لقد بلغ التشريع الإسلامي الذروة في الكمال والإتقان، والغايةَ في الإبداع والإحكام، ويكفي في وصف ذلك ما ذكره ربنا في كتابه في أخريات ما نزل به القرآن الكريم عندما قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(المائدة:3). فلم يترك شرعنا صغيرة ولا كبيرة إلا وبيّن حكمها وطريقة التعامل معها.
ومما حرص عليه دين الإسلام، تقوية الأواصر، وتعميق الروابط بين بني الإنسان في أي مكان كانوا وفي أي زمان عاشوا… فلا ينبغي لمجتمع أن يعيش مفككًا، ولا يليق بفرد أن يعيش منعزلاً، إذ الأول حريص على رعاية الفرد، والفرد حريص على الارتباط بالمجتمع. وهذا ما يضمن حياة أفضل لجميع الخلق، ويؤسس مجتمعًا قويًّا قادرًا على مواجهة التحديات والأزمات المختلفة، مجتمعًا حضاريًّا راقيًا يرحم القوي فيه الضعيف، ويرفق الكبير فيه بالصغير، ويعطف الغني فيه على الفقير، ويعطي القادر فيه ذا الحاجة… مجتمعًا أخلاقيًّا متقاربًا ومتحابًّا ومتعاونًا على فعل الخير وخير الفعل.
إن الدين الإسلامي دين عملي، يربط الفكرة بالعمل والنظرية بالتطبيق، وليس مجرد خيال يداعب أحلام المصلحين. “إن ميزة الإسلام أنه تجاوز بدعوته إلى تثبيت الروح الجماعية والاجتماعية، درجةَ إنتاج الأدبيات التي تُركّز عليها أغلبُ المذاهب الاجتماعية، إلى أن فرّغ رؤيته المجتمعية في قالب أحكام فقهية ملزِمة ما كان لها أن تَبرُز لولا أن الخطاب الشرعي تَوجَّه إلى المسلمين، باعتبار جميعي وباعتبار آخر مجموعي… إن هذه الأحكام في مجملها أوحت إلى الفرد المسلم، بأن مراد الإسلام منه أن يلتحم بالجماعة ولا ينأى بنفسه عنها، ولا يرى نفسه استثناء منها، ويبذل الخير كله لها”(1).
إن الإنسان في التصور الإسلامي، لا يعيش مستقلاًّ بنفسه منعزلاً عن غيره، إنما يتبادل مع أفراد مجتمعه الآخرين التعايش والتعاون والتساند والتكافل في أمور الحياة وفي شؤون المجتمع. فالفرد في الإسلام هو فرد، وهو في نفس الوقت عضو في جماعة؛ فهو يتحرك بين الفردية والجماعية دون أن يفقد ذاتيته، وإنما يصبح قادرًا على التسامي فينتقل من الأنانية إلى الغيرية، ومن تحقيق مطامعه الخاصة إلى رعاية الجماعة والتضحية من أجلها، وهذا مقتضى الأخوة التي نصت عليها الآية الكريمة، قال ربنا جل وعلا: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(الحجرات:10). إن إعلان الإخاء بين أفراد مجتمع ما، يوجب التكافل بينهم، لا في الطعام والشراب وحاجيات الجسم فحسب، بل في كل حاجة من حاجيات الحياة… فيحرص على حياته وحريته وثقافته وكرامته ومكانته. إن على كل فرد مسؤولية جماعية قد تضيق الدائرة أو تتسع حسب القدرة والاستطاعة، ولكن تبقى المسؤولية حاضرة، فمن منَّ الله عليه بالعطاء ومنحه نعمة من النعم، فهو مطالب بالبذل والسخاء، هذه اجتماعية الإسلام وهذه ثقافة المسلم الحق. إن على الكل أن يدرك أننا في السفينة نفسها، وعلينا العمل جاهدين للأخذ بيد أفراد هذه السفينة حتى نضمن الأمن والأمان الذي هو مطلب أساس للرخاء والاستقرار.
