المتابع للتاريخ المكتوب، يرى أن الحضارة والنهضة لا تستقر في مكان ولا ترتبط بثقافة واحدة ولا شعب متميز. فقد بدأت الحضارة في الشرق مع الفراعنة والبابليين على مدى (5000) عام، ثم انتقلت إلى الغرب في الحضارة اليونانية والرومانية، ثم عادت إلى الشرق مع الحضارة الإسلامية، ثم انتقلت إلى أقصى غرب أوروبا مع العصر الحديث. وبالتالي فالتوقع بانتقالها إلى مكان آخر شيء منطقي، قد يكون هذا المكان هو الصين أو الهند، وقد يكون تركيا أو البرازيل، وقد يكون الصومال أو مصر… فمن يدري أين تبدأ الدورة الجديدة وإلى أين تنتهي؟
ويثور دائمًا السؤال: لماذا تقدم الآخرون وتخلف العالم الإسلامي في الثلاثمائة سنة الأخيرة؟ هل بسبب غياب القيادة والزعيم الملهم؟ بالطبع لا، فهناك العديد من مشاريع النهضة ومحاولات اللحاق بالعالم المتقدم، ولكنها فشلت. ومثال هذا؛ مشروع “محمد علي” في مصر، والذي فشل بمجرد هزيمته العسكرية أمام تحالف الغرب والدولة العثمانية. بالرغم من أن اليابان -كمشروع للنهضة- قام في نفس الفترة الزمنية مع مصر (القرن الثامن عشر)، وتعرضت إلى هزيمة عسكرية أشد مرارة وكارثية في الحرب العالمية الثانية، ولكن الفارق اليوم كبير بين مشروع مصر واليابان.
من الممكن أن نسأل السؤال بصورة مختلفة: كيف نجحت الحضارة الإسلامية؟ كيف حوّل الإسلام شعوب الشرق من التفكك والقبلية والاستعباد والاحتلال إلى العالم الأول، ومنار للعلم على مدى أكثر من ثمانية قرون؟ بل وربما نجد في هذه الفترات بعض صور الفساد السياسي أو الحروب أو التحديات والكوارث، ولكن المجتمع كان يجمعه وعي ما، وصورة ذهنية تجعله يمضي في طريقه إلى الاتجاه الصحيح برغم المعوقات والمشاكل.
الوعي الجمعي ينبع من هوية مشتركة
إذًا فيمكننا القول بأن السر في نهضة الأمم وتقدمها، هو الوعي الجمعي الذي يجمعها على هدف واحد وينبع من هوية مشتركة. هذا الوعي الذي يجمع الأمم، قد يكون سببًا في تقدمها أو تفتتها، قد يكون سببًا للنهوض أو الاستسلام، قد يكون حافزًا على التحدي ومواجهة الصعاب، وقد يكون السبب في الاستسلام أمام محنة أو هزيمة. ولصناعة الوعي الجمعي للأمم، نحتاج إلى الاتفاق على هوية ومبادئ تجمع البشر، ونحتاج إلى هدف يوحّد مسارهم. فالجغرافيا وتقارب السكن والمكان وحده، لا يكفي لعمل وعي جماعي، فمن الممكن أن تسكن قبائل متناحرة نفس المنطقة، وكل منها له هوية مختلفة وهدف مختلف.
إذا أخذنا هذا الافتراض وطبقناه على نهضة العالم الإسلامي، نجد الرسول عليه الصلاة والسلام قد وضع بدين الإسلام مجموعة من المبادئ والأخلاق التي جمعت الشرق حولها. ومع انتشار الإسلام انتشرت اللغة العربية، فكانت الهوية العربية الإسلامية جامعة لشعوب شتى، حتى لمن لا يدين بدين الإسلام ولمن لا يتحدث العربية، فأصبحت بوتقة تجمع شعوب الشرق على مبادئ مشتركة وفكر متقارب، ويدخل في صناعتها أعراق ولغات شتى من فارسي وتركي ومالايو وأردو… إلخ. وأصبح توجه الشعوب في الشرق يعضده الثقة في القدرة على صنع غد أفضل ماديًّا وروحيًّا وعقليًّا، فانتشر العلم وازدهرت الصناعة والفنون.
