مشروع الوعي الحضاري والانتقال إلى الفاعلية، والتمكين والشهود، أخذ مسارًا طويلاً من التحليل، ولكنه فيما نرى، لم يأخذ حظه في مسار التنزيل… الانتقال من سؤال لماذا لسؤال كيف؟ أو أنه عندما انتقل لسؤال “كيف؟” في أغلب أحواله، أخذ مسارًا متجهًا لفكرة محورية هي “السلطة” باعتبار أن تحقيق التقدم المنشود في الدولة المعاصرة، لا يتم إلا عبر بوابة تبنّي الدولة لمشروع التقدم. وهذا بدوره أخذ طابعًا مطلبيًّا مستمرًّا للدولة المعاصرة بأن تقوم بدورها، أو طابعًا لافتكاك الدولة من أيدي شريحة معينه وتحويله لفئة أخرى. هكذا مضت فترات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وإلى يومنا، ولم تثمر بعدُ نتيجة مرضية. ولنا أن ننظر للأحلام الثورية في بعض أصقاع الوطن العربي، لنرى أن هناك مشكلة تتجاوز السلطة، مشكلة تتعلق بالوعي، سواء عند من نجحوا أو أخفقوا في الحصول على السلطة. بمعنىً آخر، إن الوعي المكافئ لإنشاء كيان سياسي واجتماعي قادر على اللحاق بالعصر، يتعدى فكرة السلطة بشكل واضح، ويصل لعمق حضاري دفين، عمق فكري أعمق من مجال القوة المادية لمجال القوة الروحية والفكرية، يتعدى فكر النخبة -وهنا مربط الفرس- لآلية تجعل الحساسية الجماهيرية متقبلة لفكر النخبة، وهو الأمر الذي يعيد طرح السؤال في صيغته العملية:
كيف نوجد الوعي الحضاري الذي يشمل النخبة والحساسية الجماهيرية، والذي يحرر فاعلية المجتمع وينقله للتمكين والشهود الحضاري؟
نقطة تفكُّر
كان مشهد المطالبين بالحرية والعدالة في أحد الشوارع ملفتًا للنظر، وهو منظر بدا مألوفًا في هذا العصر في وسائل الإعلام… فهناك هتافات وشعارات تطالب بالخبز للجماهير، تطالب بالتعليم والصحة للجميع، وحول هؤلاء يلتف شرطة الشغب متأهبين للانقضاض عليهم عند أول إشارة، وهو منظر مألوف أيضًا من كثرة تكراره… ولكن على أطراف المشهد كانت تمر جموع من الناس تنظر للمشهد وتبتسم، أو تمارس هوايتها في التصوير، أو تمر غير عابئة بكل هذا الصخب. شيء ما هناك، أعاد لذاكرتي مشاهد أخرى التقت فيها الحساسية الجماهيرية بالمطالب الكبرى للنخب، أو التقت فيها حركة النخب بالمطالب الكبرى للشعوب، أو حتى حركة النخبة السياسية مترجمة لمطالب الشعوب وأحلامها كما في ماليزيا أو تركيا في عصرنا. شيء ما في المشهد الذي بدأنا به غير طبيعي… لا يكفي فيه أن يقال إن الجماهير مطحونة بحركة الحياة ولا وقت عندها للنظر في أحوالها. فهناك شعوب مطحونة بأكثر من ذلك التفتت لأحوالها وطالبت بتغييرها. ويحضرني كتاب قرأته في الصغر وهو “البؤساء” الذي صور أحوال فرنسا في ما قبل الثورة الفرنسية، فالبؤساء هم أصل الثورات والتحولات، ولابد أن نبحث عن حلقة مفقودة في معادلتنا أعمق من ما هو منظور، حلقة مكتوبة بالحبر السري عصية على القراءة للوهلة الأولى.
لماذا لا تطبع الطابعة؟
لو كان الموضوع قابلاً للتشبيه، لقلت إن الجماهير هي الطابعة والنخب هي الكمبيوتر… شيء ما لم يسمح بأن تستجيب الطابعة لما يكتب على لوحة مفاتيح الكمبيوتر… شيء ما لم يؤهل الطابعة للتعرف على ما يكتب على لوحة المفاتيح.
