لا شك أن العلماء هم شموع هذه الأمة، الذين لا يُعرف قدرهم إلا حين يُفتقدون أو في الليالي الظلماء التي فيها يُفتقد النظر. وما أشبه هذا الزمان بتلك الليالي لما يشوبه من ظلامية في الرؤى حول حقيقة الحق ومزاعم الباطل. فلولا وجود رجال حملوا على هدأة من حمّى الأحداث همّ الخدمة، لَما رأت إنسانية الإنسان فيه النور ولَما وجدت من يعيد وضع قاطرة الفكر على مسارها الصحيح حتى يُستبان الحق فيه من الباطل.
أولئك هم الشموس والمصابيح الذين بأنوارهم تنورت المفاهيم، فسلكت المسار الكوني القائم على الموازين العلمية الموصلة إلى الكشف عن الثوابت اليقينية. والنموذج في شخص عالم هذا الجيل، الأستاذ فتح الله كولن -وهو أحد هؤلاء الرجال الذين سخّرهم الله لخدمة هذه الأمة- الذي استطاع بنورانية علمه أن يضع لبنات التأسيس لمدرسة فكرية تتكامل فيها عناصر الواقع والعقل والوحي تكاملاً يذكر بذلك الماضي المشرق للأمة الذي كان فيه الفقيه عالِمًا والعالِم فقيهًا. ذلك الماضي الذي باستقامة فكر علمائه على درب الاستقامة الكونية استقامت العلوم، فأشعت بنورها على القارات الثلاث مشيّدة لحضارة شكلت مهد بناء النهضة العلمية الحديثة.
ومن هنا حق علينا تقديرًا لروح الأمانة التي نحملها إزاء ما ينبغي أن نشيد به من جهود علمائنا الأجلاّء، خدام هذه الأمة الأوفياء، أن نعرّف بقدر هؤلاء الرجال لإظهار آثار تجلياتهم النورانية على استنهاض الهمم في بناء فكر الحضارة الإنسانية.
القرآن الكريم الذي كان الشهادة العظمى في رؤى أستاذنا الجليل من خلال ما حمله من نفحات العشق والإثارة في كيانه هو على خلاف العلم البشري يخاطب الناس عن طريق ضرب الأمثال مصداقًا لقوله -عز وجل-: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ)(العنكبوت:43). وهذه الأمثال التي تنطوي على معاني علمية عميقة..
فلقد سَرَّ اهتمامي الشخصي بالغ السّرور بأفكار فتح الله كولن وبرؤاه التي جعلتني أعيش فترات من المتعة العلمية(1)، أحسستُ من خلالها أنني أمام شخص يتمتع بروحانية عالية وقوة هائلة على العطاء والإلهام. ذلك أنني كنت كلما أنجزت موضوعًا فكريًّا أو بحثًا علميًّا إلا ووجدت نفسي في لب مدرسته الفكرية وكأنني في صلب رؤاه الآفاقية يستوعبني نهجه التجديدي في إقامة أسس العمارة وتشييد صرح الحضارة. فكنت وأنا أطالع لهذا العالِم في بحور ما ألّفه من درر ونفائس، لا أجده يحيد أبدًا عن مبدأ الربط بين العقل والقلب، محاولاً دائمًا إيصال الإنسان بالكون ليذيب فيه وحدته الداخلية ويؤنسه بمعية الحق متى أوحشته العوالم الخارجية. فكنت أجد في نظرته للكون استنهاضًا لهمة التفكر التي هي أعظم باب يدخل منه الإنسان على الله. ذلك أنه من خلال نظرته هذه أَسّس لمدرسة فكرية عنوانها التفكر في حقيقة كل شيء، من خلال شحذ عزيمة البحث الرزين المنبني على مطالعة الكون وقراءة الأنفس من منطلق إيماني صرف.
فلم يكن يجِد نعيمه إلا في الشقاء بعقله والقلم، حتى علا بنورانية فكره إلى أعلى القمم، فأصبح يشكل مصدر إلهام لكثير من المتطلعين إلى بناء ذلك المجتمع المثالي الذي فيه يكمل الإنسان بكمال فكره، وفيه يستقيم باستقامة علمه. ذلك أن الأستاذ استطاع بنبرة فكره المستوحاة من الكتاب والسنة أن يضع لبنات التأسيس لمدرسة تندمج فيها المنظومة العلمية مع القيم الأخلاقية، لتهيئ البيئة الصالحة، لتبلور رؤية الإسلام الوسطية المنخرطة بشكل حيوي مع الحداثة العالمية. تلك الرؤية التي من خلال الفهم المتبادل والاحترام المتواصل، يستطيع الفرد المسلم بالحجة والإقناع، جعل الآخرين يقبلون بأفكاره ويتفاعلون مع أساليبه. وتلك أسس بناء الفكر الحضاري.
