قال الله – عزّ وجل -: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الشورى:52).
القرآن روح
الرُّوح ها هنا هي كتاب الله – عزّ وجل -، هي التعبير عن سرّ الوحي المُشعِر بأنه يُحدِث في الإنسان من الخصائص، ما تُحدِثه الرُّوح حين تُنفَخ في الإنسان لتُصَيِّرَه خَلقًا آخَر. فإن الإنسان يُجمَع خَلقُه في بطن أُمِّه أربعين يومًا نُطْفةً، ثم يكون علَقةً مثلَ ذلك، ثم يكون مضغةً مثلَ ذلك، ثم يُرسَل إليه الملَك فتُنفَخ فيه الرُّوحَ، فيصير بذلك خَلقًا آخَرَ غيرَ الخلق الأوَّل.
إن الإنسان -الفرد والمجتمع معًا- يصير بالقرآن خَلقًا آخر، لكون هذا القرآن ذا طبيعة تشبه طبيعة الرُّوح تمامًا، لذلك كان التعبير فيه كالتعبير في الرُّوح، ففي الرُّوح قال الله – عزّ وجل -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(الإسراء:85)، وها هنا قال سبحانه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا)(الشورى:52)، نفس اللفظ تقريبًا في الآيتين، روح من أمر الله، والرُّوح هي من أمر الله.
أثر رُوح القرآن في “الإنسان الفرد”
هذا الكتاب عُبِّر عنه بـ”الرُّوح” إشارة إلى هذه الوظيفة التي يقوم بها في الإنسان. فالإنسان قبل أن يَسرِيَ ماء القرآن في عروقه وكِيانه، يكون مَيتًا بصريح القرآن: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)(الأنعام:122).
أمَّا عندما يخالط هذا القرآنُ قلبَه، ويَسري منه كما يَسري الدَّمُ في مجموع الكِيان، فإنه يصير -فعلاً- شيئًا آخَر من حيث طاقاته وتصوُّراته وأفكاره وقدراته وإمكاناته ومُنجَزاته… لأنه بالقرآن يهتدي إلى ربه ويعرف مولاه سبحانه وتعالى، فيتوكل عليه حق التوكُّل ويستمدُّ منه كل شيء. فمن اسمه “القويّ” يستمدّ القوّة، ومن اسمه “العليم” يستمدّ العلم، ومن اسمه “الحكيم” يستمدّ الحكمة، ومن اسمه “الرحمــن” “الرحيم” يستمدّ الرحمة… يُفِيضُ الله عليه -بفضله ورحمته- من أنوار أسمائه سبحانه وتعالى، فيَشيع في كِيانه ما يَشيع، ويَصير طاقة غير عاديَّة إذا قُورِنَ بما كان عليه قبلُ. ولنستحضر النماذج الأولى على سبيل المثال:
النموذج الأول وهو النموذج الأكمل، رسول الله-صلى الله عليه وسلم–صلّى الله عليه وسلم-، ماذا كان بغير القرآن؟ وماذا صار بالقرآن؟ خلال أربعين سنة قبل أن تَنزل عليه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(العلق:1)، ماذا استطاع أن يفعل في الجزيرة العربية؟ ماذا استطاع أن يفعل في النفوس، في الرجال، في الجماعات، في بطون العشائر والتاريخ؟
لكن بابتداء نزول القرآن، بابتداء تَنزُّل هذه الرُّوح، صار خَلقًا آخَرَ تمامًا. كان-صلى الله عليه وسلم-“بَشَرًا” فازداد على ذلك (نُوحِي إِلَيْهِ)(الأنبياء:25)، وحين أُوحِيَ إليه هذا القرآن صار هو نفسه نورًا مُنِيرًا: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)(الأحزاب:45-46)، تَنَوَّر -صلّى الله عليه وسلم- بنور القرآن:(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ)(المائدة:15) فصار سراجًا منيرًا. وكل مسلم يَسرِي في كِيانه القرآن، سيكون له نورًا قطعًا، لكنّ لكلٍّ نورًا حَسَبَ الاستعداد ونوع الطينة والمعدن. إذن صار الرسول الكريم -صلّى الله عليه وسلم- بهذه الرُّوح مولودًا جديدًا فأحدث ما أحدث في التاريخ إلى قيام الساعة… عَجن الجزيرة العربية عجنًا آخَر، وجمَع إنسانها المُفرَّق المُشتَّت جمعًا، ثم صاغه صياغة جديدة في صورة تجمُّع بشري عالي المستوى، عالي الكيف، به أنجز العرب المسلمون ما أنجزوا عبر التاريخ من تلك الفتوحات التي سرَت في الكرة الأرضية مسرى النور، ضاربة في أقاصي الغرب وأقاصي الشرق.