هل نطرح هنا موضوع الوعي الحضاري، وما هو مضمونه؟ ومن هي الشرائح التي تحتاجه؟ وكيف يصل إليها؟
ما هي الآلية التي يمكن بها أن تسود فكرة حية في مجتمع ما، بشكل يسمح لها أن تساهم في حدوث تحولات حقيقية؟
مضمون الوعي الحضاري
لقد قلنا إن الوعي الحضاري هو وعي يكفي لإطلاق الفاعلية الحضارية في مجتمع ما، هو وعي بالذات ووعي بالآخر المنافس، ووعي بمتطلبات التقدم في طريق الفوز بأقل التكاليف وفي أقصر وقت. إنه باختصار قدرة على اتخاذ القرار المناسب في إطار التدافع الإنساني، قرار يسمح بتحقيق الفوز بالنقاط بدل الضربة القاضية.
بهذا المعنى يصبح أمامنا رؤية للمضمون تتكون من معرفة الذات. والذات تتشكل من صورة عن الذات الحضارية “والمتكونة عبر التاريخ”، وصورة لأسباب التخلف وبنيته وجذوره، وصورة عن المستقبل المنشود، وصورة عن الطريق للعبور له، وصورة عن الواقع المحيط بالتدافع في صورة السياسة المحلية والدولية، وصورة للاقتصاد ودوره في صناعة الأمم، وصورة للدين كرافعة للتقدم أو ككابح للتقدم، ثم صورة عن أفضل الممارسات الإدارية لهذا الواقع وأدوات التعامل معه. بهذا تتكون قاعدة سوية أولية للتعامل مع الواقع وإدارته في اتجاه صناعة الحضارة، وعلى هذه الأسس يتكون المضمون.
الشرائح الثلاث
عندما ننظر للواقع، سنجد أنه مكون من شرائح ثلاث متفاوتة الحجم والدور، فأمامنا شريحة الساسة وأهل الفكر وهي شريحة تصنع القرار والفكر. وأمامنا شريحة وسيطة في غاية الأهمية، وهي شريحة الفنانين والأدباء والمسرحيين والسينمائيين والوعاظ. والشريحة الثالثة هي عموم الجمهور. فشريحة تصنع القرار وتصنع الفكرة، وشريحة تبسطها وتنقلها للقاعدة العريضة، وشريحة تستقبل هذه القرارات والأفكار وتتفاعل معها. وصناعة التقدم نحو الحضارة تحتاج لتفاعل الشرائح الثلاث، فالحاسوب في هذه الشرائح هو الشريحة الأولى وإنها النخب، والطابعة هي الجمهور الذي يتفاعل مع ما تكتبه الطابعة، والوسيط بينهما هي الشريحة الثانية التي تقوم بوصل حلقة النخب بالجمهور، وهي التي تحول الفكرة المستعلية لحديث في المقهى والشارع وتوصله للبيت والمدرسة.
إطلاق الفاعلية
إن الوعي الحضاري هو وعي يكفي لإطلاق الفاعلية الحضارية في مجتمع ما، هو وعي بالذات ووعي بالآخر المنافس، ووعي بمتطلبات التقدم في طريق الفوز بأقل التكاليف وفي أقصر وقت. إنه باختصار قدرة على اتخاذ القرار المناسب في إطار التدافع الإنساني، قرار يسمح بتحقيق الفوز بالنقاط بدل الضربة القاضية.
والآن، كيف يمكن أن نبدأ من نقطة لا نحتاج فيها لقرار علوي بالفعل، نقطة يمكن أن تنطلق من ممكناتنا كمجتمعات. وماذا تحتاج المجتمعات لإطلاق ممكناتها؟ يشير حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن الكتلة النوعية البشرية لا تزيد عن 1% لحدوث التحولات الكبرى فيها: “إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة” (متفق عليه). وفي مشروع الوعي الحضاري نحتاج أن نصل لهذه الكتلة البشرية النوعية، وتحميلها بمشروع الوعي الحضاري وعيًا يطلق طاقات هذه الكتلة البشرية لتعمل على تكوين مؤسسات الانطلاق وتملأ الفراغات، فمنها تتغذى شريحة المفكرين والنخبة السياسية، ومنها تولد شبكة الفنانين والأدباء والكتاب والمسرحيين والوعاظ، ومنها تبدأ معالجة الملفات الكبرى، جيل جديد قادر على أن يغذي مفاصل الفعل، ويصل الفكرة بالجماهير، وبالتالي يمكّن الطابعة من الاستجابة لما يكتب على الكمبيوتر. فالتحول من نداء الموتى، أو طلب المعجزة، أو مناداة الثالث الغائب لتحديد محتوى الوعي الحضاري المطلوب، وتحديد آليات نقل الوعي ومؤشرات قياس التأثير، وتحديد الزمن اللازم لإنجاز مشروع “نقطة التحول”، سيكون نقطة تحول كبرى. كل ذلك من الممكنات في ظل التطورات التقنية المعاصرة، ولو تضافرت الجهود للقيام بهذا الأمر، لأمكننا أن نَعبُر الحاجز بين النظرية والتطبيق. وهذه هي النقطة الأولى في حركة المشروع التي يمكن أن تجعل أحلام الأمة بالتمكين والشهود الحضاري ممكنة.
