ظهرت الدعوة إلى الأدب الإسلامي في العصر الحديث، ووقف منها المثقفون العرب والمسلمون مواقف متعددة متباينة، فمنهم من احتفى بهذا المصطلح الجديد احتفاءً جمًّا، وتحمس له غاية الحماس دون أن يكون عنده مع ذلك الحماس رؤية متكاملة تقوم على أسس واضحة وتتبنى تصورًا شاملاً لهذا المصطلح، ومنهم من رفضه بدعوى أن الأدب العربي كله -منذ البعثة النبوية وإلى اليوم- أدب إسلامي يُنتجه في معظمه مسلمون، فلا داعي إذن لهذا التمييز. ولكن طائفةً من شداة الأدب ونقاده نظرت لهذا المصطلح نظرة موضوعية هادئة، تقوم على أسس واضحة ومعايير مستقيمة، منهم ضيف حلقتنا لهذا العدد، الأديب الإسلامي الكبير الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل، ليعرّفنا كيفية تحقق الإسلامية في الأدب؟ ويزيل اللثام عن الشبهات التي ما زالت تثار حول الأدب الإسلامي.
س: هلاّ حدثتمونا في البدء عن الأدب الإسلامي، وكيفية تحققّه؟(**)
ج: ابتداءً يتحتّم التأكيد على أن أي حديث عن المضمون الفكري للأدب الإسلامي المعاصر، يجب ألا يغفل -لحظة- عن التقنيات الفنية الملتحمة بالمضمون، والحاملة لهمومه، والقديرة -وظيفيًّا- على توصيله إلى المتلقي بأكبر قدر من “التأثير”.
تلك هي مهمة الأدب على إطلاقه وعبر أجناسه كافة، وأي اختلال في التناسب بين الشكل والمضمون، سيميل بالميزان صوب المضمونية التي تضعف العمل الإبداعي، وربما تخرج به عن أن يكون أدبًا.
فإذا ما عرّفنا الأدب الإسلامي -بمفاهيمه المعاصرة- بأنه “تعبير جمالي مؤثّر بالكلمة عن التصور الإسلامي للوجود”، وجدنا أنفسنا أمام العنصرين الأساسيين للعمل الأدبي وهما “التصوّر” و”الجمال”.
هذه المسألة لا يكاد يختلف فيها اثنان في العالم كله، وإن كان بعض أدبائنا ونقادنا الإسلاميين لا يزالون يرمون بثقلهم صوب المضمونية، ويمارسون نوعًا من التهميش -بدرجة أو أخرى- للقيم الجمالية التي يتحتم أن تلتحم بالمضمون.
فإذا ما جئنا إلى المضمون الفكري، وجدنا المذاهب الأدبية كافة -فيما عدا البرناسية بطبيعة الحال- تحمل وتبشّر بمنظومة من القيم التصورية كل وفق الشبكة التي تؤسس لذلك المذهب. وإذا كان الأمر غائمًا بعض الشيء في الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة، وربما الرومانسية، فإنه واضح تمامًا في الواقعية والواقعية الاشتراكية والرمزية والوجودية، والمذاهب التالية كالسريالية والحبشية (الطليعية)، وتيارات الحداثة المتدفقة التي يضرب بعضها بعضًا ولا يزال.
في حالة كهذه، ألا يحق للأدب الإسلامي أن ينطوي على مضمونه الفكري بما أنه ينبثق عن العقيدة الأوسع فضاءً، والأغنى خبرات، والأغزر مفردات وعطاءً؟ باعتبارها إضاءة متفردة يلتقي فيها الوحي بالوجود، وتتلقى تعاليمها من الله سبحانه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وتفتح جناحيها على الإنسان والعالم والكون والمصير؟
إن الخبرة الإسلامية في أعمق مجاريها الإيمانية خفاءً، وأكثر تجلياتها الفكرية إشراقًا، تضع بين يدي الأديب والفنان ثروة هائلة من المفردات، وشبكة عريضة من التجارب والرؤى والتأسيسات التي يمكن للأديب أن يستمد منها في هذا الجنس الأدبي أو ذاك.