النموذج الثاني هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. ماذا كان عُمَرُ قبل القرآن؟ ماذا كان قبل أن يُنفخ فيه روح القرآن؟ كان راعيَ إبِل، إنسانًا مثل جميع الناس. لكن بمجرد أن نُفخ فيه روح القرآن وسرى فيه نور القرآن، وتَمكَّن القرآن من قلبه وعقله وكِيانه، نجده يتحوَّل إلى طاقة كبيرة، تُضرَب بها الأمثال في القدرة على الإدارة ومواجهة التحدِّيَات والمستجدات، على اتساع المكان وامتداد الزمان وتنوُّع الإنسان، فهل كان عمر يُطيق شيئًا من ذلك أو يحلم بالقدرة على شيء من ذلك لولا روح القرآن؟
النموذج الثــالث هو عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، هذا الراعي الصغير النحيف، كيف تَحوَّل بعد أن نُفِخَ فيه روح القرآن؟ كيف تَحوَّل فأصبح يتحدَّى جميع القُرَشِيِّين، ويقرأ عليهم القرآن جهارًا في وقت لم يكُن يستطيع فيه أحد أن يُعلن القرآنَ على الملأ؟
النموذج الرابـــع هو بلال بن رباح الحبشي -رضي الله عنه-، وقصته معلومة عند الجميع… وهكذا.
كل تلك الأحوال التي أصبحت لهؤلاء الرجال، إنما هي بسبب ذلك المعنى الجديد الذي حَلَّ فيهم، معنى القرآن الذي له خاصية الرُّوح الذي به يتحول الكِيان المادِّيُّ الطيني خَلقًا آخَر، كما تحولت طِينة آدم – عليه السلام – فاستَحقَّ السجودَ له بعد أن نفخ الله فيه من روحه.
أثر روح القرآن في “الإنسان الجماعة”
حدث هذا في الأفراد، ومثل ذلك حدث -ويَحدث- في الجماعة والجماعات، والقرآن الكريم يُحدث أيضًا في الكِيان الجماعي العامِّ تأثيرًا كتأثير الرُّوح أيضًا، فيوَحِّد جزئياته ويضمُّها ضَمًّا. لِنقارن حال الميت عندما تغادره الرُّوح، إذ يتحلل تحلُّلاً كاملاً إلى عناصره الأوَّلية الترابية وغيرها، وتتبدد تلك العناصر، ويذهب كل عنصر إلى جهته ليَلتحم بعنصره الطبيعي في الأرض. ما الذي غادر هذا الكِيانَ بالموت؟ يموت الشخص ونحن ننظر إليه، ما تَغير فيه شيء، ولكن تَغيَّر فيه كل شيء. ما الذي غادره؟ غادره شيء اسمه الرُّوح. الرُّوح إذن هي التي وَحَّدت كِيانه وكانت تمنعه من التحلُّل والتجزُّؤ، وتبرُّؤ بعضِه من بعض، تلك الرُّوح هي التي أعطَته كل تلك الإحساسات، وكل تلك القدرات.