إن التحرك لإيجاد نقطة انطلاق حقيقية لمشروع الوعي الحضاري، يكتسب أهمية قصوى اليوم للخروج من دائرة الشلل التحليلي والانطلاق لفضاء الممكنات العملية.
مفاهيم ضرورية لمن يتلقى المشروع (فسيلة وتمرة وثوب تلك هي القصة).
عندما نقول إن طريق التراكم يظل مفتوحًا لو أغلق طريق الاحتشاد، وإن طريق التراكم في المنطقة العربية، هو الطريق المتاح اليوم بالنسبة للقوى الفاعلة في المجتمع، لمختلف الأعمار السِّنّية، ولمختلفف أنواع الطاقات… فنحن -ببساطة- ندعو لتحرير ممكنات الفرد وإعادته لدائرة الفعل. ونعتقد أن طريق التراكم سيتقاطع معه يومًا ليس ببعيد طريقُ الاحتشاد. فكلما زادت الخيرية في المجتمع كلما كان نهر الحياة من الأفكار والعلاقات والمشاريع أشد فاعلية. ولا يبعد كثيرًا أن يلتقط الخيط مَن بيده القرار، ليحوّل أحلام أمته لوقائع. ولتفعيل طريق التراكم، يلزم استحضار مفهوم المساهمة. والمساهمة تعتمد في ما يقع تحت دائرة فعل الإنسان الفرد أو المؤسسة وممكناتها. وحينها يسأل الإنسان عن الجدوى. ماذا يعني التقاط ورقة من الطريق في ظل وضع يسمح بإلقاء أكوام من القمامة كل يوم في الطرقات. هنا يُسحَق الفردُ أمام المشهد الكبير الضاغط، ويدخل مرحلة اللامبالاة. فليفعل كما يفعل غيره “وحشر مع الناس عيد” كما هو المثل الدارج. لكن ماذا يضيف لنا الإسلام من معانٍ لعلاج هذه الحالة المستشرية؟ إنه يقدّم لنا “فسيلة وتمرة وثوب”… لست أمزح.
فمهموم الفسيلة جوهري في الفعل النهضوي، “لو كانت بيد أحدكم فسيلة وقامت القيامة فليغرسها”. إنها تعرض علينا الحد الأقصى من اليأس في النتائج، وتدعو للفعل في الأوضاع التي ليس بعدها عمل…. في وضعٍ قد قرب أن تطوى فيه صفحاتُ الإنسان، ولكن فسيلته الأخيرة التي زرعها قد تكون مرجح نجاته يوم القيامة فتأمل.
ومفهوم التمرة مفهوم محوري في طريق النهضة (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تَصدَّقَ بِشقّ تمرة) فالسيدة التي كانت تلقط الحصى من مسجد الرسول، وهي تلقط الدر من تراب الجنة عمل صغير منن المداومة عليه مع النية الصالحة يمكن أن يكون نصيبك من إطلاق مشروع الأمة الناهضة فتنبه.
ومفهوم الثوب؛ “لقد كان حَلُّ الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لرفع الحجر الأسود، أن يُمسِك كل منهم بطرف من الثوب فيُرفَعَ الحجرُ ويُوضَع في مكانه”. هكذا يرتفع حجر النهضة ويعلو بناؤها. فليرفع كلل فرد من زاويته طرفًا من الثوب… ليقدّم كل شخص جهده -وإن قل- ولا يقفْ مكتوف الأيدي.
إن المهمة الكبيرة حين يريد الشخص أن يقوم بها كلها أو لا يقوم بشيء منها، يقع في معادلة العجز. فالمهام الكبيرة كنهضة أمة -وهي موضوعنا- غير قابلة للتحقق بفعل شخص واحد ولو كان حاكمًا. فإن كانن ما يقابل القيام بها كاملة هو عدم القيام بأي شيء فهو العجز بعينه. والفيل لا يمكن أكله قطعة واحدة.
(*) خبير في التخطيط الإستراتيجي والإدارة الإستراتيجية / قطر.