في ضوء ذلك كله، يبدو “التأصيل الإسلامي للأدب” التزامًا مبدعًا بمنظومة الخبرات والقيم الفكرية للإسلام، وتقديمها للناس بأشد وتائر القدرة على التأثير، يوازيها سعي مرسوم لهدم القيم الوضعية المضادة في الفكر والأدب والحياة.
ولكن، مرة ثانية وثالثة، بما أن الإبداع الأدبي في أجناسه كافة ينطوي على بعد آخر يلتحم بالبعد الفكري، ويمكنه من التأثير في المتلقي، وذلك هو منظومة القيم الجمالية، فإن التأصيل الإسلامي للأدب يتحتم ألا يغفل عن إيلاء الاهتمام البالغ بهذا الجانب، وأن يبحث ما وسعه الجهد عن بدائل إسلامية للقيم الفنية الشائعة في الآداب العالمية، رغم إقرارنا -مسبقًا- بأن معظم هذه القيم يحمل وجهًا محايدًا يمكن توظيفه في هذا المذهب أو ذاك.
ومع المضمون الفكري والقيم الجمالية، لابد للأدب الإسلامي -وهو يسعى إلى المزيد من التأصيل- من أن يشكل منهجه المتميز في النقد والدراسة الأدبية، أسوة بما فعلته وتفعله جل المذاهب والمدارس النقدية في العالم.
س: يعترض بعض الأدباء على مصطلح الأدب الإسلامي بقوله: إننا بهذه التسمية نلغي الأدب العربي، ويرى أن هذا جناية على الأدب العربي الذي أعطى على مدى قرون طويلة ولا يزال… فكيف نجيبهم؟
ج: ليس ثمة مشكلة على الإطلاق، فالأدب العربي، وبخاصة المعاصر، ليس سواء… هنالك الأدب العربي الأصيل الذي يتوافق مع الأدب الإسلامي ويرفده ويصبح جزءًا منه، وهنالك الأدب العربي المسخ الذي اندفع وراء إغواء “الآخر” الذي تختلف رؤيته عن رؤيتنا، ربما بزاوية مائة وثمانين درجة… وقد يصل به الأمر إلى حافات العبثية والإباحية والفجور… هذه البقع المرضية الهجينة في خارطة الأدب العربي المعاصر، هي التي يرفضها الأدب الإسلامي… أما الأدب العربي في عمقه التراثي فهو في معظمه أدب الإسلام نفسه.
س: ألا يحول الأدب الإسلامي بين الأديب وبين الإبداع الفني الذي يحقق المتعة للقارئ؟
ج: هذا يعتمد على قدرة الأديب نفسه، وخبرته، ومهارته، وفضائه المعرفي، وقوة خياله، وثقافته الأدبية تنظيرًا ونقدًا وإبداعًا، بغض النظر عن المذهب الأدبي الذي ينتمي إليه. فهنالك عبر المذاهب الأدبية كافة نتاج ضعيف لا يستحق أن يقرأ، لأنه لا ينطوي على الحد الأدنى من الشروط الإبداعية، ولا يحقق المتعة للقارئ.
هل قرأت أعمال الأديبين الإسلاميين الكبيرين: علي أحمد باكثير ونجيب الكيلاني؟ إن روايتيْ “وا إسلاماه” و”الثائر الأحمر” لأولهما على سبيل المثال، و”عمالقة الشمال” و”ليالي تركستان” لثانيهما على سبيل المثال أيضاً، تمثل قممًا روائية على المستويين الإبداعي والإمتاعي، ولقد أدهشت الآلاف من القرّاء.. وهناك -غير هذين- جيل من الروائيين الإسلاميين المعاصرين الذين قدموا الكثير في السياق نفسه.
