اكتشف الفيزيائيون حتى الآن 12 لبنة من لبنات بناء المادة، والآن بعد 50 عامًا من البحث ربما توصلوا إلى اكتشاف اللبنة التي أفلتت منهم طيلة هذه السنوات أو ما يسمى “بوزون هيغز” في ختام العام 2011م. فقد تناقلت الصحف خبر اكتشاف جسيم بعد معلومات جمعت من تجربتين، أدت إلى اكتشاف البوزون الجديد الذي صدمتني فيه تسميته بـ”الجسيم الرب”!
من هنا بدأت القصة
تبدأ قصة “جسيم هيغز” منذ العام 1964، حيث استحوذت فكرة الجسيم المفقود على عقل الشاب “بيتر هيغز” خرج منها بحيلة رياضية بسيطة وبالغة الأهمية في نفس الوقت. ومن دون حيلة “هيغز” كانت المعادلات في فيزياء الجسيمات مملة ورتيبة، تصف كونًا عامرًا بالجسيمات حصرًا من دون كتلة. ولكن من دون كتلة لا تنشأ نجوم ولا كواكب، ولا وجود للبشر في عالم كهذا. وبحيلة “هيغز” توفرت للعلماء أداة يصلحون بها معادلاتهم، وبها تمكنوا من صياغة “النموذج المعياري” للمادة، الذي يمثل النظرة الشاملة لفيزياء اليوم. وكل ما على العلماء أن يفعلوه، هو أن يثبتوا وجود جسيم “هيغز”، فأنفقوا أكثر من 3 مليارات يورو للبحث عن جسيم. لابد أن يكون في هذا الجسيم ما يستحق عناء البحث عنه والإنفاق عليه برغم أن كثيرًا من العلماء يرون أن نصف النتائج “مطبوخة”.
محاولات جسر الهوة بين العملي والنظري
تذهب النظرية إلى أن جسيمات “هيغز” تُصنع كل دقيقة، ولكن الغالبية الساحقة منها تُفقَد بلا رجعة في وابل الجسيمات المتصادمة. ولا يتحلل إلا واحد من كل ألف جسيم “هيغز” إلى “أشعة غاما” ذات طاقة عالية، ويأمل العلماء بأن تكون هذه هي اللحظات النادرة التي يرصدون فيها وجود الجسيم. ولكن عدد مثل هذه المناسبات التي مرت عليهم، صغير، بحيث لا يقتنع الفيزيائيون بأنهم على صواب. ولكنهم مع ذلك متشجعون بحقيقة أن التجربتين الرئيستين اللتين أجراهما العلماء في مختبر المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، سجلتا إشارات متماثلة. ويتفق فريقا العلماء اللذان أجريا التجربتين المنفصلتين، على أن المسألة يجب أن تُحل في عام أو عامين. عكف على تحقيق هذه المهمة الجبارة ما يزيد على العشرة آلاف عالم من مختلف الاختصاصات، وبميزانية كلية وصلت إلى 6 مليارات يورو، وضعت تحت تصرفهم من أجل إطلاق تخصص علمي ما يزال في المهد، هو فيزياء الجسيمات اللامتناهية في الصغر.
حيث تعتبر فيزياء الجزئيات بمثابة سباق المائة متر بالنسبة للعلم، فهي تجذب الأضواء وتستقطب الاهتمامات والمنافسة الشديدة، لكن تقدمها بطيء على صعيد الإنجازات والتطبيقات العملية. وهي تقوم على فيزياء النصف الأول من القرن العشرين، التي طرحت من الأسئلة النظرية أكثر مما قدمت من الإجابات الناجعة والمقنعة والمثبتة مختبريًّا، حتى أن هناك هوة عميقة صارت تفصل بين الحقلين النظري والمخبري لا يمكن جسرها. فلم يتمكن العلماء سوى التعرف على 5% فقط من المادة في الكون، ولابد من العثور على المفتاح السحري المتمثل بـ”بوزونات هيغز” وإلا سينهار الصرح العلمي للفيزياء المعاصرة… فقبل اقتحام المجهول للبحث عن النسبة المجهولة للمكون الكوني وهي 95% تقريبًا، ينبغي أولاً السيطرة التامة والكاملة على الخمسة بالمائة المتكشفة حاليًّا وشرحها وتفسيرها… أيًّا كان، تمكن العلماء من رصد “بوزن” يعادل نحو 125 ذرة هيدروجين. ومن الجهة الأخرى، لم يكن هناك دليل ملموس على اكتشاف الجسيم، بل مؤشرات إلى وجوده، لكنها مؤشرات شيقة جدًّا، كما دأب مدير المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية “رولف هوير” على القول المرة تلو الأخرى.
