إذا كان مبدأ الزوجية يشكل القانون المؤسس لنظام الكون مصداقًا لقول الله تعالى: “وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ”(الذاريات:49)، فإن تجلياته على مكونات الأرض التي هي جزء من هذا الكون، تظهر على كل المستويات انطلاقًا من بلوراتها الصخرية التي من معدنها تُبعث الحياة.
فالحجر الذي هو أصل تكوين الأرض إذا وقفنا على تحليله المعدني من خلال الفحص المجهري لمركباته، فسنجده يقوم أساسًا على خاصية التبلّر (Cristallisation)؛ وهي صفة تدل على تقابل وجيهات البَلْوَرَة في زوجية دقيقة التصميم، عجيبة التماثل، تتجلى من جميع الزوايا عبر محور البلورة أو مركزها.
فإذا علمنا بأن هذه الهيئة البلورية المؤسِّسة لمعدن الصخر هي انعكاس لنظامه الذرّي، فسنقف على مشهد نرى من خلاله أن الترتيب الأساسي للذرات هو أيضًا متماثل، وأن التماثل البلوري إنما صدر من تناظر الذرات الذي بموجبه تَحدَّد المظهر الجزيئي المؤسِّس لمختلف الأشكال البلورية المؤصِّلة للمادة الصخرية لكوكبنا.
وهذا يضفي على مركّبات الحجر صفة الزوجية التي عمّت كل شيء؛ من الذرة إلى البلورة إلى الصخرة إلى الأرض التي تتناظر أطرافها حول مركزها الكائن في نواتها الباطنية. وكل كائن حي من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان، إنما تأصلت مادته من طينة الأرض التي تبلورت مركباتها من تبلّر معدنها على تلك الهيئة البديعة من التماثل، بل ونجد أن هذا النظام البلوري الذي يقوم أساسًا على خاصية التماثل، يتأسس على سبعة أشكال رئيسية يمثل فيها المكعّب الأصل الذي تتقاطع فيه المحاور في جميع الاتجاهات الكونية. والكعبة المشرفة بشكلها المكعّب تجسّد أسمى تعبير عن هذا النظام بستة أضلع متناظرة تتماثل حولها مطلق الاتجاهات الكونية.
وذلك سر من أسرار هذا الكون، تُحدِّث به الحجارة التي تمثل بلوراتُها مرآة عاكسة لنور المكوِّن في دلالة على تفرد الخالق سبحانه بإفراد الوحدانية وكمال الأحدية له وحده، وإضفاء صفة الزوجية على كل ما سواه، حتى يشكل الكون مرجعًا تجريبيًّا لتأسيس النماذج التفسيرية الموصلة إلى فهم حقيقة الوجود، فكان من أجل ذلك أن خُتمت الآية بقوله تعالى: “لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ”(الذاريات:49).
البلورة مرآة الزوجية والذرة سر نظامها
تُشكِّل الحجارةُ في عرف الجيولوجيين، تركيبًا معدنيًّا أو عضويًّا أو مزدوجًا لمادة نشأت قي القشرة الأرضية ثم تبلورت بفعل التحولات الفيزيائية والكيميائية التي طرأت عليها خلال مراحل تطورها. وبما أن تعريف المادة تعرّض بعد ظهور نظرية النسبية التي وضعها الفيزيائي الألماني “أينشتاين” إلى تغير جدلي حيث صار مفهوم المادة مقترنًا بالطاقة، أي بفاعليتها، فإن مادة الحجارة بفعل تغيرها مع الزمان والمكان، باتت أكثر دلالة على هذا المعنى بحكم ما تنطوي عليه تفاعلاتها مع المحيط من تجليات لأثر الفاعلية الباطنية التي تسري في كيانها، والتي تؤدي في الأخير إلى حصول توازن ديناميكي مع المحيط الحاضن لها بفعل تبادل المادة والطاقة بينهما.
