صياغة الإسلام للإنسان صياغة متميزة تنطلق من الأصل الكريم المفضل الذي فيه روح من الله: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾(الحجر:29)، ولذلك إذا التحم الإنسان بأصل الروح النازل من عند الله عز وجل، فَعَلَ العجب العجاب في الدنيا. روح القرآن: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾(الشورى:52)، هذه الصياغة لها أهداف كبرى تسعى لتحقيقها، تنطلق من الأصل المكرم، ثم تحول بينه وبين أن يتدنى وأن يتدسى كما قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾(التين:4-6)؛ لا يدرك هذا الانسفال المؤمنين ولا يردون إلى أسفل سافلين.
وانطلاقًا من هذا الأساس ومن أساس الخلق، يمكن حصر هذه الصياغة في ثلاث أهداف كبرى وهي:
تحرير الإنسان من عبودية غير الله
تحرير الإنسان من عبودية العباد ومن عبودية الطاغوت. ولكن الله جل جلاله أراد ألا يَعبُد هذا الإنسانُ إلا الذي خلَق هذا الإنسانَ، وبغير ذلك لن يستقيم أمره. إن تحرير الإنسان من عبودية غير الله، وتعبيده لله عز وجل وحده، هو الأساس الذي نزل به جميع ما نزل من الكتاب قبل، وجاء به جميع من جاء من الرسل قبل: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾(النحل:36)، والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله عز وجل.
هذه الصياغة الإسلامية للإنسان المكرّم جاءت لتحقق هذا الهدف الأول عبر تاريخها الطويل، من أول رسالة حتى آخر رسالة. وكل تلك الرسالات هي رسالات إسلامية، وإنما شاع الاصطلاح الأخير الذي هو الإسلام، عنوانًا للرسالة الخاتمة باعتبارها كمال الدين وتمام النعمة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(المائدة:3)، ولم يكن تمام النعمة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقط، وإنما كان على جميع الأمم السابقة واللاحقة. إن الهدف واضح في الآية الكريمة، بل جعلته أساس الخلق: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾(الذاريات:56-57)؛ خلقهم الله ليعبدوه وحده. وإن ظهر في الآية الكريمة أنها غاية، فهي في الحقيقة وسيلة أيضًا لسعادة هذا الإنسان في الدنيا:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(البقرة:21-22). فكل من التقوى والعبادة وممارسة شعائر الله تؤدي إلى الفلاح: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(لقمان:5). الفلاح في الدنيا والآخرة هو الهدف من تلك العبادة، أي إسعاد هذا الإنسان، وإلا فالله عز وجل ليس بحاجة إلى هذا الإنسان وإلى عبادته: ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾(الحج:37)، ﴿وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾(محمد:38).
هداية الإنسان
هداية الإنسان هي نتيجة حتمية للهدف الأول، إذ الهداية فيها هداية الإرشاد والدلالة وهذه سابقة، ولكن هداية التوفيق هي التي نعني، وهي التي يطلبها المؤمن كل يوم، بل أجبر على طلبها كل يوم سبعة عشر مرة: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾(الفاتحة:6-7). نزلت الرسالات من أجل هذه الهداية، ومن أجلها جاء هذا الدين، ومن أجلها نزل القرآن: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾(البقرة:185)،
﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:1-2)؛ فهو هدى للناس وللمومنين والمتقين، إنه محض هدى:
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(الإسراء:9). إن الإنسان يواجه في كل لحظة غيبًا لا يدري ما هو مقبل عليه؛ إنه في كل لحظة محاط من أمامه وخلفه وفوقه بمخلوقات لا يعرف عنها شيئًا، لذلك يحتاج إلى منهج يأخذ بيده ليعرف كيف يدبر أمر نفسه وأمر من يحيط به، ويعرف كيف يدبر أمر جميع ما استخلف عليه: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ﴾(الأنعام:122)، ومن شأن النور أن يكشف للإنسان الطريق، وإن القرآن والإسلام وهذه الرسالات كلها نور:
﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ﴾(المائدة:15)، ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾(التغابن:8). فمهمة النور أن يكشف الأشياء على حقائقها، ويسهل للإنسان أن يبصر الصراط المستقيم.