إشكالية معرفة أم إشكالية منهج؟
كما قال الشيخ “الشعراوي” فـ”إن قليلاً من العلم يؤدي إلى الإلحاد، كثيرًا من العلم يؤدي إلى الإيمان، قليلاً من الفلسفة يؤدي إلى الإلحاد، كثيرًا من الفلسفة يؤدي إلى الإيمان”، من هذا المنطلق فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾(الكهف:51). فعملية الخلق بأبعادها الثلاثة؛ خلق الكون، وخلق الحياة، وخلق الإنسان، هي عملية غيبية لا يمكن للإنسان أن يصل فيها بجهده منفردًا إلى تصور صحيح. والخلق هي عملية غيبية، وهدى ما أخبر به ربنا جل جلاله في القرآن العظيم، والآيات في هذا الصدد كثيرة جدًّا. وكل تصور يخلو من وحي السماء فهو تصور قاصر وباطل وغير كامل. وقضية الخلق هي قضية يحتار فيها الإنسان، ويحتاج فيها إلى هداية ربانية حتى يصل إلى تصور صحيح. وقضية خلق الكون وخلق الحياة وخلق الإنسان، هي من أكثر القضايا التي أرهقت العلماء، لذلك فالإنسان إذا انطلق في البحث في هذه القضية بدون هداية ربانية، فقد يضل ضلالاً بعيدًا.
إن الإشكالية في البحث عن جسيم “هيغز” ليست إشاكلية معرفة بقدر ما هي إشكالية منهج. فسؤال “كيف”، لا يطابق سؤال سيدنا إبراهيم عليه السلام لربه سبحانه وتعالى: ﴿أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾(البقرة:260) بقدر ما هو محاولة لمعرفة الخلق، وهذا نبأ به “ستيفن هوكنج” عندما قال بـ”أن الكون لا يحتاج إلى خالق، فسؤال الـ”كيف” هنا هو سؤال في المنهج، أي منهج البحث عن بدء الخلق، أي ما الخطوات التي نترسّمُها لنصل إلى هذه الحقيقة؟”. ولكن كيف لنا أن نتحقق من صحة المنهج وكفاءته، وأنه فعلاً أداة موثوقة لتقرير أسس المعرفة اليقينية، وقد يستتبع هذا بأسئلة عن دور العقل وطبيعته وإمكانياته في الاشتغال على هذه المحاور، أو عن حدود المطلق والنسبي في المعطيات التي تفدُ إلى العقل من الحس الخارجي، أو من باطنه كمعطيات فطرية أولية على قول وهو القول الحق. وهذا يعني وجود مطلقيات وثوابت مغروزة في الفكر، وأنها محددة وقليلة جدًّا، وأن إطلاق النسبية هو بذاته زعم مطلق، مما يعني أيضًا أن المطلق جزء من تكوين العقل البشري حتى وإن كابر.
الخطورة والانحراف
الخطورة الماثلة الآن هو أننا أصبحنا نتخذ “المنهج العملي” كقائد “معصوم” للعقل البشري، ولكن وبما أن المنهج العملي معني بالمادة والماثل والمحسوس؛ فهو إذن مقصور في إثباتاته على ذلك، ولا يصح أن يتجاوز هذا الإطار المحدد، لأنه يعتمد على أدوات بحثية، لها طبيعة معينة تفقد مصداقيتها العلمية أو جدواها إن جاوزت هذا الإطار. لاحظْ هنا أن الفكر هو من يقررُ الإطار، وهذا التحديد قبلي، يعني ليس من منتجات المنهج العلمي، ومجردُ تصورنا لذلك سيجعلنا -بديهيًّا- مدركين بأن المنهج العلمي لا يعدو أن يكون آلية معرفة في نطاق معين هو “المادة”، ولا يملك مقومات المحدد النهائي للحقائق جملة، أي أننا يمكن أن نكتشف “بوزون هيغز” ونثبت وجوده، ولكن لن يعطينا الحقيقة الكاملة عن الخلق. لذلك؛ المنهج العلمي، أحد أدوات العقل وليس مصدرًا وحيدًا للمعرفة أو الحقيقة، تأملْ… هل يستطيع المنهج العلمي أن يقرر شيئًا في مباحث القيم؟ وأظن أنك تدري ما أهمية القيم في حياة الإنسان بما هو إنسان، وكل هذا دون أن نشكك في صدقية المنهج العلمي؟