فالحجر مهما كان أصله وظروف تكوينه، هو متجاوب باستمرار مع متغيرات محيطه. ويمكنك أن تلمس هذا التجاوب في الهيئة البلورية التي يكشفها لك تحليله المجهري؛ تلك الهيئة التي تتألق أشكالها وتتلألأ أنوارها وفقًا للتشكيلات المعدنية المنبثقة من تفاعلات الحجر مع النُسق الكيميائية الناشئة في الوسط الذي يتبلور فيه، بحيث إذا أخضعت هذا الحجر للفحص المجهري وظهرت لك معالم هذه الهيئة البلورية في الأشكال العجيبة والألوان الزاهية التي تختلف باختلاف تركيباته المعدنية المتبلورة مع متغيرات محيطه، اتضح لك أن النور الذي تتلألأ به البلورة إنما هو انعكاس لسر يخفيه نظامها الذرّي الذي من تشكيلته الكيميائية انبثقت تركيبتها المعدنية. فإن أنت سبرت أغوار هذا النظام الذي تآلفت ذراته في جزيئات “النسق البلوري” المنسجم مع قرار الحجارة، تحدثت إليك مكوناتُه بنور مكوّنها، فتنبهت إلى معنى قوله U: “اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ”(النور:35)، وتحيرت في إدراك معنى قوله سبحانه: “مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ”(النور:35) بما يوحيه إليك الوصف القرآني من معان إعجازية بخصوص المغزى من ذكر الزيت الذي يضيء ولم تمسسه نار، وما دلالة ذلك على أثر الفاعلية الخفية التي أودعها الله تعالى في كيان هذه المكوّنات التي منها يسري النور الذي به يتلألأ الكون دون أن تمد بطاقة خارجية. فهذا التشبيه إذن، هو دلالة على أن مصدر النور الذي يضيء بلورة الوجود، إنما هو من سر فاعلية خفية بثّها الله سبحانه في كل موجود.
ولتأكيد هذا المعنى، دعنا نتأمل في بلورات النسيج الصخري الذي به تزدهي الأرض وتنبسط أنوارًا. هذا النسيج إذا تفحصت بلوراته، فستجدها تقوم أساسًا على ميزة التماثل؛ وهي صفة تدل على تقابل وجيهات البلورة في تزاوج عجيب مع بعضها عبر مركز أو محور البلورة. وهذا التقابل إنما هو انعكاس لثنائية التركيب الحاصلة بين الذرات في بناء النسق البلوري، مما يدل على أن نظام الزوجية في البلورة، إنما صدر عن تماثل الذرات في بناء الجزيء المؤسِّس للبلورة، ذلك التماثل الذي يسري في الحجر ومنه إلى الجبل فالأرض التي تتماثل حول مركزها الأطرافُ.
فإذا رأيت الكون كمُل فيه البناء بمماثلة الأرض للسماء كما نستشف ذلك من قول الله تعالى: “اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ”(الطلاق:12)، وهي إشارة إلى تقابل كتلتي الأرض والسماوات، فاعلم أن ذلك من وحي الله إلى الكون بحكم قوله U: •وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ(فصلت:12). وإذا رأيت الأرض فُرشت حجارة أساسها البلورة التي هي سر الزوجية فيها، فاعلم أن ما تحدّث به أسرارها هو من وحي الله إليها القائل في حقها: “يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا # بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا”(الزلزلة:5). وإذا رأيت هذه الحجارة أخرجت نباتًا ينمو في زوجية عجيبة الحسن متألقة الجمال، فاعلم أن ذلك من وحي الله إليها الذي قال في حقها: “وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ”(الحج:5). وإذا رأيت النحلة تمتص رحيق هذا النبات فتبني خليتها على أساس من التماثل الازدواجي يذكّر بذاك الذي تتألق به هيئة البلورة، فاعلم أن ذلك مما أوحى إليها ربها القائل في حقها: “وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ”(النحل:68).
مما يدل على أن هذه الزوجية المتجلية في كل شيء، إنما هي صفة بثها الله بوحي منه سبحانه في كيان كل مخلوق حتى تشهد المخلوقات بإفراد الوحدانية للخالق. فكان من أجل ذلك أن جُعلت الكعبة مهبط الوحي في وسط من الأرض، تتماثل حوله الأقطار لتكون رمزًا لهذه الزوجية في المكانة والمكان.