قد يعطيك الإنسان معلومات كثيرة، ولكن تنقضي تلك المعلومات؛ قد يأتيك ظرف يواجهك فيه أمر لا تجد معلومة ترشدك إلى ما ينبغي في ذلك الأمر… ولكن إذا أعطاك هذا الإنسان منهجًا للسير وطريقة للسلوك وتدبير الأمر، فإنك تستطيع مواجهة كل جديد، وتستطيع -بإذن الله- إذا تدبرت الهدى النازل من عند الله، أن تفتي نفسك والناس في النوازل الطارئة لما يعرض ولم يكن له حكم سابق، إن لم يكن ذلك ممكنًا بالنسبة للفرد، فهو ممكن بالنسبة للجماعة. وهذه الصياغة ليست للأفراد فقط، بل هي للجميع حسب الصور التطبيقية التي مرت بها؛ بالنسبة لآدم عليه السلام كانت صورة فردية، ولكن بالنسبة للأمم اللاحقة كانت صياغات للأمم نفسها. وها نحن نرى الأمة الخاتمة أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تخاطَب جملة في صورة أمة، وصيغت صياغة عامة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(آل عمران:110) بالبناء للمجهول، أي مخرجها هو الله سبحانه وتعالى. فيستطيع الإنسان بواسطة هاته النقطة المنهجية أن يواجه ما يجد، والذي يعطيك توجيهًا منهجيًّا خير من الذي يعطيك معلومات كثيرة تنقضي في ظرف معين ولا تستطيع أن تواجه ما يطرأ ويجد. فالدين -أساسًا- عبارة عن صراط، وعن طريق، وعن منهج، وعن هدى… ولذلك كان الهدف الأول من هاته الصياغة أن تحصل هاته الهداية للإنسان.
إقامة القسط
يدخل هذا الهدف ضمن الهدف الكبير الذي هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، أي إقامة القسط: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(الحديد:25)؛ قضية القسط في التصور الإسلامي أو في الصياغة الإسلامية، قضية جوهرية تظهر في الفرد وفي الجماعة وفي الأمة وفي النوع الإنساني، لأنه لم يطالب بهاته الصياغة أن يقسط إلى نفسه أو إلى أهله فقط، أو إلى المسلمين فقط، بل أُمر أن يكون قوامًا بالقسط: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾(النساء:135). فالله عز وجل أمر بالقسط: ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾(الحديد:25)، ومجتمع القسط، ودنيا القسط، وأمة القسط، هي التي أريد من القرآن أن يصوغها وقد صاغها فعلاً زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبأثر ذلك القسط الذي كان، وبأثر ذلك القسط الذي أقيم بين الناس، أمِن تحت ظله اليهودي والنصراني، والضعيف والقوي، واليتيم والعاجز والمحروم… كلٌّ وصله حقه بالعدل وبالقسطاس المستقيم.
ومن أوائل ما اهتم به هذا الدين، إكرام هؤلاء الضعاف، واعتبر أن من لم يهتم بهؤلاء الضعاف، هو متخلق بخلق الكفار وبخلق المكذبين بالدين: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(الماعون:1-3)، ﴿كَلَّا بَل لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(الفجر:17-18)… هاته الطبقات الضعيفة من الناس، حقها مكفول على وجهه الصحيح الكامل في مجتمع القسط. وفي خواتم سورة المزمل يقول الله عز وجل: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾(المزمل:20). مجتمع القسط هنا صُنف إلى أصناف ثلاثة: صنفٌ منتج يقوم بعملية الإنتاج والإدارة والتسيير بجميع أشكالها وألوانها، وهذا القسم هو الذي يغذي القسمين الآخرين ويقوم بشؤونهما؛ قسم يقاتل في سبيل الله ويحمل لواء هاته الدعوة إلى من لم تبلغه، ويبذل نفسه وماله -عن طواعية واختيار ورضى كامل- لإبلاغ دين الله عز وجل وإيصال رحمة الله إلى عباده. وقسم هم هؤلاء المرضى بجميع أنواع الأمراض المزمنة والمؤقتة، كالفقر أو آفة من الآفات… كل ذلك حقه مكفول وسط هذا المجتمع، أي مجتمع القسط. إنه لم يصغ الإنسان على القسط فقط في دائرة المسلمين، بل أريد منه وأريد له أن يقوم بالقسط مطلقًا: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾(الإسراء:105).
