النَّوم غريزة أو ظاهرة عجيبة في حياة الإنسان ومعظم المخلوقات، ومع ذلك فقد عجز العلماء عن إعطاء التفسير الدقيق لهذه الظاهرة، فالنَّوم أشبه ما يكون بحالة الموت من حيث انقطاع النائم عن العالم الخارجي المحسوس مع الفارق في بقاء الخلايا حية.
أظهرت دراسة حديثة لهيئة الإحصاء الكنَدية أن ربع الراشدين الكنَديين يعانون مشكلات في النَّوم، ويقدِّر الخبراء أن مئة مليون أمريكي لا يحصلون على كفايتهم من النَّوم. وفي ألمانيا أُجرِيَ استطلاع على ألف وخمسمئة شخص تتراوح سِنُّهم بين 18 و25 سنة من الشعب الألماني، فكانت النتائج أن نسبة تسعة عشر بالمئة من هذه الفئة العمرية يعانون اضطرابًا أثناء النَّوم، مِمَّا يجعلهم مُنهَكين خلال النهار، وأن ثلاثين في المئة يعانون مشكلات أقلّ خطورة في نومهم.
وكل يوم نطالع نصائح الاختصاصيين والخبراء الطِّبيين من أنحاء عديدة من العالم لأجل نوم هادئ عميق، من أهمِّها مساعدة الجسم على اكتساب نظام ثابت للنوم والاستيقاظ. والمعجز هنا عند الاطلاع على هذه النصائح، تَوافُقها مع تعليمات النَّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- وهديه. ولا شكّ أن التفات الطب النَّبويّ إلى أهمية النَّوم، يدلّ على حكمة بالغة وإلمام شامل بما يحفظ على الإنسان صحَّته وسعادته وقدراته الجسدية والعقلية والنفسية. فقد جاء في الحديث الشريف أنّ الأفضل أنْ ينام الإنسان على شقه الأيمن، فعن البراء بن عازب أن النَّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- قال: “إذا أتيتَ مضجعك فتوضأ وضوءَك للصلاة، ثم اضطجع على شِقِّك الأيمن” (رواه أبو داود). وقد أيَّد الطب حديث الرسولَ -صلّى الله عليه وسلم- حين اكتشف أن الحكمة من النَّوم على الجانب الأيمن ترجع إلى:
أن النَّوم على الجانب الأيمن، يمنع الضغط على المعدة ويساعدها على تفريغ محتوياتها، كما يسهِّل عمل القلب فيمنع ضغط المعدة والحجاب الحاجز عليه، وهذا ما يجعل بعض من ينامون على الجانب الأيسر يستيقظون فجأة من النَّوم وهم يُحِسُّون كأن قلوبهم توشك أن تتوقف عن العمل، وسبب الإحساس في الغالب هو امتلاء المعدة.
ولا يفوتنا كذلك أن كثرة الغازات في المعدة قد تؤدِّي إلى الإحساس نفسه بسبب الضغط على الحجاب الحاجز ومن ثَمَّ على القلب.
وقد أثبتت التجارب التي أجراها عديد من أطباء الغرب، أن مرور الطعام من المعدة إلى الأمعاء، يتمّ في مدة تتراوح بين ساعتين ونصف، وأربع ساعات ونصف، إذا كان النائم على الجانب الأيمن، ولا يتم ذلك إلا في مدة تتراوح بين خمس ساعات وثماني ساعات (أي نحو ضعف المدة) إذا كان النائم على الجانب الأيسر.
كما أثبتت التجارب أن النَّوم على الجانب الأيسر، يجعل الرئة اليمنى تضغط على القلب وتقلل نشاطه. والرئة اليمنى -كما هو معلوم- أكبر من الرئة اليسرى، إلى جانب كون الكبِد التي هي أثقل الأحشاء معلَّقةً عند الاستلقاء على الجانب الأيسر. هذا بعينه ما دعت إليه السنة النَّبويَّة في هدي الرسول -صلّى الله عليه وسلم-.
كما أكدت الدراسات الطبية الحديثة أن أردأ أنواع النَّوم هو النَّوم على الظّهر أو بعد تناول الطعام، إذ إن امتلاء المعدة بالطعام يضغط على الشرايين والأوردة، وبهذا يعرقل وصول الدم من هذه المناطق إلى القلب، مِمَّا يقلِّل كمية الدم الواصلة إلى المخ، لهذا تكثر الأحلام المزعجة أثناء النَّوم على الظهر بعد الأكل مباشرة.
ومن هدْيِه -صلّى الله عليه وسلم- نهْيُه عن النَّوم في الشمس، والدراسات الحديثة، أكدت أن النَّوم في الشمس يؤدِّي إلى الإصابة بأمراض الجوِّ الحارِّ المعروفة، وهي الإنهاك الحراري، والانهيار الحراري، وضربة الشمس، وتقلُّص العضلات المؤلم، والإصابة بسرطان الجلد في الأماكن المكشوفة نتيجة الإشعاع.
النَّوم في التُّراث العربي
عرَّف الأطباء العرب النَّوم بأنه رجوع الحواسِّ عن الحركة، وسكون النفس وانقباضها مع الحرارة الغريزية من الدماغ إلى داخل الجوف، وبخارات معتدلة تصعد من الجوف إلى الدماغ.