لقد وجه الإسلام الاهتمام إلى فئات عريضة من المجتمع ممن تظهر عليهم الحاجة والفاقة، أو العجز والمرض، أو العاهة والإعاقة. وإذا أردنا حصر النصوص من القرآن والسنة والآثار التي تؤكد هذا المعنى العظيم لوجدناها من الكثرة بمكان، منها ما هو صريح ومنها ما هو إشارة وتلميح. “إن الإسلام قد أولى الطبقات الضعيفة في المجتمع اهتمامًا خاصًّا، فشرع لهم من الأحكام والوسائل ما يكفل العمل الملائم لكل عاطل، والأجر العادل لكل عامل، والطعام الكافي لكل جائع، والعلاج المناسب لكل مريض، والكساء المناسب لكل عريان، والكفاية التامة لكل محتاج… بغير إسراف ولا تقتير”(2). فالمجتمع الإسلامي يمثل طرازًا فريدًا من التعاطف الإنساني، إذ حبب الإسلام إلى هذه الأمة صنع المعروف، وقضاء حوائج الناس، وتفريج كرباتهم، وستر عيوبهم، وعيادة مريضهم، والذب عن أعراضهم، ونصر مظلومهم، ورحمة ضعيفهم، وإقالة عثراتهم، والسعي للإصلاح بينهم… وقد نهج لتحقيق ذلك -فعليًّا- منهجًا يختلف عن بقية المناهج الأرضية في كونه يربط هذا العمل الاجتماعي دائمًا بالله جل جلاله، ويجعل المصلحة الكبرى والجائزة العظمى في يوم القيامة، موظفًا في ذلك الوازع الديني، ومرسخًا له ومستثمرًا إياه، مع عدم إغفال المنافع الدنيوية الهائلة التي تعود على الناس في حياتهم عند التعامل بهذا السلوك الاجتماعي الراقي.
لقد بلغ الإسلام شأوًا بعيدًا في تكوين أفراد فاعلين وناشطين اجتماعيين، يؤدون حقوق المحتاجين من جهة، ويعملون على نشر ثقافة المساندة والمؤازرة والاهتمام بهم من جهة أخرى. وعاب الله جل جلاله على من حاد عن هذه السبيل فقال: ﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(الماعون:3)، وقال: ﴿كَلَّا بَل لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(الفجر:17-18)، فأنكر سبحانه عليهم عدم نشر ثقافة العطاء والبذل، بل ورتب على عدم القيام بحقوق المستضعفين الجزاء الأليم، فقال جل جلاله: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾(المدثر:42-44). وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤولية المجتمع عن كل فرد جائع محتاج في عبارة قوية، في إنذارها للفرد والمجتمع فقال: “ليس المؤمن بالذي يَشْبَع وجارُه جائع إلى جنبه” (رواه البخاري)، كما وضع لهم الأساس الفكري لقيمة العمل الاجتماعي والبذل والعطاء من كل ما يملكه الإنسان عندما نادى في الناس صلى الله عليه وسلم: “من كان له فضلُ ظَهرٍ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضلٌ من زاد فليعد به على من لا زاد له”، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه راوي الحديث: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. (رواه مسلم)
إنها ثقافة الاجتماعية وحضارة الإنسانية التي يغرسها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في أتباعه، ولا شك أنها ثقافة وحضارة طبعت بطابع الدين وصبغت بصبغة الإسلام وتلونت بلون الشريعة،وعلى قدر عمق الإسلام وشموله، يكون تأثير مبادئه في المسلمين الذين يعيشون في إطاره… وكل ما نحتاج إليه، هو العودة إلى تفعيل القيم الإسلامية بمفهومها الشامل، لتحرك المجتمع وتجعله أكثر وعيًا وإدراكًا للمقاصد الحقيقية للشريعة، حيث تتوافق النظرية والتطبيق، وتتلاءم العبادة والمعاملة، وتتناسب العلاقة العمودية والأفقية عند أتباع الملة وأنصار الأمة المحمدية.
الهوامش
(1) العمل الاجتماعي في الإسلام، لمصطفى بنحمزة، سلسلة دفاتر المركز، ط:1، ص:15-17، مطبوعات الهلال، مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، وجدة، المغرب.
(2) ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، ليوسف القرضاوي، مكتبة وهبة القاهرة. ط:1، 1414هـ-1993م، ص:137. بتصرف.