنها تأخذ وضع السجود.
معجزة التشابه
الخلية هي الوحدة التركيبية والوظيفية الأساسية للحياة، وتعتبر الخلية كائنًا حيًّا كاملاً في الكائنات “وحيدة الخلية”، بينما في الكائنات الراقية “عديدة الخلايا” فإنه يوجد تجمع لعدد هائل من الخلايا المختلفة، والتي تُنظم بكل دقة لتكون نسيجًا، والأنسجة تكون بدورها عضوًا، والأعضاء تتحد لتكون كائنًا حيًّا، سواء كان نباتًا أو حيوانًا أو إنسانًا.
وبالرغم من تعدد النواتج التخصصية والوظيفية للخلايا في الكائنات المختلفة، إلا أن الخلايا متشابهة إلى حد كبير في احتوائها على عديد من العضيوات التي تتم فيها التفاعلات الكيماوية، كذلك تتشابه في “الأغشية البلازمية” و”الأحماض النووية” (DNA&RNA)، والتي تعمل كمكونات أساسية في ميكانيكية نقل المعلومات الوراثية ونقل الصفات من جيل لآخر في الكائنات، سواء كان إنسانًا أو حيوانًا أو نباتًا. هذه الأحماض النووية جوهرية الوظيفة توجد في جزء متناهي الصغر، قطره (5-10 ميكرون)، منغمس في السائل الخلوي لكل الكائنات يسمى “النواة”.
والمعجز أن (DNA) أو “الحمض النووي الديوكسي ريبوز”، له تركيب واحد في الإنسان والكائنات الراقية (Higher Organisms) ومنها بالطبع النبات. ويتكون (DNA) من شريطين ملتفين حول بعضهما يشبها السُلّم، والذي تتكون جوانبه من جزيئات السكر والفوسفات، أما درجاته فتتكون من مجموعة من القواعد النيتروجينية؛ معنى ذلك أن كل شريط، يتكون من وحدات متكررة تسمى “النُكليوتيدات” (Nucleotides)، التي تتكون كل منها من جزيء سكر وجزيء فوسفات وقاعدة نيتروجينية. وهناك أربع قواعد نيتروجينية مختلفة وهي “الأدنين” و”الثيمين” و”السيتوزين” و”الجوانين”، وتَتابع هذه القواعد على “شريط الحمض النووي” (DNA) هو الذي يُحدد التعليمات الوراثية لخلق الكائنات الحية المختلفة.(4) وكذلك فإن اختلاف تتابعها داخل كل نوع، يخلق التباين بين أفراد النوع الواحد.
ولعل من أبرز مناط التشابه بين الإنسان والنبات، هو تركيب اليخضور في النبات واليحمور في الإنسان؛ فالهيموجلوبين الموجود في دم الإنسان والحيوان، واليخضور -وهو الصبغة الأساسيه في النبات- من أهم المركبات الحيوية التي تغذي الحياة على سطح الأرض. يتكون الهيموجلوبين من جزأين، أحدهما يحتوي على بروتين خاص وبه عنصر الكبريت، ويسمى “جلوبين”، إذ يكون متحدًا مع الجزء الآخر وهو صبغة الهيم الحمراء، ويوجد الهيموجلوبين في خلايا الدم الحمراء، وعند مروره في الشعيرات الدموية بالرئة، يحصل على الأكسجين مكونًا مركبًا جديدًا يسري في الدورة الدموية، وعندما يصل إلى أنسجة الجسم يمُدها بالأكسجين. كما يتحد مع ثاني أكسيد الكربون الموجود في هذه الأنسجة مكونًا مركبًا جديدًا يسري إلى الرئتين مرة أخرى، ليخلص الجسم من ثاني أكسيد الكربون في عملية الزفير وهكذا… أي إنه معمل متحرك داخل الجهاز الدوري بقدرة الله.
أما اليخضور، فيقوم بوظيفة تحويل الطاقة الضوئية التي يحصل عليها النبات من الشمس، إلى طاقة كيمائية مخزنة في نواتج البناء الضوئي، وبلايين الأطنان من المركبات العضوية التي تتغذى عليها الكائنات التي تعيش على سطح الأرض. وهنا يوجد معمل دقيق أيضًا، يقوم على تبادل الأكسجين وثاني أكسيد الكربون، وتتجلى هنا معجزة التشابه الكبير بين التركيب الكيمائي لكل من صبغة “الهيم” وصبغة اليخضور؛ فكلاهما عبارة عن متراكب للمركب الحلقي المعروف باسم “بروفين”، والذي يتكون من أربع حلقات البيرول -حلقة خماسية غير متجانسة تحتوي على النيتروجين في أحد أركانها- متصلة ببعضها في شكل حلقة بواسطة أربع مجموعات من الميثين، مع بعض الفروق في نوعية المتراكب تناسب وظيفة كل منهما. فالهيم عبارة عن متراكب حديدوز، إذ يتمركز أيون الحديد الثنائي وسط حلقة البورفين، أما في حالة اليخضور فنجد الماغنسيوم بدلاً من الحديد.(5)
ولعل هذا التشابه العجيب والمعجِز، هو ما دعا الكثير من العلماء للاعتقاد أن الكلوروفيل مادة بناء الهيموجلوبين لكل الأكَلة من البشر والحيوانات، حيث وُجد أن للكلوروفيل تأثيرات بنائية للدم شبيهة بتأثيرات الحديد، مما يمكنه من علاج الأنيميا الحادة. ولما كانت عصارة النبات المحتوية على الكلوروفيل، تحتوي على أكسيجين سائل، مما يسمح لنقاء الذهن ووضوح التفكير، كما أنه يعمل كمانع طبيعي للأكسدة.
وفي النهاية، إن الله وحده هو الخالق البارئ المصور، وإن الكون لم يُخلق صدفة، بل خُلق بيد مُبدعة، والكون يعج بالكثير من آيات الله… وما علينا إلا أن نتأمل ونتفكر في بديع خلق الله سبحانه وتعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) في ظلال القرآن، لسيد قطب، ج:6، دار الشروق، مصر.
(2) الله والعلم الحديث، لعبد الرزاق نوفل، ط:3، دار الناشر العربي، 1973.
(3) همسات وأصوات الخلايا النباتية، لعبد المجيد بلعابد، مجلة الإعجاز العلمي، العدد:19.
(4) هذا هو علم البيولوجيا، لإرنست ماير، ترجمة: د. عفيفي محمود عفيفي، سلسلة عالم المعرفة، العدد:277، يناير 2002.
(5) أوجه الشبه بين الإنسان والنبات، مجلة عالم الكيمياء، العدد:4، ص:56.