نفس الأمر يُقال عن الجماعة المؤمنة أو الأُمَّة الإسلامية، وإن تمثلت في صورة صغيرة. إنها عندما تحِلُّ فيها هذه الرُّوح (أي في مكوِّناتها من أفراد وأسر وجماعات) تتحول من حيث الطاقة ومن حيث الفاعليَّة ومن حيث التأثير، إلى خَلق آخر. وإن رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- ما استطاع أن يفعل ما فعل في الجزيرة العربية إلا بهؤلاء الذين حلَّت فيهم روح القرآن فتَجَمَّعوا في صورة كِيان موحَّد عَبَّر عنه رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- بالجسد: “مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمَثَلِ الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهَر والحُمَّى” (رواه مسلم)؛ شَبَّه جميع المؤمنين في علاقة بعضهم ببعض بالجسد، وإنه -وأيم الله- لا يوجد مثال يمكن أن يُشخِّص فيه الإنسان معنى الالتحام الكامل، والتوحُّد التامّ، والتضامن، والتلاحم والتراحم التامّ، كمثال الجسد الواحد. ودونك هذا المثال: أنت تسير بسرعة كبيرة، فتبصر عينك -فجأة- هُوَّة سحيقة أمامك، تنقل العينُ بسرعةٍ الخَبَرَ إلى مركز التحليل في الدماغ، فيعطي الجواب بسرعةٍ فيُصدِر أوامره إلى الرِّجل وإلى الكِيان كله، فيتحول إلى وجهة أخرى. هذا التسانُد والتلاحُم والتكامُل والبناء بهذا التفاعُل بهذه الصورة، لا سبيل إلى تصويره بغير الجسد الواحد.
فما الذي يُحِيل هذه الأجسام المنفصلة المتفرقة إلى جسم واحد له هذه الإحساسات، وهذا الالتحام، وهذا النوع من العلاقة في أجزائه، وفي نوع الأجهزة التي يتكوَّن منها، وفي علاقة هذه الأجهزة بعضها ببعض، في تخصُّصاتها، وتكامل تخصُّصاتها، وسيرها عَبْر مركز كبير يوجِّهها؟
كل ذلك إنما كان بفضل رُوح القرآن، لذلك يجب العمل على أن نُحِلَّ فينا رُوحَ القرآن لنَحيا، لننتقل من حالة الموت إلى حالة الحياة، من حالة التشرذُم إلى حالة الأُمَّة الحيَّة الملتحمة.
أثر روح القرآن في “الإنسان النوع”
وإذا كان الميت لا حَول له ولا طَول، فإن الحَيَّ على قدر نوعية كينونته تكون تأثيراته في الكون. والإنسان طراز خاصّ من المخلوقات، ويُشعِر بذلك أنه – عزّ وجل – استخلفه في أرضه (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة:30)، وأنه تعالى أَسْجَدَ له ملائكتَه وجعلهم حَفَظة له، وسَخّر له كل ما سواه: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)(لقمان:20). فهو مخلوق من طراز خاصّ، ذو قدرات عالية جدًّا. ومن لفظ الخليفة، نشعر بتكامل الأجيال الذي شرحته آيات كثيرة، منها:(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)(الأنعام:133). فـ”الخليفة” من معانيها: الكائنُ الذي يَخلُف بعضه بعضًا، أي الخلافة المادية العادية نتيجة الكبير الذي يموت والصغير الذي يأتي، والخلافة في تداوُل أمر الدنيا والسيادة على الدنيا كما قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: “إن الدنيا حُلْوة خَضِرة، وإِن الله مُستخلِفُكم فيها فينظرُ كيف تعملون” (رواه مسلم). وبهذا الامتداد في الخلافة يستطيع الإنسان أن يُنجِز أشياء عظيمة لا تخطر على بال، والأجيال اللاحقة تُنجِز أشياء لم تكُن تخطر قَطّ على خاطر الأجيال السابقة، وبتكامل الأجيال من لدن آدم – عليه السلام – حتى قيام الساعة، تتمُّ رسالة الإنسان -فعلاً- على وجه الأرض، وتتمّ الخلافة، وتؤَدَّى الخلافة. فالإنسان نوع يخلُف بعضه بعضًا، وإن الذي استُخلف في الأرض ليس هو آدم وحده، وإنما جنس آدم، وهو المستخلَف حَسَب نظام الاستخلاف، وهذا يقتضي تراكُم هذه المعرفة، وتكامُل العلم الإنساني الذي أصله من الله – عزّ وجل – لا من سواه. فما مِن علمٍ يدور في هذا الكون على يد هذا الإنسان -كافرًا كان أو مؤمنًا- إلا أصْلُه من الله – عزّ وجل -، من الهدى النازل من عنده جلَّ ذِكرُه، ومن الهدى المودَع في الإنسان الذي تشير إليه الآية:(أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(طه:50)، والله هو الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم -بالوحي وبغير الوحي- وإن كان العلم الذي جاء به الوحي هو علم العلمِ، لأنه علمُ الميزانِ:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط)(الحديد:25).