الكعبة رمز الزوجية في الأرض
إذا رجعنا إلى مختلف مراحل المد القارّي للأرض، ورسمنا دائرة على خريطتها نجمع فيها كل القارات، وجدنا مركزها في الكعبة. كما أننا إذا عالجنا هذا المعطى من شكلها المكعب، فسنجده دالاًّ على نفس المعنى. فنحن نعرف أن المكعب هو أصل النظام البلوري المكون لكل مادة صلبة على وجه الأرض، لأن فيه تتساوى كل المحاور المتقاطعة في جميع الاتجاهات الكونية، الشيء الذي يخوِّل للمكعب صفة الكمال في التماثل (Perfect Symetry). والكعبة بشكلها المكعب، تجسد هذا المعطى بستة أضلع متماثلة، كل ضلع متجه إلى جهة معينة من جهات الكون: الأول إلى السماء، والآخر المقابل له إلى الأرض، والأربعة الباقية يتقابل فيها الشمال الشرقي مع الجنوب الغربي والشمال الغربي مع الجنوب الشرقي، بينما تتجه الأركان العمودية التي فيها تتقاطع خطوط هذه الأضلع نحو الاتجاهات الجغرافية الأربعة الأصلية للأرض، مشكّلة من الكعبة نقطة تحديد لمطلق الاتجاهات الكونية. وتلك ذروة الكمال في الزوجية يعبر عنها التماثل القائم في الكعبة بين أضلعها وكذلك بين أركانها، إذ ليس هناك بُعدٌ في الكون إلا وتوجهت إليه. فكانت من أجل ذلك هدى للعالمين كما وصفها الله سبحانه وتعالى في قوله: “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ”(آل عمران:96).
وهذا المشهد يتضح أكثر إذا ما عالجناه من زاوية البعد الزمني لنشوء الأرض وامتدادها المستمد من كشوفات العلم، تلك الكشوفات التي جاءت نتائجها موافقة لنصوص الوحي. فقد جاء في “النهاية” في غريب الأثر، قول رسول الله r: “كانت الكعبة خُشْعةً على الماء فدُحِيتْ منها الأرضُ”.
هذا الحديث إذا تلمسنا فهمه من خلال المعطيات الجيولوجية الحديثة، فسنجده دالاًّ بالحس والمعنى على أن الكعبة تبقى النقطة الأولى المرشحة لبزوغ اليابسة، ثم امتدادها في أرجاء البحر الكاسح عند بدء التكوين: خاصة وأن “الخُشْعة” كما جاء في نفس المصدر تعني: “أَكَمة لاطِئةٌ بالأرض، والجمع خُشَعٌ، وقيل هو ما غلبت عليه السهولة، أي ليس بحجر ولا طين”. وفي هذه المواصفات لكلمة “خُشْعة” التي كما سنرى، نجد لها سندًا علميًّا في التصنيف الجيولوجي لميكانيزمات نشوء وتبلور قشرة الأرض، نلمس تلميحًا إلى أن الكعبة قد تكون أول أكمة انبثقت من باطن الأرض المنصهر، حتى إذا ما برزت على سطح الأرض المغمور بالمياه وهي في مرحلتها الجنينية لَزِجَة، دُحِيت منها اليابسة فانتشرت القارات. وهو المشهد الذي يعززه تفسير القرطبي لقوله تعالى: “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ”(البقرة:127)، حيث قال -رحمه الله- أن مجاهدًا قال: “خلق الله موضع البيت قبل أن يخلق شيئًا من الأرض بألفي سنة، وأن قواعده لفي الأرض السابعة السُّفلى”. ذلك التفسير الذي يتصل بما سبق أن قلناه حول انبثاق الكعبة كأول أكمة من باطن الأرض المنصهر على سطحها المغمور بالمياه عند بدء التكوين؛ مما جعل أرض مكة تسمى في كتاب الله بـ”أم القرى”، أي الأصل الذي تفرعت منه كل البراري على سطح الأرض.