هذه الأهداف الثلاثة للصياغة الإسلامية، كلها تدخل ضمن هدف كبير يعبر عنه القرآن بعبارة جامعة يدخل ضمنها هذا وغير هذا، هي عبارة “إخراج الناس من الظلمات إلى النور”: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ﴾(المائدة:15-16).
في مقولة ربعي بن عامر رضي الله عنه المشهورة: “جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد”؛ فهذه ظلمة الشرك وظلمة الكفر، وهي الظلمة وهي الظلم الأكبر:
﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾(لقمان:13)، هي الظلم الظالم والظلمة الظالمة. والظلمة الثانية: “ونخرج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام”؛ وهذا هدف القسط. والواقع أنه لا يوجد دين نزل من عند الله عز وجل غير الإسلام. فلا يوجد في دين الله عز وجل جور، فالله حرم الظلم على نفسه وجعله محرمًا بين عباده: “إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا” (رواه مسلم). والظلمة الثالثة التي أشار إليها ربعي بن عامر رضي الله عنه: “ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة” حقًّا إنها ظلمة الجهل. إن الرؤية الكونية للمسلم البسيط، أعظم من رؤية أي كافر على الإطلاق: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾(النجم:29-30). فالمسلم يرى في الدنيا أفقًا رحبًا، لأنه يعلم بإيمانه بالله عز وجل أن الله يراه وإن لم يكن هو يراه، ويعلم أن هاته الدنيا إنما هي مقدمة صغيرة لعالم لا نهاية له. فهذا الأفق الكبير البعيد المدى عِلمٌ خاص لا سبيل للكافر إليه، كما أن المسلم بإيمانه بالملائكة يصير -أيضًا- عالمًا بكائنات أخرى ينضبط بإيمانه بها، ولها تأثير في سلوكه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾(ق:16-18)؛ فهو جاهز مستعد كل الاستعداد، إنه يرى ما لا يُرى، ويحس بما لا يُحَس بسبب إيمانه فقط، يرى نفسه أيضًا ممتدًّا امتدادًا تاريخيًّا، له صلة بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو خاتم للأمم السابقة… فرؤيته للتاريخ كذلك بعيدة وعميقة جدًّا، إذا وصل الناس في رؤيتهم إلى القرد، فإنه يصل إلى آدم عليه السلام، بل حتى حين كان آدم مجرد خبر وتصميم: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(البقرة:30)، فآدم عليه السلام وُجد فكرة وتصميمًا ووظيفةً قبل أن يوجد جسدًا.
إن المسلم بمحض علمه وإيمانه، يصير أوسع أفقًا وأبعد نظرًا من جميع العلماء الملحدين، لأن علم الملحد هو علم قاصر على المحسوسات، بينما علم المؤمن يتعدى ذلك ويتضمنه ويجب أن يتضمنه. وذلك الذي يحس هو العلم وهو الغيب، والغيب هو الأساس في الشهادة، فمن غاب عنه الغيب فهو الجاهل الحق: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾(الزمر:64)؛ وهذا الإخراج من الظلمات إلى النور، هو من أهداف هذه الصياغة.