كيف تَحل فينا “رُوح” القرآن؟
فهذه الرُّوح ينبغي أن نجتهد في أن نُحِلَّها فينا، ولا يكون ذلك إلا بالإقبال على كتاب الله – عزّ وجل – تلاوةً وفهمًا وعملاً وتبليغًا، لأن نجاة الإنسان -كلِّ إنسان- لا سبيل إليها إلا إذا قام بهذه الوظائف الأربع: (وَالْعَصْر * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)(العصر:1-2)؛ خُسر دائم مستمرّ، ينزل دائمًا تحت “خُلِقَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ”، ثم رَدُّه الله إلى أسفل سافلين، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر)(العصر:3). إذا قام الناس فقط بواحدة (آمَنُوا)، ولكن لم يعملوا الصالحات ولم يتواصَوْا بالحَقِّ ولم يتواصوا بالصبر، فلن يَنْجُوا من الخسران أبدًا… فالآية ترفض ذلك ولا تقبل به، والواقع كذلك يرفضه. إن الإنسان إذا لم يتحول إلى عنصر مُشعٍّ وإلى نَبْع فَيَّاض، فإنه حتمًا سيُدَنَّس في يوم ما، حتمًا سيُمكن للنجاسة أن تستقرّ فيه بصورة من الصُّور. لكن إذا كان باستمرار يرسل الخير، يفيض منه الخير، يدعو إلى الخير، يفعل الخير، فإنه يصير غير قابل لاستقبال الشَّرِّ، لأن القابلية فيه تنعدم، لأنه مشغول -باستمرار- بدفع الخير إلى الغير. إنه كالماء إذا لم يتحرك أسِنَ ونَتِن، أما إذا كان يجري فإنه يَطْهر، والمؤمن إذا ظلّ فقط يؤمن ويعمل الصالحات في عمومها، ولم يُوصِ بالحق ولم يبلّغ الحق ويتحمَّل تكاليف تبليغه، فإنه لا يكون جاريًا، ولا يكون كالماء الجاري طاهرًا، لذلك لا بد ممَّا ليس منه بُدٌّ.
أمة “الشهادة” على الناس
نحن أُمَّةٌ ليست كالأُمَم، نحن أُمَّة من طراز خاصّ، الله أخرجها: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ)(آل عمران:110)، ولم يقُل “خَرجت للناس” ولكن قال (أُخْرِجَتْ)، هناك مَن أخرجها ولم تَخرج لذاتها، ثم إنها أُخرجَت للناس، فهي بطبيعتها إذن أُمَّة الدعوة. لذلك رأى بعض علماء الاجتماع المسلمين أنه ينبغي أن يضاف في تعريف المسلم أنه داعية. فحينما نقول “المسلم”، فمعناه هو ذلك الإنسان المؤمن بالله الداعي إليه، لأن صفة الإسلام مرتبطة في صميمها -من حيث التطبيق التاريخي ومن حيث واقع النصوص- بالدعوة إلى الله – عزّ وجل -. نحن أُمَّة الشَّهادة على الناس:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْر)(الحج:77)، هذه ممهِّدات، (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ)(الحج:78). هنا دخلنا، والجهاد يَبْتدئُ -أولُ ما يَبْتدئُ- بجهاد الدعوة: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)(الفرقان:52)، أيْ بـ”القرآن” (جِهَادًا كَبِيرًا)، ها هنا يبتدئ الأمر، (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ) حتى ذروة السَّنام،(هُوَ اجْتَبَاكُمْ) فهذه نقطة الإخراج، هو الذي اختاركم اختيارًا لهذا الدِّين. وفعلاً هل آمن أحد مِنَّا أو اهتدى إلى الإيمان بمحض عمله؟ أيَّ نعمةٍ أسلَفَ قبل أن يكون مؤمنًا فيستحقّ بها نعمة الإيمان؟ جميع من آمن، آمن بمحض تَفضُّل الله – عزّ وجل – ورحمته، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما استحَقُّوا ما استحقوا بمحض فضل الله – عزّ وجل – ورحمته: (وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى)(الضحى:7)، (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)(البقرة:198). فبمحض الرحمة الخالصة كان هذا الإيمان وكان هذا الخير على كل أحد، (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا)(الحج:78)، وهذا هو المقصود: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، ما الوظيفة؟ هي وظيفة رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- نفسها، هي وظيفة أتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ، (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا)(النساء:41)، وأنتم أيضًا (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)(البقرة:143)، وكلُّ جيل يَشهد على الجيل الذي يليه، وكلٌّ حَسَب مستواه، فالأعلَم الأكثر حظًّا من ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو الأكثر شهادة.