وإذا حاولنا تطبيق نفس الافتراض على شعوب الغرب في أوروبا وأمريكا، نجد أن حالة النهضة صاحبها الشعور بهوية مشتركة (يونانية رومانية مسيحية) تجمع الإنسان الأوروبي أمام العالم، وشعور بالقدرة والقوة، استمده في البداية من الانتصارات المتسارعة على الشعوب الأصلية لقارة أمريكا وأستراليا، وتطورت هذه الثقة مع القدرة المادية إلى عصر الاستعمار، وتطورت الثقة الشديدة والشعور بهوية متفردة إلى حالة مرضية، ظهرت في أوج حالاتها في النازية والفاشية من عنصرية واضطهاد للأجناس الأخرى.
إذًا فَلِكي ننهض؛ لا يكفي فقط أن يكون هناك دستور أو قانون أو ديمقراطية شكلية، بل يجب أن يصاحبها وعي جمعي يتجمع الناس حوله، ويتقدمها، ويحرص على تفعيل القانون وتطبيق المبادئ للوصول إلى النهضة المادية والعقلية والروحيه.
الأخلاق هي الصورة الواقعية للوعي الجمعي
هذا الوعي الجمعي في الشرق، يجب أن يتضمن هوية عربية إسلامية، ولكن هذا وحده لا يكفي، فلابد معه من أخلاقيات تحافظ على تجانس هذه الهوية، بل إن الأخلاق يجب أن تكون هي المحور الأصيل لهذا الوعي الجمعي. فالمبادئ التي تشمل، لا تقتل ولا تكذب ولا تغش ولا تسرق مبادئ تحافظ على أي كيان إنساني وتحميه من الضياع. ولكن إذا تحولت هذه المبادئ إلى إيجابية، فيصبح الحرص على الصدق والأمانة والإتقان جزء من الهوية والثقافة. فهنا يكون صناعة الهوية وليس فقط حمايتها، وهنا تتحول الهوية المجمعة والوعي الجمعي إلى شرف، وتتحول المجموعة البشرية المؤمنة بوحدة الوعي الجمعي إلى جسد واحد. وعند هذه المرحلة يصبح كل عضو في هذه الجماعة، لديه من الكرامة والترفع ما يمنعه من أن يأتي الدنية أو أن يفعل ما يعيب هويته من مفاسد الأخلاق. فيصبح الكذب عيبًا والغش إهانة، لا يرضاها على نفسه أيّ عضو في هذه الجماعة. في حين إن الجماعة المتفككة يتحول كل فرد فيها إلى الانتهازية التي تسمح له بأن يفعل أي شيء وكل شيء في سبيل مصلحة عابرة أو مكسب ضئيل. فيمكنه أن يكذب أو يسرق أو يغش أو يخون مقابل أشياء تافهة أو حتى بدون مقابل، فيتحول الكذب والغش إلى عادة ومرض لا يستطيع الشفاء منه، ويصبح خيانة الوطن ضرورة للبقاء والحصول على الرزق.
إن الاستعمار والطاغية والديكتاتور، يحرص دائمًا على هدم ثلاثة دعائم في الأمم المستضعفة كي يستمر في السيطرة عليها هي؛ الأمل والأخلاق واحترام الذات. حين يهدم هذه الدعائم يتحول البشر إلى قطيع من الحيوانات، تتصارع على الفتات وتتنافس في خدمة سيدها. وكما رأينا؛ فالوعي الجمعي الذي ينبع من هوية مشتركة تجمع الأمم على الثقة بالنفس وبالقدرة على النهضة، ومنها ينبع الأمل في غد أفضل. ويظهر هذا في الواقع في صورة احترام للنفس والمبادئ والأخلاق، وبالتالي فالأخلاق تكون الصورة الواقعية للوعي الجمعي. وقد تميز التراث الإسلامي بالحرص على استعمال الأخلاق داخل وخارج المجتمع الإسلامي، فلا تكون الأخلاق مقصورة على جنس أو عرق أو لغة أو دين، ولكن لأن منبعها هو دين الإسلام، فقد كان هناك الحرص على نبذ التفرقة والتمييز بين الشعوب، سواء في المعاملة أو الحقوق أو الواجبات، ومن باب أولى المعاملة الأخلاقية مع كل البشر.