وقد سبق وأن قلت في مقدمة مجموعتي القصصية “كلمة الله” ما نصّه “في رأيي أن احترام مطالب القصة القصيرة كما صممها المهندسون الكبار في الغرب والشرق وعلى رأسها العقدة، يعد ضرورة من الضرورات، ليس فقط لتجاوز النزعة الهدمية التي تنطوي عليها بعض تيارات الحداثة الإبداعية، في سعيها المحموم لتدمير الثوابت الموضوعية والجمالية معًا حيث يصير التغيير هدفًا بحد ذاته، وإنما لاحترام وتقدير حاجة القارئ الذهنية والنفسية إلى المتعة، والمشاركة والتوق إلى الاكتشاف، والتوقع والعثور في نهاية الأمر على الجواب. وأخشى ما يخشاه المرء وهو يبحر في تيار الحداثة بمستوياتها الثلاثة؛ التنظير والنقد والإبداع، أن يجد نفسه قبالة حالات لا يمكن التسليم بها بسهولة: إلغاء مبدأ المتعة الفنية في العمل الإبداعي، وتحويل النشاط النقدي إلى جهد مختبري قد يضع الأسلاك الشائكة بين المبدع والمتلقي أو بين النص والقارئ، ويصرف الأخير عن استدعاء الناقد لكي يعينه على التعامل مع النص، ليس كمعادلة رياضية أو كشف كيمياوي، وإنما كجهد إبداعي يستعصي على الجدولة والترقيم”.
فكيف جئنا إلى الشعر الذي قدم فيه الإسلاميون سيلاً من القصائد القمم بكل المعايير النقدية؟
س: يقول المعارضون لمصطلح الأدب الإسلامي، أن هذا المصطلح يجعل الأدب واضحًا ومباشرًا في خطابه، والوضوح والمباشرة عدوان لَدودان لفنية النص الإبداعي، فكيف نتجاوز ذلك؟
ج: يمكن أن تجد بغيتك في جوابي على السؤال الأول، فالوضوح والمباشرة عدوان لفنية النص الأدبي ليس في دائرة الأدب الإسلامي وحده، وإنما في المذاهب كافة. فها هنا أيضًا تجد هذا الداء -إذا صحّت التسمية- يخترق الكثير من الأعمال… إذ لابد من أجل التحقق بالشروط الفنية للأداء، من الانزياح -بدرجة أو أخرى- عن الدلالات المباشرة للكلمات، وإلا فهي المعاني المطروحة على قارعة الطريق كما يقول الجاحظ.
ولكني أحب أن أسأل هؤلاء المعترضين: هل أتيح لهم أن يقرؤوا جلّ الأعمال الأدبية الإسلامية المعاصرة في أجناسها كافة إن لم أقل كلها، لكي يكون حكمهم عليها حكمًا علميًّا صائبًا؟!
إنها مقولة لا تقوم على استقراء شامل، وتطلق تعميمًا خاطئًا، والتعميم -كما نعرف جميعًا- خطأ علمي.
إنهم يتناقلون المقولة الخاطئة بعضهم عن بعض، ويجترونها اجترارًا دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءة هذا الذي تفيض به مكتبة الأدب الإسلامي المعاصر في أجناسه كافة، والذي ينطوي بالتأكيد -وأسوة بغيره من الآداب- على المباشر والواضح، ولكنه يتضمن -في الوقت نفسه- الكثير الكثير من الأعمال التي استكملت شروطها الفنية بكل المعايير النقدية.
س: عندما نقول في ظل التصور الإسلامي للأدب، “هذا أديب غير إسلامي”، ألا يجرّنا هذا إلى تكفير الأديب المسلم الذي لا يدخل في دائرة هذا التصور؟
ج: ثمة فارق كبير بين عبارة “أديب غير إسلامي” و”أديب غير مسلم”.
لم يقل أحد بالثانية ، أما الأولى فتعني أنه يصدر في معطياته الأدبية تنظيرًا ودراسة ونقدًا وإبداعًا عن منطلقات غير إسلامية، ولكنه يظل مع ذلك مسلمًا على الأقل بالمفهوم الجغرافي.