أحد علماء الاجتماع المسلمين في هذا العصر، أدخل هذه الصفة، أي “صفة الدعوة” في تعريف المسلم نفسِه، وأنه لا يكون مسلمًا على الحقيقة حتى يكون مبلِّغًا لهذا الخير، متحمِّلاً في سبيله ما كَتب الله له، لذلك يجب على كل واحد منّا، وعلى المسلمين جميعًا، أن يجتهدوا في إشاعة هذا الخير لتحُلَّ هذه الرُّوح أيضًا في سِواهم، ولتحُلّ في كل المسلمين بإذن الله تعالى، فيَصيروا بذلك في وضع جديد هو الوضع الذي نحلم به جميعًا، وهو أن نصير جميعًا -من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها- أُمَّة واحدة كما أراد الله لنا، ولن نصير كذلك إلا بالرُّوح الواحدة التي تجمعنا، روح القرآن التي يجب أن تحُلّ في الأفراد وفي المجموعات والأقطار، ولتحُلّ بعدُ في الجسم كله.
ضرورة فهم “رسالة” القرآن
إذا شعرنا بذلك تمام الشعور، فإن الواجب يتجه أولاً إلى تَفهيم المراد بهذا الدين وبهذا القرآن، ذلك بأن القرآن رسالة مرسَلة على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يُبلغها إلى الناس: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)(الأنعام:19). هذه الرسالة آتية من رب الناس، ملك الناس، إلـه الناس… وإذا لم نعرف هذه الرسالة ولم نقرأها كلها، فكيف سنفهم المراد؟ فكيف سنطبق المراد؟ وكيف سيحصل لنا المراد من المراد؟ وإذا اكتفينا بقراءة هذه الرسالة ولم نفهمها حصل إشكال كبير. لذا يجب أن نقرأ ونفهم، لأننا إذا لم نفهم المراد فكيف سنجيب عن المراد يوم لقاء الله – عزّ وجل -، وكيف نستطيع في هذه الحياة الدنيا أن نستفيد من هذا المراد؟ لأن الله – عزّ وجل – أَرسل هذا الخير لإسعاد البشرية، وليحيا الناس حياة طيبة ليصيروا طيبين: (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِين)(النحل:32)، طابوا مَطعمًا، ومَشربًا، وتعبيرًا، وتفكيرًا، وأعمالاً، وأحوالاً حتى صاروا طيّبين فيقال لهم: (سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ)(الزمر:73)؛ طبتم في الدنيا فادخلوا إلى الدار الطيِّبة لتتمتعوا بالطيّبات الأخروية، ادخلوا إلى دار السلام: (سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)(الزمر:73).
وجوب معرفة “العربية” لفهم القرآن
إذا لم نفهم المراد من هذه الرسالة فلن نستطيع الاستفادة منها، وهذا يُوجِب على كل مسلم أن يعرف لسان القرآن لأنه نزل (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(الشعراء:195)، وأي حيلولة بين المسلمين ومعرفة هذا اللسان وإتقانه لمعرفة المراد من القرآن، يُعتبر جريمةً كبرى ومنكرًا كُبَّارًا. فعلى المسلمين أن يُحسُّوا بهذا الأمر الإحساس الذي ينبغي له، فيجتهدوا في تعلُّم هذه العربية وتعليمها وتذويق الناس أسرارها، لأنها المدخل الأساسي لمعرفة كتاب الله – عزّ وجل -.