فالعصر الذي نحن فيه، له من المعوقات ما إن تداعياته لتستدعي منا نضجًا علميًّا فائقًا، ورشدًا فكريًّا لائقًا بمستجدات هذا الزمان الذي نرى حاجة الإنسان فيه إلى إنسانيته أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى. وهذا أجده تجلى على عدة مستويات في فكر الأستاذ فتح الله كولن، الذي بتحديثه المداركَ في فهم القرآن وبتأصيله لعلاقة التفاعل بين العلم والإيمان، وببحوثه المقاصدية في ترشيد فكر الإنسان، قدّم نماذج راقية لانبعاث روح الاجتهاد والتجديد وتوجيهات نيرة لبناء فكر علمي رشيد. فلا يسعني إلا أن أقف وقفة إجلال وتقدير لهذا العالم الذي يحمل همّ أمة، كالشمعة تحترق لتنير الطريق للبشر، وكالشجرة تشقى لتمد الغير بالظل والثمر. هذا العالِم الذي برؤيته المنسجمة مع موازين الكون المؤسِّسة لمدرسته الكبرى التي عنوانها البناء الحضاري، ألهم الكثير من الباحثين بتحليلاته المعمقة، وأيقنهم أن المعرفة التي لا تحمل همّ العشق العلمي لا يمكن لها أن تُسهم في البناء الحضاري المنشود.
ففي مدرسة هذا المفكر التقي الورع النقي، نقرأ في صفحات منظومته الفكرية تجليات حلّق بها في سماء اليقينيات العلمية من خلال نظراته الاستشرافية التي كانت مفاتيح لأغلاق حيّرت -وما تزال- عقول الأجيال الباحثة عن مكانتها المفقودة بين الأمم. بحيث إذا تأملنا في رؤيته للمسار الذي يجب أن تكون عليه التجربة العلمية لهذا الجيل، نجد أنه يحث بكل قواه على مبدأ الربط بين العلم والإيمان لا لشيء إلا لكون الصلة بين العلم والدين هي صلة جديدة قديمة تربط بين موضوعين أزليين قدر الحق سبحانه أن لا فراق بينهما بدليل الآيات. ومهما حاول الإنسان أن يفصل بينهما، لم يزده فعله إلا خروجًا عن الطريق الصحيح، وتضييعًا للأمانة التي حملها، لأنه كما يتبيّن من خلال استقرائنا لتجربته الفكرية، أن العلم الذي يكتسبه الإنسان لابد -إن هو سلمت فطرته- أن يلتقي مع الدين فيكون ثروة للدين. لكن إن هو ضعفت فطرته، فإن علمه قد يتعارض مع الدين فيكون ثورة عليه.
ومن هنا تظهر نظرة الأستاذ فتح الله كولن بخصوص آثار الفطرة السليمة على سلامة مسار العلوم التي يجب أن تستقيم باستقامة الإنسان. من أجل ذلك نجده يركز في كثير من محطاته الفكرية على الربط بين العقل والقلب، ذلك لأن الله جعل للإنسان من التناسق بين العقل والقلب، ما ينسجم تمامًا مع تناسق الكون والقرآن وهداه إلى هذا الانسجام بيقينيات علمية فصّلها له سبحانه في آيات قرآنية يتناسق سياقها مع تناسق علل الكون تناسقًا يجعل المتعامل مع كتاب الله -إنْ هو أقبل عليه بقراءة علمية متجددة- يصل إلى قناعات تمكّنه من إثبات صحة ما جاءت به العلوم المكتسبة من جهة، ثم توظيف الحقائق الثابتة لهذه العلوم في توسيع الفهم الصحيح لمعاني آيات الذكر الحكيم من جهة أخرى.
لا شك أن العلماء هم شموع هذه الأمة، الذين لا يُعرف قدرهم إلا حين يُفتقدون أو في الليالي الظلماء التي فيها يُفتقد النظر. وما أشبه هذا الزمان بتلك الليالي لما يشوبه من ظلامية في الرؤى حول حقيقة الحق ومزاعم الباطل. فلولا وجود رجال حملوا على هدأة من حمّى الأحداث همّ الخدمة، لَما رأت إنسانية الإنسان فيه النور ولَما وجدت من يعيد وضع قاطرة الفكر على مسارها الصحيح حتى يُستبان الحق فيه من الباطل.
فالقرآن الكريم الذي كان الشهادة العظمى في رؤى أستاذنا الجليل من خلال ما حمله من نفحات العشق والإثارة في كيانه هو على خلاف العلم البشري يخاطب الناس عن طريق ضرب الأمثال مصداقًا لقوله -عز وجل-: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ)(العنكبوت:43). وهذه الأمثال التي تنطوي على معاني علمية عميقة، غالبًا ما نجد الآيات الكونية تعرضها كفضاءات واسعة للتفكر والتدبر من خلال ما تحمله دلالاتها من مغاز علمية لا تنقطع عجائبها ولا تنقضي غاياتها. فهي وإنْ لم تأت بالتفصيل العلمي للظواهر التي تناولتها، إلا أنها رمزت إلى أسرارٍ تستبطنها، الإنسانُ مدعوٌّ إلى سبر أغوارها. فلا نجد في كتاب الله تفاصيل علم الأحياء، ولا ميكانيزمات فيزياء رفع السماء، ولا معادلات نصب الجبال، ولا آليات تسطيح الأرض، ولكن نجد فيه الدعوة صريحة إلى البحث في أسرارها، لا لشيء إلا لأنها تريد منك أيها الباحث الوصول إلى معرفة ما وراء كل ذلك، وهو الله – عز وجل-.