وعندهم أن النَّوم يُرطِّب البدن ويسكِّن الإعياء والقلق، وقد وضع قسطا بن لوقا كتابًا فيه: هذا هو النَّوم الطبيعي، أما السهر فيجفِّف وينحِّف ويضرّ بالدماغ جدًّا، حتى إنه ربما خلط العقل وجلب الأمراض الحادَّة. ولم يكتفِ الأطبَّاء العرب بهذا، بل درسوا أشكال النَّوم، مثل النَّوم على القفا -الظهر- أو على اليمين والشمال أو الوجه، وبَيَّنُوا متى يُستحَبُّ النَّوم ومتى لا يُستحَبّ، وقد سماها ابن سينا “موجبات النَّوم واليقظة وأثرها على جسم الإنسان”، وكانت القاعدة العامة في هذا أن من رغب الصحَّة فعليه أن يقوم من فراشه في السُّبع الأخير من الليل.
يقول الماوردي عن الراحة والنَّوم في كتابه “أدب الدنيا والدين”: “واعلم أن للنفس حالتين: حالة استراحة إن حرمْتَها إياها كلَّت، وحالة تصرُّف إن أرَحْتَها فيها تَخَلَّت.. فالأَوْلى بالإنسان تقدير حالَيه: حال نومه ودَعَته، وحال تصرُّفه ويقظته، فإن لهما قدرًا محدودًا، وزمانًا مخصوصًا، يضرُّ بالنفس مجاوزة أحدهما وتغيُّر زمانهما. فقد رُوي عن النَّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- أنه قال: “نومة الصبحة مُعجِزة منفخة مكسلة مورمة مفشلة منسأة للحاجة”. وقال عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: النَّوم ثلاثة “نوم خرق وهي الصبحة، ونوم خلق وهي القائلة، ونوم حمق وهو العشى”. وقد روى محمد بن يزداد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: “نوم الضحى خرق، والقيلولة خلق، ونوم العشى حمق”. وقيل في منثور الحكم: “مَن لَزِمَ الرُّقاد، عَدِمَ المُرَاد فإذا أعطى النفس حقَّها من النَّوم والدَّعة، واستوفى حقه بالتصرُّف واليقظة، خَلُص بالاستراحة من عجزها وكلالها، وسَلِم بالرياضة من بلادتها وفسادها”. وحُكِيَ أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه فوجده نائمًا، فقال: “يا أبتِ، أتنام والناس بالباب؟ فقال يا بُنَيَّ، نفسي مطيَّتي، وأكره أن أُتعِبَها، فلا تقوم بي”.
وينبغي أن يقسم حالة تصرُّفه ويقظته على المهمّ من حاجاته، فإن حاجة الإنسان لازمة، والزمان يقرّ عن استيعاب المهمّ، فكيف به إن تجاوز إلى ما ليس بمُهِمّ، هل يكون إلا كتاركةٍ بيضَها بالعراء، ومُلبِسةٍ بَيضَ أُخرَى جناحًا.
وعَدُّوا للنوم فوائد، منها سكون الجوارح وراحتها مِمَّا يَعْرِض لها من التعب فيريح الحواسّ من نَصَب اليقظة، ويُزِيل الإعياء والكلال، ويخلِّص الجسم من السموم المتراكمة فيه. ونصَحُوا المريض بالنَّوم، بخاصة في الأمراض العارضة كالضَّعف والحُمَّى.
وفي الطب الحديث، النَّوم أحد الوظائف البيولوجية المعقَّدة التي تختلف اختلافًا بيِّنًا بين الأشخاص، فهو حاجة وظيفية فسيولوجية مُلِحَّة، فنحن نقضي ثلث عمرنا نائمين. والنَّوم أيضًا ظاهرة دماغية، أي إنه ضرورة للدماغ -ذلك الحاسوب- الخارق الفريد الذي نطل به على العالم عبر نوافذ العين والأذن والأنف واللمس والتذوق.
وتقول عن النَّوم دائرةُ معارف الكتاب العالمي: النَّوم أكثر من مجرَّد فترة راحة، ففي أثناء النَّوم تحدث تغيُّرات في الجسم تؤثِّر في جهاز المناعة، فقد اكتشف العلماء ارتباطًا واضحًا بين استجابة جهاز المناعة والنَّوم العميق، والنَّوم يقدم فرصة لأجزاء الجسم كي تسترخي مُبطِلةً مفعول الاستهلاك من النشاط اليومي، ومن أكثر وظائف النَّوم أهميةً السماحُ للجهاز العصبي بأن يتعافى بسبب استعماله خلال النهار.
مَضَارُّ عدم النَّوم
إذا لم ينَم الإنسان ظهرَت عليه علامات الإعياء والتعب، وتضاءلت كمية عمله ونوعه ودقته وقَلَّ تركيزه، كما ينقص وزنه، لأنه لم تُتَح الفرصة للجسم لكي يُعيد ما استُهلك منه في أثناء العمل اليومي، وقد يُصاب الإنسان في النهاية بحاله نفسية سيِّئة قد تصل به إلى الجنون.
كم وكيف ينام الإنسان؟
إن النَّوم الهنيء ضروري للإنسان، والنوع هنا أهمُّ من الكَمّ، فالنَّوم بين 6 و8 ساعات عميقة متواصلة خير من النَّوم المتقطع المزعج، والنَّوم ليلاً هو الطبيعي المفيد صحِّيًّا، مع أننا نرى البعض يقلب نهاره ليلاً وليله نهارًا. فالنَّوم في عتمة الليل مُرِيح، بينما ضوء النهار يؤثِّر على الدماغ والغدد الصنوبرية، ويجعل نومنا قلقًا وحياتنا جحيمًا. يقول الحق في كتابه العزيز: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا الليل لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا)(النبأ:9-11).
(*) باحث في التراث العربي والإسلامي/ مصر.