وربما يظهر هنا السؤال عن: كيف يتنازل البعض عن الأخلاق في المجتمعات؟ هل البوليس المصري كله بدون أخلاق حين رضي بتعذيب المسجونين في عهد “حسني مبارك؟” هل الجيوش التي تقتل أهلها كلها بلا أخلاق؟ هل يمكن أن يتنازل الإنسان عن مبادئه لمجرد طاعة الأوامر؟ أم إنه شريك في الجريمة ومقتنع بما يفعل؟
أعتقد أن أفضل إجابة على هذا السؤال هي تجارب “ستانلي ميلغرام” في جامعة “يال” بـ”الولايات المتحدة” والتي نشرها في سبعينات القرن العشرين، والتي أوضحت أن الكثير من البشر لديهم الاستعداد للتنازل عن مبادئهم في سبيل طاعة الأوامر، كي يحافظ على وجوده ضمن المنظومة العامة لمجتمع ما. وهذه الصورة من التنازل عن الأخلاق في سبيل طاعة الأوامر، وفي سبيل البقاء ضمن منظومة اجتماعية معينة هو شيء خطير. والأخطر أن هؤلاء الذين يتنازلون عن أخلاقهم في سبيل إرضاء ولي الأمر دائمًا، يجدون من الحجج والأسباب ما يكفي ليجعل ضمائرهم مستريحة، وليقنعوا أنفسهم والآخرين أن ما يفعلون هو دفاع عن الحق والفضيلة.
ولكن ما نريدهم؛ هم الفئة الرائدة التي تصنع المجتمعات، ولا تنقاد وراء القطيع التي لا تتنازل عن أخلاقها من أجل طاعة الأوامر، والتي نصحنا الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: “لا تكونوا إمَّعَة تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا” (رواه الترمذي). هؤلاء هم من سيبنون العصر الجديد لنهضة الأمة الإسلامية واستعادة مجد الشرق.
كيف يتحقق الوعي الجمعي في المجتمعات؟
هذا ينقلنا بالضرورة إلى السؤال التالي وهو: كيف نحصل على هذا المجتمع صاحب الوعي الجمعي والقادر على صناعة النهضة؟ وهل نحتاج إلى إعادة تربية مليار مسلم أو (80) مليون مصري لنحصل على هذه النهضة؟ وهل لابد لنا من الربط بين الهوية الحضارية للأمة الإسلامية وبين مشروع النهضة والأخلاق؟
بالنسبة للسؤال الأول، كي نصنع هذا المجتمع؛ نحتاج إلى وضوح رؤية للهوية المجمعة التي تجمع حولها الملايين وتقنعهم بأحقيتهم في النهضة والارتفاع إلى أعلى المراكز بين الأمم. وهذا الوضوح يجب أن يكون حاضرًا في أربعة مؤسسات؛ الإعلام، التعليم، المؤسسات غير الحكومية التي تتعامل مع المجتمع (مثل الجمعيات الخيرية والأهلية والأوقاف والمؤسسات التربوية)، والحكومة الرشيدة التي ترعى المشروع ولا تحاربه ولا تعطله، بل تساعده (ونقصد بالحكومة الرشيدة؛ حكومة واعية مستقلة القرار، تتبنى مشروعًا للنهضة بعيد المدى). التناغم بين هذه المؤسسات سيساعد على تحقيق هذا الوعي الجمعي بصورة أسرع، ولكن عدم التناغم لا يعني بالضرورة فشل مشروع الوعي الجمعي، ولكنه يعني بطء تطوره. فمن الممكن أن نجد مؤسسات أهلية وإعلام تبني في اتجاه، بينما تكون حكومة غير رشيدة (سواء جاءت بالانتخاب الديمقراطي أو بالديكتاتورية) تهدم ما يتم بناؤه، ولكن الحركة المجتمعية ستلعب الدور في تحديد أي الاتجاهين سيستمر.