وسائل الصياغة الإسلامية
أ- التلاوة والتعليم: أما وسائل هاته الصياغة فهي كثيرة في القرآن المبارك، لأن هذا الدين هو -أساسًا- في كتاب الله عز وجل، وكتاب الله ما فرط فيه من شيء، إذ تطرق لكل شيء… وكل ما في كتاب الله عز وجل هو وسيلة لصياغة الإنسان في الإسلام فردًا أو جماعة، مجتمعًا أو دولة. ولكن ننظر فقط في الوسائل التي نص عليها نصًّا حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم بهذه الصياغة، فذكر لنا من تلك الوسائل الكبرى دعوة إبراهيم عليه السلام:
﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾(البقرة:129). فالتلاوة والتعليم هي الوسيلة الأولى، لأن هذا الحق النازل من عند الله عز وجل، والذي هو بمثابة رسالة من رب الملك خالق المخلوقات إلى هذا الإنسان بالتحديد من جهة كونه خليفة، فعليه عهد وميثاق أن يسير فيما استخلف عليه وفق ميثاق الخلافة وعهد الخلافة: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾(الأعراف:172)، ثم بعد آدم: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة:38)؛ ذلك عهد الله إلى أبناء آدم، فمن صار وفق العهد وطبقه، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وذلك العهد بمثابة رسالة نزلت من عند الله على رسولٍ يبلغها إلى أبناء آدم. إذا لم نعلم مضمون الرسالة فهل يمكن أن نطبق الرسالة؟ لا يمكن، إنها لجريمة كبرى أن يحال بين الناس وبين فهم القرآن، وتلاوة القرآن ومعرفة المقصود بالقرآن، والحيلولة لا تكون بمنعهم جبرًا، فقد تكون بوسائل متعددة؛ ومنها ألا يقوم التعليم على تعليم القرآن كما كان أول مرة، فليس لدينا شيء نحرص عليه نحن الذين يراد أن يصاغوا وأن يصوغوا أيضًا… الذين صيغوا على أساس الإسلام وأريد منهم أن يصيغوا الناس كذلك، لأنها أمة أخرجت للناس، كيف يمكنهم القيام بهاته الوظيفة بدون أن يعلموا القرآن! إن القرآن هو المعلومة الأولى والأساس، قبل أي قراءة بـ”اسم الله” لا توجد قراءة أخرى، لذا يجب على هذا الأمر أن ينزل منزله، وأن يوضع في المكان اللائق به.
إذن، أول نقطة في الوسائل هي التعليم. إن الرسالة النازلة من عند الله عز وجل، إذا لم نُعَلم المقصود بها ولم نعلم الكيفية التطبيقية لها وهو تعليم الكتاب والحكمة، فسوف تبقى المهمة ناقصة؛ والحكمة كما شرحها العلماء هنا بجانب الكتاب، هي السنة وهي الكيفية التي نفذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الكتاب، أو ينبغي أن ينفذ ذلك الكتاب، كل ذلك يجب تعليمه. وهذا الكتاب بطبيعته، لا يفضي بسره إلى الذي ألقاه في خزانة رأسه، إنما يلقي بسره لمن آمن به واتبع هداه، أما الذي لم يتبع هداه فلا سبيل له إلى الاستفادة من القرآن: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾(فصلت:44)، و”ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل” (رواه الديلمي)… آمَنوا وعملوا، آمنوا بما نزل على محمد ثم عملوا كما عمل محمد صلى الله عليه وسلم. وهكذا، بمجرد أن يسلم المسلم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يقرئه القرآن ويعلمه المراد به وكيفية تنفيذ ما فيه، أي يفقهه في الدين: “مَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين” (رواه البخاري)؛ هذا التفقيه هو الوسيلة الأساس، والتعليم هو الذي على عاتقه هذا الأمر.
ومن بعد ذلك يأتي ما يسمى اليوم بـ”الإعلام” بجميع وسائله، ويسمى بـ”الوسائل العامة” من جمعيات تنشر الخير وتعلمه للناس، والصحف والتلفزيون والإذاعات والمحاضرات و الندوات… هي وسائل لتعليم وتعميم الخير. وكل الكائنات -كما جاء في الحديث- تدعو لمعلِّم الناس الخيرَ، لأن بتعليم الناس الخير يُرحم الناس. وهذا الهدى شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغيث: “مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها أرضٌ طيبة -وعند مسلم نقية- قبلت الماء، فأنبتت العشب الكثير” (رواه البخاري)، ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾(الشورى:28). بماء القرآن تنشر الرحمة في القلوب والجوارح والمعاملات وفي كل مجال، وتصل إلى بقية العالمين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107). غاية القرآن الرحمة، ونزَل رحمة، وبالرحمة نبتدئه “بسم الله الرحمن الرحيم”، فنزوله رحمة من الله الرحمن الرحيم، والقصد منه أن يرحم به الله عز وجل، ولذلك يجب الدفع في هذا المجال، مجالِ التفقيه والتعليم.
