يأتيكم العدد الجديد من حراء في أجواء ملبدة تعيشها أمتنا، ربما عبّر عنها عنوان المقال الرئيس للعدد “من الفوضى إلى النظام” للأستاذ محمد فتح الله كولن، إلى جانب باقة من مقالات نخبة من العلماء والمفكرين.
ويقال عادة إن المناسبة شرط؛ ومناسبة الكلام هي فقدنا لكاتب من كتّاب مجلة حراء البارزين، بل واحد من علماء الأمة الكبار الذين لا يختلف اثنان من أبنائها على علو كعبهم وسعة علمهم وسبق عطائهم… إنه العلامة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله رحمة واسعة. ولأن المناسبة الأليمة حبلى بالعبر والدروس، فالواجب تجاه الأمة أولاً، وتجاه علمائها ثانيًا، هو الوقوف عليها لتكون الأحداث عبرة، والمحن عظات هادية على طريق المستقبل بإذن الله.
من القصص البليغة في مثل هذا المقام، ما يروى عن هارون الرشيد (الخليفة العباسي) أنه قال يومًا ليحيى بن أكثم: “ما أنبلُ المراتب؟” قال: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، فلا أحد أجلُّ منك. فقال هارون الرشيد: “بل أجلُّ مني رجل يُعلِّم في حلقة ويقول: قال الله وقال رسول الله؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
الكلمات السابقة تشير إلى معنى غائب في واقعنا، واقع اشتد فيه التجاذب حتى أنسى حقائق الدين الكلية الجامعة، ومقتضيات الانتماء للأمة الواحدة. وأهم هذه المعاني، أن مكانة العالم ورسالته هي أسمى وأهم من كل مكانة عامة أو موقف أو اختيار عابر في الحياة الدنيا؛ وعليه فإن كرامة العالِم لا تجُبُّها الاجتهادات، ولا ينبغي لها أصابت أو أخطأت.
بل ما ينبغي، هو أن يُعلَم جيّدًا أن هذا الافتراق وآثاره البادية في الاستنزاف المتبادَل بين أبناء الأمة لا رابح منه بين أبنائها، ولئن كان للمرء ألاّ يوافق على اجتهاد العالِم في الرأي فيخالفه في أساسه ودليله، فليس له أن يقر فعل من يضيّعون حياة العالِم في الدنيا، غير مبالين بضياع آخرتهم نتيجة لفعلهم هذا، أيًّا كان مقترِفه أو دوافعه.
لقد جاءت هذه المصيبة في ظل أجواء الفتنة المحيطة بالأمة في كثير من ساحاتها، وهي فتنة يمتحن فيها العلماء أكثر من غيرهم، فيتصيّدُ فرصتها من لا يحب الخير لهذه الأمة لينتقص من مكانة علمائها جملة، ويرمي دورهم في حياتها، في تجلّ أليم من تجليات محنة مؤسسة العلم والعلماء في واقعنا.
إن “موت العالِم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار”، هكذا يلخص الإمام الحسن البصري رضي الله عنه علاقة العلماء بحياة أمتهم، أو حياتهم ومماتهم بحالها ومآلها… أما إن كان موت العلماء مقترنًا بأزمنة الفتنة فتلك قصة أخرى… قصة المحنة في اشتدادها.. قصة الشدة حين تبلغ مداها. غير أن لطف الله السابق ورحمته بهذه الأمة، تقرران أن بعد العسر يسرًا وأن ليس بعد هذا الضيق إلا الفرج. ألم ينشدوا: اشتَدِّي أزمةُ تنفَرجِي***قد آذَنَ لَيلُكِ بالبَلَجِ… وأيّ شدة أعظم من موت العلماء قتلاً في محاريب المساجد؟!
غير أن أفق انبلاج الظلمة لا يعفي من أمانة بيان الحق، ومسؤولية التمسك بمعالم الاهتداء وجادة الصواب، برغم شدة الفتن، والعض على الكلمة السواء… ففيها النجاة للجميع. وأيًّا تكن التداعيات والظروف، فلمثل تلك المعاني عاش العلامة “البوطي” معلِّمًا ومربّيًا.. فاللهم اغفر له، وارحمه رحمة واسعة، واجعله عندك في مقعد صدق… آمين.