بالنسبة للنسبة المئوية المطلوبة لبدء عجلة التغيير في مجتمع، يحتاج لمشروع النهضة ونشر الأخلاق. فهناك نقطة التحول التي تكون عادة تتراوح بين 10 إلى 15 في المائة من المجتمع. هذه النسبة أثبتت الكثير من الأبحاث أنها كافية ومؤثرة في تحريك دفة السفينة وعجلة القيادة، فتكون القاطرة الكافية لجر باقي المجتمع ورائها. وهناك الأمثلة الكثيرة لذلك على مر العصور، وليس هناك أوضح من مثال مدرسة النبوة في دار “الأرقم ابن أبي الأرقم”، التي تربى فيها جيل الصحابة على يد النبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا سببًا في هداية الملايين وفي نشر الدعوى ونهضة الشرق.
أما بالنسبة إلى السؤال الثالث وهو: هل لابد من الربط بين الأخلاق والنهضة والهوية الإسلامية للأمة؟ فالإجابة بـ”نعم”، لأن هذه الهوية هي ما ستحرك العامل والصانع والفلاح والشرطي ورجل القانون والعالم… إلخ. هذه هي القوة الوحيدة الجامعة التي لا تحتاج إلى استيراد ولا إلى تبعية، وبالتالي فهي قوة مجمعة لعناصر الأمة وملهمة لها، وتحافظ على استقلالها وتفردها وثقتها بالنفس. ولأن قوة الهوية المتجانسة تكون دافعًا كافيًا للالتزام بالأخلاق، فلتطبيق الأخلاق لا يمكن أن تكون القوانين كافية، ولا يمكن أن يكون وراء كل مواطن شرطي يراقب أخلاقه. لابد أن يكون التصرف بأخلاق نابعًا من الاقتناع والإيمان بها، وليس هناك وسيلة لهذا أقوى من الوعي الجمعي واتحاد الهوية والهدف. هذه قاعدة مطلوبة لا استغناء عنها لنهضة أي أمة، فضلاً عن أن الهوية الإسلامية تميزت عن الهوية الأوروبية بأنها لم تعتمد العنصرية وسيلة للتأكيد على التميز. فلا نجد في هذه الهوية تأكيدًا على تفوق جنس على الآخر، أو السماح بسرقة وقتل شعوب، بينما تمنع السرقة أو القتل داخل الشعب المتفوق، كما هو الحال في الغرب من الكيل بمكيالين. فمن غير المقبول في الأعراف الأوروبية أن تسرق الحكومة مال شعبها، ولكن مقبول أن تسرق مال الأمم الفقيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية!! ولكن هذا الأسلوب غير الأخلاقي، لا يجد قبولاً في كلاسيكيات الحضارة الإسلامية… وبالتالي فمن السهل الربط بين الأخلاق والهوية الإسلامية لهذه الأمة، بل من الواجب أن يكون هذا الربط، فتصبح الأخلاق الراعي الأساسي لأي نهضة في الشرق.
فإذا أردنا النهضة الأخلاقية للشرق، فعلينا العمل على إعادة بناء المؤسسات الأربع: التعليم والإعلام والمؤسسات الأهلية والحكومة الرشيدة، ويكون المنبع هوية الحضارة الإسلامية وروحها، ويكون الاتجاه نحو نهضة الشرق، وتكون الأخلاق هي التطبيق العملي والواقعي في الحياة اليومية لكل من يعيش هذا المشروع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
(1) مقال الوعي الجمعي، للأستاذ فتح الله كولن. مجلة حراء، العدد: 25.
(2) الضمير المجتمعي، إيميل دوركايم.
(3) الانصياع للسلطة، ستانلي ميلجرام.
(4) تاريخ قصير جدًّا للعالم، جيوفري بلاني.
(5) نقطه التحول، مالكوم جلادويل.