بـ- التزكية والتطهير: وهي تابعة للأولى، لأن الإنسان إذا علم، ذهب للممارسة، وعند الممارسة هناك جانب باطن لا يُرى يؤثر فيما يُرى: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب” (رواه البخاري)، واهتمام الإسلام بصلاح هذا القلب اهتمام كبير، وحرصه على أن يسلم القلب من المرض حرص كبير. ولذلك يتتبع كل المؤثرات على هذا القلب من المعاصي الخارجية؛ فيمنع العين أن تنظر إلى غير ما يرضي الله، ويمنع السمع أن يتقبل غير ما يرضي الله، ويمنع الرِّجل أن تذهب إلى غير ما يرضي الله، ويمنع اليد أن تفعل غير ما يرضي الله، ويمنع كل ما يحيط بالعبد من مال… كل ذلك يمنع ما لا يرضي الله، لأن أثره في القلب، فتنكث فيه بكل سيئة نكثة سوداء، ومن ثم يتكون الران على القلب حتى يصل الأمر إلى أن يطبع على القلب، والعكس بالعكس. فالحواس سبل للإتيان بالنور، أي بنور الحسنات إلى القلب، فيزداد القلب بياضًا حتى يصل إلى درجة لا تعود فتنة تضره بعدُ أبدًا.
الإسلام في صياغته للإنسان، يحرص على أن يسلم هذا القلب: ﴿لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ﴾(البقرة:284)، بسبب خاطر السوء تنبت النباتات، فمن القلب يبتدئ نبات السيئة ويبتدئ نبات الحسنة، ولذلك كان الجزاء والثواب العظيم على من نوى حسنة وإن لم يفعلها، تشجيعًا لهذا الإنسان على فعل الحسنات. التزكية تكون لهذا القلب أولاً، والتطهير يتجه إليه بكل المطهرات من كتاب الله عز وجل، من صيام وقيام وصدقة… ثم تكون التزكية ترشيدًا للسلوك، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلّفون بالأعمال وتصدر منهم الأقوال في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سمعه وعلى بصره فيُقرّ ما يقر وينفي ما ينفي، وإنما ذلك من أجل تزكيتهم لتنمية ذلك الأصل الخيّر؛ أصل الفطرة: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” (رواه مسلم)؛ أبواه يجعلانه محافظًا على إسلامه، لأن الإسلام هو الفطرة الأصل: ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾(الروم:30). فالتزكية هي المحافظة على ذلك الأصل وتنمية له في صورة هذا الخريج من مدرسة الإسلام، فيها جانب إرادي، وأصلها من فضل الله: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾(النور:21)، ونُسبت للبشر في قوله عز وجل: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾(الشمس:7-10). فالتزكية وسيلة من وسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي الحرص عليها، وورثة الأنبياء هم العلماء الذين للأسف يقلون يومًا عن يوم. العالم الوارث، هو العالم العامل بميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يمكن أن ينفخ روحًا في المزكى والمتعلم، وهو الذي يمكن أن يؤثر وينير، لأنه هو أولاً قد تأثر وتنور بسراج النبوة وبكتاب الله صلى الله عليه وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾(الأحزاب:45-46).
جـ- الحكم بين الناس بما أرانا الله: وهي وسيلة ثالثة عظيمة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب الله منه فعلها، وهدفٌ من الأهداف لا سبيل إلى تحقيقه بغيرها هو المشار إليه في قوله عز وجل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾(النساء:105). هذا الحكم بين الناس بما أرانا الله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هو السبيل الوحيد لإقامة القسط.
هذه الأهداف وهذه الوسائل، إذا مورست فإنها تكفل لنا خريجين من طراز خاص من مدرسة الصياغة الإسلامية… وقد أشار حديث جبريل عليه السلام إلى ثلاثة مستويات من هؤلاء الخريجين: مستوى المسلم، ومستوى المؤمن، ومستوى المحسن، والدين اشتمل على كل هذا؛ على الإسلام، وعلى الإيمان، وعلى الإحسان، وما ذكر في الحديث هو عبارة عن وسائل لإنتاج هذه النوعيات… لإنتاج المسلم نحتاج إلى ممارسة أركان الإسلام على وجهها الصحيح، ولإنتاج المؤمن نحتاج إلى ممارسة أركان الإيمان على وجهها الصحيح، ولإنتاج المحسن نحتاج إلى أن نعبد الله كأننا نراه فإن لم نكن نراه فإنه يرانا.