ومن هنا نجد الأستاذ فتح الله يتعامل مع القرآن تعامل العالِمين الذين عقلوا خطابه، محذّرًا الباحثين العلميين من أن يأخذوا نصوص الوحي فذة، ويحصروا معانيها في مفاهيم علمهم المخبري، حتى لا يُخضعوا كلام الوحي لبراهين العقل فيُحتج بالعلم على القرآن؛ لأن ما جاءت به هذه النصوص لا يمكن للعلم البشري أن يحصر معانيه في تصوراته العقلية. فالعلم الذي جاء به العقل، لا تخرج معاني كلماته عن محدودية ألفاظها، لكن علم القرآن هو أوسع من ذلك بكثير؛ إذ يخاطب الإنسان من خلال أمثال ورموز قد تبعد كل البعد عن التصانيف المتعارف عليها في المراجع العلمية. وعليه فإنْ نحن قرأنا نصوص الوحي قراءة لفظية فذة مجردة عن أبعادها الدلالية، فسنكون قد مررنا بجانبها مكبلين بمحدودية اللفظ. لكن إذا أخذناها من بُعدها التأملي الذي تضربه لنا الأمثال التي جاءت بها الآيات، فسنكون قد تحررنا معها من محدودية اللفظ إلى فضاء البحث والتفكر الذي يرمي إليه فكر الأستاذ كما رأينا، والذي يسطر كتابُ الله مجالاته بين بعدي الزمان والمكان. وهما البعدان اللذان عليهما يتأسس المختبر التجريبي الذي فيه تتم صياغة الفكر العلمي الموجِّه لمصير الإنسان، والذي يبقى دورُ العالِم فيه دورَ تدبير للحياة هو مسؤول عنه إلى يوم القيامة.
وهذا هو ما انطوت عليه تصورات الأستاذ فتح الله كولن في صياغة الفكر الحضاري، وهو ما قصد إحياءه في همة كل باحث في ميدان العلوم من خلال ما عرض في مختلف مؤلفاته من توجيهات وأفكار. فهو كان يرى في الكشف عن الحقائق الكونية وإظهار دلالاتها الإعجازية تعمقًا في الإيمان يمتد إلى المعرفة الحقيقية ومنها إلى المحبة فاللذائذِ الروحانية. فكان من كل ذلك، يهدف إلى رسم الطريق لكل سالك يطلب الرقي في سلّم الكمال، ذلك الكمال الذي من أجله خُلق الإنسان والذي كان -وما يزال- هدف الأستاذ الأسمى في مشروع الخدمة. فكان همّه الأكبر في هذا المشروع، استنهاض همّة العلم والمعرفة، إيمانًا منه بأن القرآن من خلال تذكيره بأن العلماء هم الذين يخشون الله حقًّا، إنما يقوم بتشويق الناس لتحصيل العلم. الشيء الذي جعله ينظر دائمًا إلى الدين نظرة عقلانية تتماشى ومستجدات العصر، بحيث كان يرى في الدين نصوصًا تجمع بين العقل والإذعان، أيْ كما تنقلك مما يلائم العقل والمنطق إلى ما يستوجب التسليم والإذعان، كذلك إذا انطلقت منها مما يستوجب التسليم والإذعان، فستصل بك حتمًا إلى ما يتوافق مع العقل والمنطق.
وهكذا، فكما حقّ علينا نحن معشر العاملين في حقل العلوم، المطلعين على أفكار هذا العالِم وتصوراته، أن نقف وقفة إجلال وتقدير لما قدّمه للعلم والمعرفة، كذلك حقّ لأهل بلده تركيا أن يُهنّئوا بهذا الرجل، مفخرةِ العصر الذي ألهم الأجيال بروحانيته العالية وإخلاصه للمبادئ الإنسانية، وفتح لهم الآفاق على العوالم النورانية بإجابته النيرة على أعقد الأسئلة المحيرة التي جاءت بكل صدق وأمانة وثقة ورزانة، مؤسِّسة لمعرفة غايتها صناعة الحياة اللائقة لهذا الجيل والأجيال اللاحقة.
(*) كلية العلوم، جامعة ابن طفيل / المغرب.
الهوامش
(1) آفاق اليقينيات العلمية.. من تجلّيات رؤى فتح الله كولن الاستشرافية، د. عبد الإله بن مصباح، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2013م.