س: يثير بعض معارضي مصطلح “الأدب الإسلامي” شبهة البدعة في هذا المصطلح، فيقولون إنه بدعة معاصرة لم يقل بها أحد من سلف هذه الأمة، فهل نحن أحرص على الإسلام من أولئك؟
ج: لسنا في حلبة مصارعة، لكي يكون أحدنا أحرص من الآخر، فالكل أجدادًا وآباءً وأبناء، هم تلامذة المدرسة الإسلامية التي خرجت كعب بن زهير، وحسان بن ثابت، وجلال الدين الرومي، وحافظ، وسعدي، وعلي أحمد باكثير، والرافعي، والكيلاني، والأميري… التواصل قائم، فما دامت الكلمة المبدعة تحمل همًّا إسلاميًّا، وتبشر بخلاص إسلامي، فإنها تندرج في سياق الأدب الإسلامي معاصرًا كان أم تراثيًّا، فليس ثمة انقطاع بين الأجيال. ولقد عالجتُ هذه المسألة بتفصيل واستفاضة في بحث يحمل عنوان “الأدب الإسلامي وإشكالية العمق التراثي”، نشر قبل سنوات في مجلة رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
إذا كانت خدمة هذا الدين بقوة الكلمة “بدعة”، فهي -إذن- البدعة الحسنة التي نرجو أن يكون لنا أجرها عند الله سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾(إبراهيم:24-25).
فإذا أردنا أن يكون لهذه “الكلمة” قدرتها على التأثير، فإن علينا أن نستدعي كل الخبرات التنظيرية والنقدية والإبداعية في ساحات العالم المعاصرة، لكي ننتقي منها ما يمنح أدبنا سويته المطلوبة وينقله إلى مستوى العالمية.
إن العزلة عما يطلع في الغرب عمل انتحاري، كما أن تقبّله على عواهنه انتحار هو الآخر… ولابد أن نكون حذرين من الاثنين.
س: يدعى أن النظام العالمي الجديد ينادي بثقافة عالمية موحدة، لا فواصل بين العقول والأفكار فيها، فالناس جميعًا ينتمون إلى ثقافة واحدة تقوم على فكرة الإنسانية التي لا تعرف الحدود… ماذا نقول في ذلك؟
ج: لا أقول إلا ما قاله كتاب الله: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾(هود:118-1199)، أي خلقهم للتغاير والتدافع والاختلاف: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾(البقرة:251).
لقد حاولت الشيوعية يومًا الوصول إلى حالة “الثقافة الواحدة” وإلغاء التغاير والإجهاز على خصوصيات الأمم والشعوب، فأخفقت وخرجت من التاريخ. وفي الطرف الآخر -الطرف الغربي الرأسمالي- حاول الفيلسوف الأمريكي “فرنسيس فوكوياما” في “نهاية التاريخ”، أن يلعب الدور نفسه وأن يصبح عرّاب الثقافة الليبرالية الموحدة التي تمضي لكي تغطي العالم كله، ولكنه ما لبث أن رجع عن فكرته بعد سنوات فحسب من إصداره كتابه المذكور، عاد لكي يؤكد مبدأ التغاير ويعترف بالخصوصيات.
ولكن هذا كله لا يمنع من حوار الإنسان مع الإنسان، ومن لقاء الإنسان بالإنسان على مدى العالم كله، ومن إيجاد جزر مشتركة لتعايش مشترك… ولو رجعنا إلى تاريخنا وألقينا عليه نظرة طائر، فإننا سنرى تنفيذًا مدهشًا لفكرة أخوة الإنسان للإنسان هذه… وما أحرى الأدب الإسلامي بنزعته العالمية الموازية لتشبثه بخصوصياته، أن تعكس هذا الهمّ الكبير… هذا اللقاء المشترك تحت سماء الله الكبيرة جلّ في علاه.
ـــــــــــــــــــــ
(**) أجرى الحوار الدكتور محمد إسماعيل المشهداني.