فإذا أقررنا بأن الكعبة في وسط الأرض، علمًا بأنها تقابل في السماء البيت المعمور كما دل على ذلك البيان الوارد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جاء في معرض تفسير ابن كثير لقوله تعالى: “وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ”(الطور:4)، حيث قال رحمه الله: “قال قتادة والربيع بن أنس والسُّدِّيّ: ذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومًا لأصحابه رضي الله عنهم: “هل تدرون ما البيت المعمور؟” قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: “فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة، لو خرّ لخرّ عليها يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم”. فذلك يعني أن الكعبة توجد في محور التواصل مع البيت المعمور، ذلك المحور الذي حوله تتماثل منظومة الكون في سجود وتسبيح لخالقها الذي جاء كتابه معجزًا في وصفها، وجاء حديث رسوله صلى الله عليه وسلم صادقًا في تثبيت صحتها، حتى تعي الأمة بكل المعايير العلمية ومن خلال موقعها الوسط الذي خصها الله به في قوله تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا”(البقرة:143) ما ترمز إليه معالم الزوجية من أسرار حقيقة التوحيد، التي يشهد بها للموجد كل شيء في هذا الوجود.
وهذا يدل على أن ما تحمله الزوجية من أسرار ودلالات، تلتقي معانيه في حقيقة واحدة تدل على صفة الوحدانية التي تفرد بها موجد الوجود المنزه عن التشبيه والتمثيل الذي قال في حق ذاته العلية: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(الشورى:11). من أجل ذلك جاءت في عبادات المسلم، كثيرٌ من المشاهد التي ترمز إلى انسجامه الفطري مع نظام الزوجية في الكون، بحيث إذا تأملنا في مشهد السجود من محفل الساجدين حول الكعبة، فسنجده يجسد تماثلاً تزاوجيًّا حول محور التواصل بين السماء والأرض، يذكّر بذاك الذي يسري في كل مكونات الكون، من الذرة التي تتماثل فيها الإلكترونات حول النواة إلى المجرة التي تتماثل فيها الكواكب حول الشمس في إشارة إلى وحدة السجود التي عمت كل الوجود. كما أننا إذا تأملنا في مشهد الطواف من موكب الطائفين حول الكعبة، فسنجده يمثل تجسيدًا للجذب والاستقطاب الذي يحصل لكل شيء حول أصله.
فالكعبة بموقعها الجذاب الذي يجعل أفئدة الناس تهوي إليها، يطوف حولها الطائفون بقلوب مستقطَبة نحوها، لأنها تشكل الأصل الذي منه تفرعت الأرض أمّ الإنسان، تمامًا كما تُشكِّل النواةُ التي حولها تحوم الإلكترونات في نفس اتجاه الطواف الأصلَ الذي تشكلت منه الذرة، وكما تُشكِّل الأرض التي حولها يدور القمر في نفس الاتجاه منجذبًا إليها الأصلَ الذي منه انفصل، وكما تشكل الشمس التي حولها تدور الأرض في نفس الاتجاه الأصل الذي منه انبثقت الأرض… إلى غير ذلك من المشاهد التي تعبر عن أن الإنسان في لحظة السجود والطواف وغيرهما من العبادات، يترجم أسمى عبارات الارتباط بالأصل، من خلال طلبه التحرر من رق الذات والعروج في شوارق الصفات. تلك الصفات الموصلة إلى الله عز وجل التي سِرّها من أصل تلك النفخة الإلهية، التي بثها سبحانه من روحه في كيان الإنسان من يوم خلق آدم سويًّا. فكان أن أُتبِعت الآيةُ محور هذا الفصل بقوله تعالى: “فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ # وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ”(الذاريات:50-51) في تلميح إلى أنه سبحانه، الواحد الأحد الذي لا مفر منه ولا منجى ولا ملجأ إلا إليه؛ إذ لا نِدّ له ولا مثيل ولا نظير يمكن أن ينشُل العبدَ من أوحال نفسه، وذلك ما ترمز إليه دلالات الزوجية في هذا الكون.