واجب وزارات التعليم في العالم الإسلامي
وها هنا يَعظُم واجب وزارات التعليم في العالم الإسلامي، وتَعظُم مسؤولية المؤسَّسات التعليمية، وتَعظُم مسؤولية رجال التعليم، وتَعظُم مسؤولية المشرِّعين للتعليم والمنفِّذين له، وتَعظُم المسؤوليات بصفة عامَّة. وإنه لَواجب أيُّما واجبٍ أن يُجتهد فعلاً في الإلحاح على جعل هذا التعليم قرآنيًّا، ينطلق أولاً من القرآن: يُعلَّم القرآن، يُحفَّظ القرآن، يُفهَّم القرآن، يُحرَص على أن يُسبَك هؤلاء الأطفال الذين فُطِروا على الإسلام على مراد القرآن، أن يُسبَكوا على مضمون القرآن، كُلٌّ يفعل من ذلك ما يُطِيق ويدفع في هذا الاتجاه بما يُطِيق، لأن فهم المراد من القرآن هو السبيل إلى تطبيق القرآن، وتطبيق القرآن هو الهدف من إنزال القرآن، إذا لم يُفهَم القرآن ولم يُعمَل بالقرآن فكيف تتصوَّر الاستفادة من القرآن؟ إن مَثَل ذلك كمَثَل شخص جاءك يطلب أن تدلَّه على مكان بعينه، فدَللتَه دلالة دقيقة، ورسمتَ له مصوِّرًا الطريق الموصِّل رسمًا دقيقًا جدًّا، ولكنه بدلاً من أن يتبع ذلك ليصل أعرض عنه، فهل يستفيد هذا الشخص؟ لا، مستحيلٌ أن تصل إليه نتائج ذلك الإرشاد وتلك الدلالة. فالقرآن هُدًى فعلاً لمن اتبعه: (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ)(المائدة:16)، أما من لم يتَّبع فلا سبيل له إليه. لذلك يجب إزالة هذه الحواجز الكثيرة المتراكمة بيننا وبين القرآن: حاجز اللغة، وحاجز القراءة، وحاجز الفهم، وحاجز التطبيق… كما ينبغي إزاحة الصوارف التي هي ضروب من العوائق. إن الصوارف عن تطبيق القرآن هي موانع من تطبيق القرآن، فالمُلهِيات بجميع أشكالها تُلهِي عن القرآن: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(لقمان:6)، هناك من يشتري “لَهْوَ الْحَدِيثِ”، ومن يصدِّره، ومن يوزِّعه، ومن يُنتِجه… وها هنا أيضًا تأتي مسؤولية وزارات الإعلام في العالم الإسلامي، وتأتي مسؤولية الجمعيات الناشرة للخير أو التي ينبغي أن تنشر الخير، ومسؤوليات مَن يحاضر ومَن ينتدي، ومِن كل موزِّعٍ للعلم وناشرٍ للثقافة.
الآثار المرجوَّة لـ”نفخ” روح القرآن في الأمة
بمثل هذه الجهود المتواصلة المتساندة المتكاملة، يمكن -إن شاء الله تعالى- أن تُنفَخ في هذه الأُمَّة روحُ القرآن، فإذا نُفِخَ فيها من رُوحه (القرآن) ظهرت فيها أمارات الحياة، ومن أمارات الحياة “الإحساس”، أي إحساس بعضها ببعض إحساسًا سليمًا، فإذا اشتكى منها مصرٌ أو قُطْرٌ، تَداعى له سائرُ الأمصار والأقطار بالعون والنُّصرة والتأييد، ولم يقُل قائل منهم: ما لنا ولكشمير وبيننا وبين الهند آلاف الكيلومترات؟ ما لنا ولأوزبكستان وهي في شمال الأرض ونحن في جنوبها؟ إن رُوح القرآن إذا نُفخَت في الأُمَّة أثمر فيها كلّ تلك الوظائف التي سبق الحديث عنها، وهي وظيفة الحياة، ووظيفة النور، ووظيفة الهداية، ووظيفة الخروج من الظلمات إلى النور، ووظيفة الشفاء، ووظيفة الرحمة… لذلك وجب أن نعمل على إزالة الحواجز بيننا وبين القرآن، وأن نجتهد في فهمه وتفْهيمه، وأن نجتهد قدرَ طاقتنا في مُصاحبة القرآن، هذه المصاحبة التي لا أجرؤ أن أسميها تفسيرًا، وإنما هي عِشْرة للقرآن وصُحْبة له.
(*) الأمين العام لمؤسسة البحوث والدرسات العلمية (مبدع) / المغرب.